(وقت القراءة: 9 - 17 دقائق)

 

بناءً على تعايشي الواقعي مع أبناء الطائفة الموسوية (وهو الاسم الذي أطلق مؤخراً وبشكل رسمي على اليهود في سوريا) ولفترة من الزمن قاربت سبع سنين متصلة، فقد توفرت لي أرضية خصبة من المعلومات حول حياة تلك الطائفة في المجتمع السوري. وتأتي هذه الدراسة لتعطي صورة واقعية عن حياتهم وتعايشهم مع أفراد الشعب السوري، بالإضافة إلى إظهار صورة تعامل المسلمين الراقي مع من سالمهم وتعايش معهم من أهل الكتاب. ولأن البحث الحالي هو بحث إثنوغرافي في طبيعته، فكان لا بد أن أمهد للتعريف بشخصيتي حتى يتسنى معرفة رؤيتي للموضوع وتحليلي للمعطيات.

تعريف شخصية الباحثة:

أنا مواطنة سورية مسلمة عشت وترعرت في مدينة اسمها النَّبِك تقع بين مدينتي دمشق وحمص تبعد، حوالي 80 كم عن مدينة دمشق باتجاه الشمال؛ ومعنى النبك باللغة العربية المكان المرتفع، وتعتبر أعلى منطقة جبلية بسوريا حيث تترتفع عن ســـــطح البحر حوالـــي 1500 م. وهي منطـــقة باردة جداً شـــــــتاءً صيفاً، وبعض أهالي المدينة يـــستوطنون منذ القديم في مدينة دمشـــــــق، ويسكنون في حي اســــمه حي اليــهود. ومنذ صغري واســـــم هذا الحي يتـــردد على مســــــامعي، وكنـــت أظـــن أن اســــــم الحي لا يدل بالضرورة على وجود اليهود. وبعد انتهاء مرحلة دراستي الثانوية، وانتقالي لمدينة دمشـــــــق لإكمال دراســــتي الجامعية، وفي هذه الحالة توجب علي السكن بمدينة دمشـــــق. وقع اختياري على حي اليهود للأســـباب التالية وكان ذلك عام 1988م:

-   أن الحي يقع وسط المدينة، وهو قريب من الجامعة والخدمات الأخرى.

-يسكن الحي مجموعة كبيرة من سكان مدينتي، وهذا يعطيني نوعاً من الراحة، و يخفف من شعور الغربة.

سكنت بالحي، وكنت سعيدةً جداً عندما استيقظ من نومي أســـمع أصوات الباعة ينادون على تسـويق منتجاتهم بأسلوب شـــعبي محبب، إما بوصف المنتج بأمثال شعبية مميزة (مثل خاين يا ترخون!) أو بأغنية جمــــــيلة. بالإضافة إلى سماعي أصواتاً تتردد يومياً، لا أفهم معانيها تأتي من أماكن معينة حاولت تفسيرها، لكن دون فائدة. بداية كنت أظن أن هذه الأصوات صلاة لنصارى دمشق، و كنت أتجنب طرح أي استفسار تجنباً لأي ردة فعل من أحد، أو فهم خاطئ لسؤالي، وعرفت بطريق المصادفة أن الحي يسكن فيه يهود سوريون منذ القدم. هنا أصابتني الدهشة وسألت نفسي هل الناس الذين يعيشون معي بالحي يهود يتكلمون العربية، ويمارسون حياتهم الاجتماعية والدينية بشكل طبيعي جداً ويتعايشون مع أفراد الحي بكل ود واحترام؛ ومن تلك اللحظة بدأت أتعرف على حياتهم، وعاداتــــــهم، وتقاليدهم ،ومعتقداتهم الدينية وبالإضافة إلى المهن التي يمارسونها. واستمر هذ التعامل بيني وبينهم فترة زمنية ليست قصيرة كانت متوجةً بالاحترام المتبادل. ومن هنا اكتسبت هذه الدراسة طبيعتها الإثنوغرافية. وهناك لغط في المصطلحات، حيث يخلط البعض كلمة يهودي بكلمة صهيوني؛ وترى الباحثة أن اليهود في سوريا يهود بالمعتقد، من دون أن يكونوا بالضرورة يؤمنون بالنظرية الصهيونية.

المحور الأول: نشأة اليهود الدمشقيين :

نظراً لموقعها الحيوي والهام في قلب الشرق القديم، فقد شكلت ســوريا عبر تاريخها موطناً لكثير من الشعوب والأقوام والثقافات والديانات واللغات، فهي بحق مهد الحضارة. أما دولة سوريا الحديثة، والتي تعتبر جزءاً من هذا العالم  بتركيبته السكانية والاجتماعية والثقافية فقد تشكلت في عشرينيات القرن الماضي. وتحتضن سوريا الحديثة اليوم الفئات الآتية:

- عرب يتوزعون على المسلمين السنة (وهم الأغلبية) وغيرهم كالدروز.

- نصارى يتوزعون على العديد من المذاهب والطوائف مثل الكلدان والسريان، وأقلية أرمنية.

- أقليات صغيرة من أتباع الديانات اليزيدية واليهودية.

للأقليات تحديداً جماعات تحاول أن تحافظ على هويتها من غير انفصال عن نسيج المجتمع السوري. فهي لديها شعور مشترك بالانتماء للجماعة، وتسعى للمحافظة على هذا الانتماء من حيث المحافظة على خصوصيات الجماعة العرقية والدينية والاجتماعية. ويهود سوريا، محور الدراسة الحالية، هم طائفة ليست طارئة على المجتمع السوري. وقد بدأ الاعتراف بوجود كيان لهذه الطائفة في عام 1932. وهم موزعون على 3 مدن: دمشق وحلب والقامشلي. ويهود دمشق، كسائر يهود سورية، يهود شرقيون سكنوا بحي من أحياء دمشق القديمة، ولا يختلف ذلك الحي عن باقي أحياء دمشق التي تحمل مزايا التصميم الدمشقي، لكن  تمييزت بيوت اليهود من خلال عبارات خطت باللغة العبرية فوق أبوابها، إضافة إلى  بناء فنادق خمس نجوم تحمل الطراز الدمشقي القديم. وكذلك يوجد في نفس الحي الذي يعيشون فيه عدد من الكنس المتميزة ببنائها وطرازها العبري القديم، والتي بنيت وسط  الحي حيث يمارسون فيها طقوسهم الدينية.

ويجدر بالذكر وجود كنيس قديم بني في منطقة جوبر القريبة من حيهم. وتعتبرالمعبد الأول لليهود على سطح الأرض كما لاحظت الباحثة من الكتابات الموجودة.

وتطورت حياة اليهود الدمشقيين تطوراً كبيراً من ناحية الزيادة السكانية، بحيث تزايد عددهم تزايداً واضحاً والنهضة العمرانية التي شهدت تطوراً عمرانياً مميزاً شملت البيوت والمحلات التجارية والكنس. وكانت من أشهر بيوتهم قصر يوسف أفندي عنبر في حي مأذنة الشحم بدمشق بشارع عنبر، وهو الثاني بعد قصر العظم من حيث المساحة والأناقة ودقة التصميم وما زال ليومنا هذا يعرف الحي باسم حي عنبر.

المحور الثاني:

1-   الحياة الدراسية:

تحدثوا ودرسوا بالعربية، وحفظوا توراتهم بالعبرية، وتعلموا الانجليزية والفرنسية وانتسبوا للمدارس والجامعات وعوملوا معاملة المواطنين السوريين، ونالوا جميع حقوقهم التعليمية وكان لهم مدرسة خاصة بأبناء الطائفة حيث أسسوا مدرسة عام 1935م اسمها مدرسة ابن ميمون المختلطة تقع وسط الحي تشرف عليها وزارة التربية بدمشق، ويعين مدير عليها من قبل الوزارة (تضم المراحل الدراسية من رياض الاطفال لنهاية المرحلة المتوسطة)وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الفيلسوف والطبيب اليهودي ابن ميمون. والطائفة بسوريا خلدت اسمه من خلال تسمية مدرستهم باسمه منذ تأسيسها. وتم تجديدها وبنائها بناءً حديثاً ومميزاً مؤلفة من عدة أدوار ومتوافرفيها أحدث التقنيات وكل ما يخدم الطالب والمعلم، وبعد الانتهاء من دراسة المرحلة  الثانوية يتابع الطالب دراسته الجامعية ويسمح لهم الدخول بجميع الكليات، وبكافة التخصصات المتوفرة بالجامعات في  جميع المدن السورية. وبعد تخرجهم ينطلقون لممارسة الحياة المهنية سواء عن طريق التوظيف داخل الأجهزة الحكومية، أو ممارسة الأعمال الحرة التابعة لتخصصاتهم سواء كانوا أطباء أو مهندسين أو صيادلة أو موظفين في المصارف والوزارات.

2- الحياة الاجتماعية:

لأبناء الطائفة حياة اجتماعية مميزة من حيث العادات والتقاليد حيث كانوا حريصين على ممارستها بتمسك شديد لتعزيز مفهوم الترابط الاجتماعي فيما بينهم. وكانت حياتهم طوال أيام الاسبوع حياة عملية، عدا يوم السبت الذي له طابع ديني واجتماعي مميز (حيث يتفرغون للصلاة والراحة). وحين سألتهم عن السبب كان الجواب بحسب اعتقادهم أن رب العالمين خلق الأرض والسماوات في سبعة أيام: (ستة منها عمل) والسابع كان راحة. وكان الاستعداد لاستقبال يوم السبت يبدأ من مساء يوم الخميس من ناحية إعداد للطعام الخاص، وتحضير الحلويات وترتيب البيت والقيام بالواجبات الاجتماعية والتجمعات الشبابية التي يطغى عليها جو الألفة والمحبة والتنافس بين الشباب والبنات من حيث الموضة والأناقة، علما بأنه كان لهذا اليوم  طابع ديني خاص يطبقونه بحزم بحيث لا يأكلون فيه اللحوم، أو أي نوع من أنواع مشتقات الحيوانات، أما في الأيام العادية كانوا يأكلون اللحوم والألبان ولكن لا يخلطونها في استخداماتهم حيث يخصصون أطباقاً لكل نوع من منتجات الحيوانات منها ما هو خاص للحوم وأخرى للألبان. وأيضاً كانوا حريصين جداً أن لا يشعلوا النارمن لحظة أذان المغرب يوم الجمعة إلى أذان المغرب يوم السبت حيث يعتقدون أن هذا اليوم للعبادة، ومحرم فيه القيام بأي عمل فيه (نار أو يولد طاقة أو  شرارة). وكنت أتعايش معهم بهذا اليوم بطريقة مختلفة عن أيام الأسبوع، أزورهم وأشاركهم مناسباتهم وألبي دعواتهم نخرج معاً إلى الأماكن والحدائق ونمضي أوقاتاً ترفيهية مميزة. وما يلفت نظري  بهذه الأجواء هو مبدأ الصراحة والحرية الاجتماعية التي يتمتع بها الشاب والفتاة، حيث تبدأ العلاقة بينهم بالتعرف على بعض، فإذا كان هناك قبول وتآلف تنشأ المحبة بينهم وتعلن بشكل عام وأبناء الطائفة الشباب والشابات من حقهم اختيار شريك حياتهم بأنفسهم وبكامل الحرية، ومنها أنهما يتفقان مع بعضهما على نمط حياتهم المستقبلية، حتى من ناحية قيمة المهر، والملفت للنظر هنا أن الفتاة هي التي  تدفع المهرللشاب وبقدر ما تكون غنية يكون مهر الزوج عالياً. ولحظة عقد القران يقوم الحام خام بسؤالها عن قيمة المبلغ الذي على الزوج أن يرده لها في حال تم طلاقلك،فما تطلبه وتنطق به أمام الحضور يسجل في عقد القران. والمستغرب أكثر أن العروس تطلب أضعاف مضاعفة عما دفعته وتعتبره ضماناً شرعياً لحقها. وكانوا حريصين جداً أن بناتهم تتزوج شبابهم من أبناء الطائفة السوريين. وفي حال عدم زواجها لعمرمعين يحاولون تأمين سفر لها لأمريكا بهدف الزواج خوفاً من فوات الأوان.

3- الحياة الدينية: 

 مارس اليهود الدمشقيون كامل حريتهم الدينية، ، ويذهبون إلى الكنيس في كل فروض صلواتهم والصلاة الجماعية الهامة صلاة الصبح يوم  السبت، بالإضافة إلى صلاة الجماعية في الأعياد، وأعيادهم تشمل أعياد الفصح، وعيد رأس السنة العبرية، ويوم الغفران، حيث يصومون عن الطعام والشراب 26 ساعة. يضاف لذلك أنهم كانوا يحيون ذكرى مناسبات دينية أخرى عندهم مثل نزول التوارة وكانوا يضعون القبعات على رؤوسهم، ولا يقيمون الصلاة أو يحفظون أو يرتلون التوراة إلا والقبعة على رؤوسهم كرمز ديني لهم. أما الصيام عندهم هو أحد أبرز المناسبات اليهودية الهامة، ويدعى يوم ( كيبور) ويعني بالترجمة للعربية (يوم التكفير عن الذنوب) هدفه تعذيب النفس من أجل التكفير عن ذنوب السنين السابقة، ويوم الكيبور يأتي بترتيب أعياد اليهود بعد عيد رأس السنة الميلادية مباشرة ،وينص على ما يلي :

- عدم ممارسة أي عمل بهذا اليوم. 

- امتناع  الفرد عن تناول الطعام،  خلال 25 ساعة تبدأ قبل غروب الشمس وتنتهي بعد حلول الليل على اليوم التالي. 

والشاب اليهودي  يتوجب عليه في عمر 14 سنة أن يلبس التفليم، وهي المرحلة التي يكون قد ختم فيها كتاب التوراة، وهذه مناسبة دينية كبيرة عنهم يحتفل فيها الأهل، وتعتبر أول فرحة للشاب أنه أصبح رجلاً ودخل في الدين، ومحاسب على أخطائه، وملتزم  بتطبيق تعاليم دينه. وتبقى الاحتفالات لهذه المناسبة على مدى أيام يوم يلبسه الحاخام تاج التفليم، يبدأ بأول يوم بقراءة ما حفظه أمام من التورارة أمام الخاحام، ويوم يحتفل به الأهل يكون  حفل عام يعم فيه الغناء والطرب تعبيراً عن فرحة الأهل بهذا اليوم ويتلقون التهاني والهدايا القيمة بهذه المناسبة. ومن المناسبات الدينية الهامة أيضاً الطهور (الذي يحتفل به بعد اليوم السابع من عمر المولود)، وتعتبر مناسبة دينية هامة يحتفلون بها بالكنيس حيث يقوم الحاخام بتطهريه يصلون صلواتهم، ويرتلون آيات معينة ويضعون الطفل المطهر بماء خاص وبطريقة معينة بهدف تطبيق تعاليم الدين بعد طهوره؛ بعدها تبدأ التهاني للأهل في البيت أو يقيمون حفلاً في إحدى قاعات الفنادق احتفالاً بهذه المناسبة، وحضرت العديد من هذه المناسبات. ومما لفت انتباهي مدى التزامهم بدقة تنظيم وترتيب وتطبيق لتعاليم دينهم في مناسباتهم كما فرضت عليهم بحسب اعتقادهم. وهذا إذا دل على شئ  فإنما يدل على تمسكهم بعقيدتهم الدينية.

سأتطرق الآن إلى موضوع هام جداً في حياتهم الدينية، وهو طريقة ذبح وأكل اللحوم وعلاقته بالمبدأ الديني لديهم:
 
·        تمسكهم بالمبدأ الديني في طريقة الذبح وتطبيق هذا المبدأ يتوجب عليهم وجود حاخاماً متخصصاً دينياً ومهنياً لهذا العمل، ولا يسمح لأي شخص آخر القيام به. ويمسى عندهم حاخام الذبح.

·        التأكد من صحة الشاة قبل دبحها . 

·        طريقة الذبح أن الروح  حيب معتقدهم يجب أن لا تعذب أثناء ذبحها، وإلا لم يحلل أكلها. 

وهذه الأسباب فرضت عليهم  تعيين حاخام خاص للذبح يجب أن يكون متخصصاً ومتدرباً وكان عددهم قليل جداً، والشاة لن يحلل أكلها لديهم إلا إذا ذبحت بطريقتهم، فلديهم حاخامات متخصصون بالذبح ويذبحون على مدى أيام، ويخزنون اللحوم خوفاً من طوارئ للحاخام تمنعه من الذبح. وأحياناً يستعان بالحاخام ليذبح لأبناء الطائفة بمدينة أخرى يخصص له يوم يذهب بها إلى أبناء الطائفة بمدينة أخرى يذبح لهم أيضاً لعدة أيام ثم يعود. وفي إحدى الجلسات مع حاخام الذبح وكان اسمه الحاخام جاك، لفت نظري أن اظفر إصبعه  الصغيرة طويلة جدا فسألته ما سبب ذلك، قال لي تساعدني على معرفة حدة الموس الخاص بالذبح من العقيدة عندنا أن يكون الموس حادا جداً أثناء القيام بعملية الذبح. وأردف قائلا أنه وقبل البدء بعملية الدبح  يبدأ بتمرير الظفر على الموس للتأكد من مدى سلامة الموس وحدته. فيجب أن يمر الظفر على الموس دون أي خدش لأن الروح المحلل أكلها يجب أن تقطع  قطعة واحدة؛ وفي حال الأزمات والمناسبات يستعان بالحاخامات من تركيا علماً أنه كان متوفر بالحي جزارون من أبناء الطائفة بأعداد تكفي الحي، ولكن لا يحق لهم الذبح وإنما البيع فقط. وجميع أهل الحي من كافة الأديان  يشترون اللحم من جزار يهودي نظراً لثقتهم الكبرى بأن اللحوم التي تباع نظيفة و خالية من الأمراض حيث كانوا يفحصون جميع الحيوانات التي يراد ذبحها ،وبختم طبي ولا تذبح عندهم أي حالة حيوان مرضية ،وبعد الذبح يقومون بفحصها للتأكد من خلوها من الأمراض وتختم بختم خاص لديهم  ،والمعروف أيضاً عنهم أن يهود الدمشقيون، كحال بقية اليهود، لا يأكلون لحم الخنزير. 

4- الحياة المهنية: 

عمل اليهود منذ نشأتهم بأعمال ومهن متعددة ،واشتهروا بالتجارة وأهمها (الألبسة – النحاس- الذهب)

1-    الألبسة:كانوا يعملون بهذه المهن، ويستقطبون عمالاً من غير اليهود وشهد الحي إقبالاً كبيراً من التجار من خارج سوريا من (أوربا وروسيا)، ومن داخل سوريا من (جميع المحافظات والمناطق) بهدف التسوق من إنتاج صناعاتهم المتميزة بجودتها الملحية، وتصاميمها الراقية، وخاصة الملابس والأقمشة. والأهم أن الطائفة تنتج بمصانعهم الخاصة، وتباع في محلاتهم الخاصة في الحي بالإضافة إلى المحلات الراقية في الأسواق الدمشقية الكبيرة (باب توما – منطقة الصالحة – الحمرا – الشعلان)، بالإضافة للأسواق الشعبية مثل سوق الحميدية ومدحت باشا. ولشدة الحركة التجارية بالحي أطلق عليه البعض اسم (تايوان)، فقد كان يزود السوق السورية بنصف احتياجاتها من الألبسة الجاهزة.


  2- الذهب: واشتهروا أيضاً بتجارة وصياغة الذهب. وكان تجار الذهب الكبار في سوريا معظمهم من أبناء الطائفة من سكان مدينتي دمشق وحلب. ويملك اليهود الدمشقيون محلات في مناطق مختلفة، والذهب عندهم له ميزة خاصة من ناحية (جمال التصميم الراقي والذوق الرفيع والتنوع في الأصناف). وكان معظم ذهبهم يصنع بمصانع خاصة مقرها مدينة حلب، ويوزع على كافة المدن السورية.

3- النقش:من أكثر المهن انتشاراً لديهم، وخصوصاً النقش على النحاس. وكانت مهنة متميزة في طريقة اتقانها وإبداع من يمارسها من ناحية مهارة النقش والرسم التاريخي والفن التراثي القديم، حيث يقومون بنقشه على النحاس وإخراجه بطريقة فنية رائعة. 

وتميزت مهنهم بخصائص كان لها أثرها الكبيرعلى الواقع الاقتصادي لديهم: 

 1- ما يميز اتقانهم للمهن الحرفية، ومحاولاتهم قدر الإمكان الحفاظ عليها ويحرصون حرصاً شديداً أن يعلموا أبناءهم مهنتهم لدرجة أصبحت المهن لديهم شبه متوارثة، وتشتهر بها عائلات وتنسب لها مثل بيت الصايغ وبيت النقشي، بهدف الحفاظ على الاسم التجاري في السوق، وضمان جودة الإنتاج. فالابن منذ صغره يقضي معظم وقت فراغه وخلال إجازة الصيف برفقة والده بمقر مهنته سواء محلاً أو مصنعاً أو متجراً ليتعلم حرفة والده منذ صغره ليكون قادراًعندما يصبح شاباًعلى قيادة نفسه وعمله القيادة المهنية الصحيحة من الناحية الإدارية والتجارية، ويصبح مؤهلاً للدخول في سوق العمل مستقبلاً. 

2- المهن التي ورد ذكرها كان لها دور كبير في انتعاش الحركة الاقتصادية. فالتنوع في أنواع المهن التجارية ساهمت في انتعاش واقعهم الاقتصادي، وأدت إلى رفع مستوى دخل الفرد، وبالتالي رفع مستوى المعيشة. وكانوا بحسب رأيي يتمتعون بمهارات عالية في النواحي التجارية، فيعرفون كيف يتاجرون وما هي السلع التي يتاجرون فيها بما يعود بالفائدة عليهم.


3- ازدهار الواقع الاقتصادي لعب دور كبير في مساعدة الشباب بدعم مشاريعهم لتحقيق طموحاتهم المهنية والعلمية، وذلك تم من خلال إنشاء صندوق خاص لتمويل الفئة الشبابية من أصحاب المشاريع ومساعدتهم لبناء قاعدة تجارية صحيحة لمشاريعهم ودخولهم بسوق العمل، بالإضافة إلى مساعدة المحتاجين من أبناء الطائفةوتوفير ما يلزم لهم من مسكن وملبس وتعليم، وراتب شهري  يلبي حاجاته وحاجات أبنائه، بهدف مساواتهم ولو بشكل بسيط بغيرهم، مراعين بذلك واقعهم الاجتماعي والمهني. وكانت فكرة الصندوق فكرة إيجابية جداً ساهمت في حل العديد من الصعوبات لدى الشباب وبعض العائلات بالإضافة إلى ما يتمتعون به من حرص على مصالح بعضهم البعض وتواضع بعضهم لبعض. وكنت أشعر أنهم فريق عمل واحد تقودهم عقيدتهم تحت مظلة رئيس الطائفة الحاخام. يضاف لذلك أن الذي أسهم في ازدهارهم خلال هذه الفترة هو تمتعهم بحقوق المواطنين السوريين وتمتوا بالمميزات الآتية : 

 1- التنقل داخل المدن السورية بحرية مطلقة، حيث تملكوا وسائل النقل مثلهم مثل أي مواطن سوري ويسافرون لأي بلد  خارج سورية وفق سياسة البلد وقوانيها.

2-منحهم البطاقة الشخصية السورية دون ذكر موسوي وإزالة الخط الأحمر عنها. 

3-حق التملك  (بيوت- عقارات- محلات- مخازن- متاجر- مصانع- أراضي- سيارات) 

4- حق التعليم من المراحل التأسيسة للدكتوراه، وبجميع التخصصات.

5- حق التوظيف داخل مظلة الحكومة.

6- الحرية الدينية وممارستها وتطبيقها دون أي منازع لهم بذلك .

7- الحقوق الصحية من ناحية العلاج بجميع مشافي وبكافة المحافظات .

 ورغم كل ما منح لهم وما تمتعوا به كان يتردد على ألسنتهم أنهم يحبون السفر والهجرة إلى أمريكا على رغم حبهم الشديد لسوريا وشعبها، ويشعرون أن سوريا بلدهم ومسقط رأسهم، ويعتبرون أنفسهم من فئة اليهود العرب. ويجدر بالذكر أن معظم ما حصلوا عليه من امتيازات كان خلال الفترة من سبعينيات القرن الميلادي حتى تاريخ صدور مرسوم منحهم حق السفر للولايات المتحدة الأمريكية عام 1992م. وتمتعوا خلال تلك الفترة بجميع الحقوق التي تم ذكرها، بحيث يصدق القول انهم عاشوا عصرهم الذهبي بكل مقوماته. 

المحور الثالث: 

واقع أبناء الطائفة الموسوية بسوريا من عام 1992-2012م

 غالبية أبناء الطائفة الذين هاجروا للولايات المتحدة الأمريكية يستوطنون في ضواحي جنوب بروكلن في الولايات المتحدة في منازل مفردة تقع ضمن منطقة تمتد مساحتها على بضعة أميال مربعة. وهذه المنطقة لا تشبه لا من قريب ولا من بعيد حارات اليهود العريقة في (دمشق- حلب- القامشلي). وأخذ يهود سوريا لنفسهم ضاحية من المنطقة، وإذا تدرجنا في شوارع جنوب بروكلن نشعر وكأننا بدمشق نسمعهم يدردشون بالعربية، ونجد الدكاكين تبيع كل السلع المعتادين على تناولها في دمشق أو بسوريا بشكل عام منها (قمر الدين- العدس- الفول- الزيت – السمن... إلخ). وهذا ما راوه لي أحد أفراد الطائفة خلال عودته لزيارة الحي في دمشق أحيائهم في دمشق عام 2009 والتي كانت حينها حتى تاريخه شبه خالية. ولكن ظل في دمشق من أفراد الطائفة حتى تاريخه ما لا يتجاوز 150 شخصا، حيث كانوا ولايزالون يقيمون بالحي  ويمارسون حياتهم الطبيعية. ولي صديقة اسمها راشيل قمعو ما زالت موجودة بدمشق ولم تعتزم السفر هي وأخوها ألبير وكل عام أسافر إلى دمشق وألتقى بها وأطمئن على أحوالها. تقول لي أنا خلقت وتربيت وعشت وسأموت في سوريا، ولن تفكر بالسفر أو الهجرة وأخوها ألبيريدير شؤون الأفراد الموجودين بدمشق ويدير شؤون الكنيس والمدرسة التي أصبحت مكان لاجتماع أبناء الطائفة المتبقين لإدارة شؤونهم دينياً ومالياً. وفي حال حاجتهم لحاخام  لمناسبة دينية يستعنون بأبناء الطائفة في تركيا. ويزور من أبناء الطائفة المهاجرين أعداد لا بأس بها سوريا بشكل عام ودمشق بشكل خاص، حيث التقيت معهم وسألتهم عن أوضاعهم هناك كان الرد شبه ثابت، وهو أن الكل يتمنى العودة ليستنشق هواء الشام وأصوات باعتها والعيش بزوايا بيوتها التاريخية.

المحور الرابع :

 أثر التعايش بين أبناء الطوائف على الطابع الشخصي والاجتماعي والديني.


أولاً- احترام الأقليات الغير مسلمة في المجتمع الاسلامي، ومنحهم حرية ممارسة حقوقهم الدينية والاجتماعية التعليمية والمهنية يعززمفهوم التعايش والتعاون بين أبناء جميع الطوائف. وحياة أبناء الطائفة اليهودية في سوريا أوضح دليل على ذلك.

ثانياً – مساهمة كل الطوائف في تطويرالحركة الاقتصادية الدينية والثقافية والعلمية لدى أبنائهم من خلال تبادل الأراء والخبرات بالإضافة إلى خلق جسر تواصل أخوي بين جميع الطوائف.

ثالثاً- اكتساب المعرفة الدينية وتعايشها بشكل واقعي بين أبناء الطوائف يعزز الروابط الاجتماعية ويمنحها طابع معين يؤثر على شخصيته، وأنا شخصياً أضاف لي:

1- المعرفة والثقافة الاجتماعية والدينية.

2- ساهم لدي في بناء جسراً للتواصل بيني وبين الأديان الأخرى واحترامها.

 3- منحني فرصة تعريف الأديان الأخرى  على ديني الإسلامي واحترامه من خلال التسامح الذي نظهره لهم. ومن صور التسامح  التي عشتها من خلال تعاملوهم معي الآتي:

 - كانوا خلال شهر رمضان المبارك يقيمون لي موائد الإفطار وينتظرون معي وقت أذان المغرب.

- قاموا بزيارتي في الأعياد والمناسبات الإسلامية وفي الحالات المرضية . وكانوا حريصيين جداًعلي  ويخافون  أن أصاب بأي أذى في حيهم.

-  كانوا من أول المشاركين لي فرحة زواجي بحضورهم الشخصي إلى بلدي، وقاموا بواجبهم اتجاهي، وتم إحضار ثوب زفافي هدية من إحدى العائلات  التي هاجرت ومقيمة حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى الهدايا والورود .وكان لذلك واقع طيب علي وعلى جميع الحاضرين.

 
- ويجدر بالذكر أن أسجل موقفا حصل لي مع أحد العائلات اليهودية في دمشق، وكان مفاجأة. فقد بادرت إحدى العائلات بمنحي بيتها قبل سفرها،  ليصبح ملكاً لي، وأعدت لي كل الأوراق التي تجعلني أملكه ليكون قانونياً مستقبلاً وفعلاً استلمته قبل سفرهم، وعشت به 3 سنوات (من عام 1993-1996)  قبل انتقالي للإقامة بدولة الكويت، وأنا مقيمة حالياً بالكويت. وما زال بعض أبناء الطائفة على صلة معي. والعام الماضي زارني بدمشق أحد أبناء العائلة صاحبة البيت، قصد زيارتي في البيت الذي نشأ فيه وعاش بين جدرانه. وكان سعيداً جدا تذكر أجمل أيام طفولته بغرفه الأثرية، علماً بأن بيوتهم تعتبر من أجمل البيوت فناً وعراقة؛ وقد شاهد شجرة النارنج والليمون التي ما زالت أوراقها خضراء وثمارها يانعة. وحينها شعر بأهمية خطوة والديه حين بدت لهم فكرة منحي البيت، وشعر أن هذه الفكرة جعلت البيت يحافظ على رونقه وجماله بحيث لا يصبح مصيره كمصير البيوت الأخرى التي بيعت أو تحولت إلى فنادق أوما زالت مهجورة ليومنا هذا. وصرح أنه كلما زار دمشق يشعر أن له بيت أخت يزورها ويطمئن عليها. والجميع يرسلون لي السلام  بشكل دائم ويسألون عني وعن أخباري.

وتمت دعوتي لزيارتهم في بروكلن لقد اتمست فترة تعايشي معهم بالطابع الاجتماعي  الأخوي تميزت بالاحترام وحب المبادرة والمساعدة حيث كنت أدرسهم قواعد اللغة العربية إذا احتاجوا لذلك التعليم، وذكر لي أنهم ما زالوا يستخدمون اللغة العربية ويتحدثون ويكتبون بها باللغة العربية، وحريصين جداً على عدم نسيانها.

وفي نهاية عرض تجربتي أقول للجميع، هذا التعايش أعتبره مرحلة جميلة وهامة جداً في حياتي وله أثره الإيجابي وأضاف لي الكثير، وأتمنى من أبناء جميع الطوائف والأديان التعامل مع بعضهم البعض باحترام وتسامح، ليكونوا حضاريين بسلوكياتهم وأخلاقياًتهم اقتداءً بالأنبياء والرسل، وأن يعم الأمن والأمان في جميع أنحاء العالم ويشمل كافة الأديان ليتعايشوا بمحبة وسلام .

||نبذة عن المؤلف||

نبهة طربوش

||بعض المقالات الأخرى للمؤلف||