(وقت القراءة: 2 - 4 دقائق)

 

هذه اللحظات تشهد أنّك ما تزال تحت ثقل اختبار قاسٍ، ليس بمقدورك أن تهرب منه إلى الظل البعيد! ولا أنْ تقبعَ في حجرة نائية تعيش وحدك كي يكون العذاب سراباً بالعزلة؛ لأنّك لا تقدر في هذه الساعة أن تعيش لنفسك فترصد من الهواء المتحرك عطراً زكياً تتنشقه وحدك، وتمنع غيرك من الاقتراب منه!

فلولا المشقة يا صاحبي، ساد الناس كلّهم، ولكنّ الجود يُفْقر والإقدام قتّالُ!!

 

ليس بإمكانك أن تحرك الأشياء فتجعلها تمرّ أمام ناظريك كما تلذّ لها عيناك، أو أن تجعل الأصوات تتشكلُ في نغمة دافئة تذوب في الحزن، فيخفق لها السمع، فلا يدخل فيه ما يزيدك حزناً. إني أراك في صراعٍ مع دقات الزمن، الذي يسير على هذه الشاكلة من الشدة والضيق، فلا يبعث في نفسك ضوءًا خافتًا تشعر من خلاله ببقايا حياة لأناس يتحركون.

ولكن مثلك في الناس كثير! قد نفذ إليهم الشقاء بأبشع صوره! تراهم في مكان يسافرون من أرض إلى أرض، ومن بحر إلى بحر، فلا يرون ما سعت إليه أقدامهم، ولا ما طمحت إليه نفوسهم، أو هربت إليه أفكارهم!

  هم كثير يا صاحِ، يُطارَدونَ في وطنهم، كما يطارد الداء العضال راحة الجسم! ويُمنعون من التنقل داخل حجرات البيت الكبير، يطلبون منهم تذكرة الدخول والخروج في كلّ مدننا وقرانا المحتلة!

 حديثٌ طويلٌ لا تستريح إليه البتة، حين تخلو لنفسك، أو عندما تكون مع الناس. وهي مأساة مؤلمة، ترتفع ألسنة لهبها في صميم المتعلمين، سواء الذي لا يزال ملتحقاً بجامعته أو معهده، أم ذاك الذي خرج إلى الواقع فوقف على محطة الانتظار الطويل في سوق العمل!

عقدة طريق المتعلمين أنهم يعيشون في واقع بعيد عن العلم والمنطق! وهم يرون بأعينهم كيف تطوى قدراتهم، ومواهبهم وكفاءاتهم أمام المسؤول، فيبعدها جانبًا، ويضع مكانها مصلحته الخاصة، أين تكون من هؤلاء؟ هي في عقله مسألة ربح وخسارة، وكأني به يجلس على بسطة خضار، يبيع لكل مواطن وفق معرفته به، لا معرفته بالخضار!! وكأني به ينظر للوطن سوق مضاربة، من يدفع أكثر يكون له!!

 

 أقول، هم المتعلمون الذين خرجوا من أنياب الغول إلى المعصرة، وطمحوا أن تتهذب نفوسهم بالآداب، وتغوص عقولهم في المعرفة والخبرات، ليسوقوا الخير والصلاح للأمة. وكي يصنعوا في غيرهم ما خلق الله فيهم من المحبة للخير والعطاء؛ لأنّ المجتمع يقاس بقدر حظّه من المعرفة والثقافة والمتعلمون هم عقول المعرفة وغواصو الثقافة، وصناع الحضارات.

في كلّ المجتمعات المتحضرة، يحكمُ العلمُ حكمه المميز، ذاك الذي جعلها في مسافة الارتفاع، وجعلنا خلفها أتباع خيال الارتفاع، وصلوا القمر ونكشوا تربته، وحدّقوا في النجوم، كما نحدق في صحن الطعام! وما يزال الواحد منا يتثاقل من بناء بيت صغير لابنه أو لنفسه على الأرض، ولا يصل لأدنى حلم يكون خارج الذات، إلاّ بشق الأنفس وألم السنين!!

 لكنّ المعاناة أبسط بكثير مما تراها يا صاح، وأهونُ م دقّ المسمار في اللوح الخشبي! لأنّ الكلام لا يكلف السامع جهد التفكير، فربما ثقل على الصحافة الأمر، وآلم نفوسهم فظاعة الحقيقة، أكثر من أن يحرك شعرة في رأس مسؤول أو سامع عابر!

هي البساطة في التفكير حين تعتقد أن الألم الذي يصيب غيرك بسيط؛ لأنه أخطأ الطريق إليك، فكأنه عثرة خاصة، أو حادث مرور قضى الله أن يكون له وحده دون غيره، وتظنّ ذلك ببراعتك وحكمتك، وتظنّ وقوعه فيه بجهله وغبائه.

 

إنّ العمل للوصول إلى العزة والرفعة لن يكون طريقه الخطأ والفساد والفوضى، ولن يمرّ على من جراح أرباب العلم ومحبيه، ولا من تعذيب العقول التي شعّ نورها وزاد توهجاً بالإيمان والفضيلة والعطاء! لن يكون إلاّ بعمل الصواب والبدء بانعكاس مشاعر الانتماء لهذا الوطن والدين على الجوارح.

سيعيش المتعلمون زمنًا صعبًا، بعضهم سيترك سلاحه المقدس ويلتحق بركب المنافقين ليجد له مكاناً في سوق العمل، وعندئذ لن يجد نفس المتعلم الذي بداخله منذ بدأ. وبعضهم سيعض على الجمر، ولن يلقي السلاح، وسيقاتل بما تعلم وبما آمن حتى ينتزع حظه انتزاعًا.

 وبعد، يا صاحِ، فثق بعزمك، ووعد الله، وابق على حب حاملي هذه الراية، فالطريق صعب، ولكنّ صعب العلا في الصعب والسهل في السهل، فأنت بحاجة لصمت طويل لتعي متعة الكلام، حين لا يكون نفخًا ببوق، أو ضربًا برمل، أو نفخًا برماد، فطريق المتعلمين طويل جدًا، وشاقّ وملتوٍ وصعب، لكنه يجعلك تتنسم لذة الكفاح وأنت موقن بالنصر.

 

التدقيق اللغوي: لجين قطب

||نبذة عن المؤلف||

د. حسن طاهر أبو الرُّب

د. حسن طاهر أبو الرُّب

  البيانات الشخصية:                                                       الاسم : حسن طاهر مصطفى أبو الرُّب تاريخ الميلاد : 4/11/1967م                                                                    مكان الولادة : جلبون/جنين              &...