قارب النجاة الذى ألقته هبة رؤوف لجيلي ومن تتالى بعدى من الأجيال مثّل علامة فارقة فى حياتنا وتوجهاتنا جميعاً , وكنزاً كنّا نفتش عنه فى ظل التيه الفكرى والثقافى والمجتمعى الذى يحيط بنا .
فمن خلال موضوع النسوية طلت على عقولنا فى رفض لواقع المرأة، بما في ذلك ما تبشّر به بعض الرؤى الإسلامية، والتي تجمّد حركة المرأة أو تعزلها وتحيطها بالأوهام الذكورية , فهى تدعو إلى قوامة حقيقية، نابعة من العدل، ومنها تؤسس لمفهوم المساواة الحقيقية.
أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة والكاتبة والمفكرة والناشطة النسائية كانت قد حصلت على درجة الماجستير في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة سنة 1413ﻫ/1992م، وتناولت فيها مسألة مهمة من المسائل المطروحة اليوم على الساحة الفكرية الإسلامية، ألا وهي قضية المرأة والعمل السياسي في الفكر الإسلامي.
وهى لا تعيش بانتاجها الأكاديمى والفكرى فى برج عاجى وإنما تقتحم واقع الحياة العامة بشكل غير عادى فهى مؤسس لرابطة الأمهات المصريات التى يراد لها أن تؤسس عملياً لدور فاعل للأمهات في الحياة المدنية، وحركة "سجين" المعنية بالدفاع عن السجناء السياسيين، والتي ابتدعت هبة فيها أسلوباً جديداً في ربط القضايا السياسية بالمواطن العام وبحياته العادية، إلى اهتمامها الأدبي وعلاقتها المميزة مع الأديب العالمي باولو كويليو، والذي زارَ القاهرة عبرها.
في كلّ ذلك تقدّم هبة نفسها باعتبارها مسلمة معاصرة، تجتهد بفكرها المتنوّر في شؤون المرأة والرجل معا، ولا تقبل رأياً إلا عن قناعة وجدال علمي لا يخدشه الانسلاخ عن الانتماء الديني، وتمارس شراكتها في المجتمع بجدارةٍ وبمبادرات قيادية أيضاً.
ولأن هذه هى بعضاً من انشغالاتها وسماتها ولأنها إلى جانب ذلك كله وقبله أم لثلاثة من الأطفال وزوجة , فقد خرجت أخيراً دراستها عن المواطنة إلى النور ونالت عنها درجة الدكتوراة .
ففى يوم الخميس 31 مايو 2007 تجمعت ألوان الطيف السياسي فى قاعة ساويرس بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية لمناقشة رسالتها التى حصلت بها على دكتوراة الفلسفة فى العلوم السياسية مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطباعة الرسالة على نفقة الجامعة، وتبادلها مع الجامعات العربية بعنوان " المواطنة .. دراسة لتطور المفهوم فى الفكر الليبرالى "
الدراسة التى أصلّت لمفهوم المواطنة فى الفكر الليبرالى الغربي ودعت إلى العمل على تطوير النظرية السياسية في العالم العربي والإسلامي لتصوغ رؤى ديمقراطية للمواطنة من ناحية، وتزود الفضاء النظري الغربي بمفاهيم ثرية؛ وذلك لإحداث تفاعل الثقافات على مستوى النظرية الاجتماعية المعاصرة., استطاعت أيضاً من خلالها ربط العلوم البينية مثل علم الإجتماع والتاريخ والفلسفة والجغرافيا بالظاهرة السياسية فأبدعت وتميزت , وقد عبر الدكتور سيف الدين عن ذلك بقوله " الجمع بين المسالك راحة للسالك "!
مضيفأ أن ذلك من شأنه أن يزيد الأنس والتواصل والفهم للظاهرة السياسية مشيرا إلى أن الباحثة تنتمى لمدرسة تؤكد أن التفلسف ضرورة لعملية التنظير فكان المفهوم سيرة ومسيرة وسيرورة.
على منصة المناقشة اصطف الأساتذة .. د/ حورية مجاهد أستاذة العلوم السياسية بالكلية " المشرفة على الرسالة " , د/ سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية , د/ على ليلة أستاذ الإجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس .
جمهور مميز مثّل الحالة المعرفية والثقافية فى مصر ..عدد كبير من أساتذة السياسة والشريعة والإعلام والأدب بالإضافة إلى الناشطين وممثلى أحزاب واعلاميين وطلبة وطالبات الكلية امتلأت بهم قاعة المناقشة فى مشهد وصفته الدكتورة حورية بأنه نادر الحدوث فى مناقشة رسائل جامعية صعبة كهذه بالكلية .. قالت : " إنها رسالة حب فى رسالة ينتظر الجميع حصول صاحبتها على درجتها العلمية وكأن الجميع عائلتها " !.
فى البداية عرضت الباحثة رؤوف باختصار شديد فحوى دراستها محل المناقشة وأهمية الموضوع شاكرة فى النهاية أساتذتها بالكلية وكل من ساندها فكريا ً وبحثياً ومعرفياً وخصت بالذكر والشكر والدعاء الدكتور عبد الوهاب المسيرى والدكتور على جمعة , ومن أسرتها شكرت والدتها وبناتها .
أما المناقشة التى غالباً ما " يعصر " فيهاالأساتذة الباحث فقد بدت منصفة وقوية ولكن فى ود غريب وصفه الدكتور على ليلة أستاذ الإجتماع مداعباً الباحثة : "إنه تأثير الهيمنة الفكرية التى تمارسها هبة على من يقترب منها والتى أحاول أنا شخصياُ أن أنجو منها على الأقل لمصلحة المناقشة والبحث العلمى وطقوس المناقشة !" .
وصف الدكتور ليلة " المواطنة ..دراسة لتطور المفهوم فى الفكر الليبرالى " بأنه بحث متماسك المعمار إلى حد بعيد يغلب عليه الطابع التجريدى الصعب فيما تدفقت فى الوقت نفسه – على حد وصفه – أفكار الباحثة بغزاره فى حيوية وقوة الشباب" وأضاف :عندما تتأمل البحث تجده عبارة عن تقاطع 3 خطوط هى : باحث متميز جاد وأستاذ مشرف مقتدر أما الضلع الثالث فهو قضية تعيش الآن حالة أزمة, تصادف معها أن العلوم افجتماعية لم تعد تستند غلى ما يسنى بالحقائق الثابتة , فالحقائق الآن متدفقة فى حالة من السيولة تحتاج إلى باحث جاد يستطيع الإمساك بها .
أما الدكتور عبد الفتاح سيف الدين فقد تميزت مناقشته بخفة دم واضحة خففت ما يمكن أن يشوب هذه الأجواء الصارمة من جدية وتوتر ..ابتدأ د. سيف بالقول : إننا اليوم نشهد مولد منظرة فى رسالة تعبر عن جهد تنظيري غاية فى الأهمية وعلامة بارزة ومهمة فى تاريخ كلية الإقتصاد والعلوم السياسية .. فقد أرهقنى أنا شخصياً المعمار المسبوك للرسالة والجرعة التنظيرية الدسمة التى أضافت إلى معنى العلوم السياسية حيث استطاعت الباحثة رغم كثرة المراجع – 386 مرجع أجنبي وخمسة مراجع عربية – أن تهيمن على مادتها قبل أن تهيمن على قرائها .
وفى قفشة باسمة تحدث الدكتور عبد الفتاح قائلا: لقد توقفت قليلا فى مقدمتك التى أشرت فيها إلى أن الباحثة إنما أرادت بطول مدة البحث منذ التسجيل عام 93 عدم التعجل حتى تظهر الرسالة فى صورة لائقة !
وأرجو يا هبة ألا تكونى قدوة للباحثين فى التريث " 12 عاماً " .. ولولا أننى أعرف أنك ناشطة وباحثة كثيرة الحركة والبحث والمشاركة فى المؤتمرات والفعاليات العربية والعالمية لما تفهمت الأمر !
ثم استطرد قائلاً: ولكن من كرم الله عليك أن موضوع المناقشة " المواطنة " لم تنقضى أهميته مع الأيام وإنما حدث العكس تماماً بأن ازداد سخونة وأهمية .
وهكذا خرجت رسالة المواطنة المفهوم المركب والمتشابك والمتشعب أيضاً كممفهوم قديم ارتبط بنشأة علم السياسة إلى النور,و استعصت على التجاهل والإستغناء فكان محل بحث عميق من الباحثة هبة رؤوف كمفهوم عابر للفجوات التى صنعتها العولمة .
أما خاتمة الدكتور سيف التى سبقت المداولة , و صفق لها الجمهور طويلاً: " حق لهبة أن تفخر بعملها فقد جمعت فأوعت ونقدت فأحسنت وحللت فأمعنت ونظمت فأحسنت ونظرت فتمكنت وأظنها فى رسالتها تعلمت وعلمت .. وأنا ممن تعلموا " فقد جعلت دموع الكثيرين أيضاً تتساقط مع التصفيق " دموع الفرح طبعا" !
وبصفتى شاهد عيان أستطيع القول أن مناقشة رسالة الدكتوراة تلك انقلبت إلى احتفالية بديعة بالفعل زينها وبشكل لافت كم هائل من الورود الرائعة المتنوعة التى امتلأت بها قاعة المناقشة وممرات الكلية الموصلة إليها وكأنه عرس جميلً فى حديقة ربيعية , احتفى فيه الجميع وفرح بهبة وكأنهم يعرفون جيداً أنه من احدى تعريفاتها أيضاً أنها " عاشقة الورد " !
تحية للدكتورة هبة الإنسان والأم لـ نوران وإيمان وعلى ,وأستاذتى التى شرفت بالقرب من عقلها"كمفكرةوباحثة متألقة " وقلبها " كداعية متميزة " ووجهها " كإنسان قريب يرشد وينصح "فتتلمذت على يديها .
وكل التهانى لنا جميعاً بمولد عالمة ومنظرة مسلمة , مبدعة, مجددة .. ساهمت وستساهم بشكل كبير فى تشكيل وعى الكثيرات وألكثيرين أيضاً.. رجالاً ونساءاً.. تحمل بتألقها الفكرى وانجازها المتواصل شعلة نور وخلاص لمجتمعاتنا وأمتنا بأسرها .. وتؤمن أن الأمل كبيروالخير قادم إن شاء الله .. ونحن أيضاً!
التعليقات
وشكرا لك أستاذة ناهد على هذه المقالة الحسنة السبك.
أما عن د.هبة فهي -بارك الله فيها- من القليلات التي فهمن دور المرأة التنويري في المجتمع بعيدا عن إفراط الإنعزاليين وتفريط المتحررين دعاة أن المرأة أساس "العولمة" وأداتها "الشفافية".
شكرا لأختنا ناهد.
أنا أعتز بالنسوة واعتبرهن المحرك الحقيقي للمجتمع، من سيدتنا خديجة رضي الله عنها إلى أصغر أم تسير على دربها.
وبمثل الدكتورة هبة رؤوف وعبد الوهاب المسيري أباهي العالم أجمع.
شكراً للكاتبة الكريمة ناهد إمام على هذا المقال المميز الذي جلى عيني بالدموع، وأتمنى أن أرى لها مزيداً من المقالات في ناشري.
الدكتورة هبة رؤوف ستزور الكويت لمدة يومين ابتداء من الأربعاء 27/6/2007
و لها محاضرة بعنوان ( المرأة و العمل السياسي .. رؤية إسلامية )
هذا خبر جديد و أكيد
والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وكاشف الغمة الذي نسخت شريعته كل شريعة والذي أوتي القرآن ومثله معه فبين مبهمه وفسر غوامضه ومجمله، حتى لم يبق لأحد حجة دون حجته، ولا استقام لعاقل اتباع شريعة غير شريعته، فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة،وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل، والمنتمين إلى ذلك القبيل وسلم تسليما كثيرا.
لا يمتري أحد من الدارسين للفرق والمذاهب قديما وحديثاً وللفقه في أدواره المختلفة أن التأويل كان يمثل عاملاً رئيساً للاختلاف أو للخلاف ، وهذا يرجع إلى طبيعة التأويل الذي يتعلق بالمعاني لا الألفاظ ؛ أي أنه يتجاوز ظاهر مدلول اللفظ إلى معنى آخر قد يكون مغايراً للفظ ، وهذه الطبيعة التي تميز بها التأويل جعلته سلاحاً ذا حدين ، فهو من جهة كان وسيلة للبعض عبر التاريخ لتحريف مدلولات النصوص ، ومن جهة أخرى كان عنواناً لمرونة الشريعة وروحها من خلال التعاطي مع المستجدات المتلاحقة بتبيين إرادة الشارع منها .
وهذه الطبيعة الثنائية للتأويل تبرز مدى ضرورة بيان حده الشرعي وضوابطه
و الدواعي المفضية إليه وأنواعه والأثر المترتب عليه من الناحية العقائدية والفكرية والفقهية.
ففي أعقاب نمو الصحوة الإسلامية في العقدين الأخيرين، وإقبال الناس من مختلف الفئات والطبقات على دين الله إيمانا، والتزاما، وسلوكا تصاعدت قوة الإسلام وأهله، وصار الكل يخطب ودهم، ويتحاشى الاصطدام معهم عقائديا وفكريا، فتغير شكل الصراع، وخططه، فبدلا من الهجوم السافر على الإسلام عقيدة وشريعة بالطعن الصريح، والوصف القبيح بالرجعية، والجمود، والظلامية، والتخلف، هذا الهجوم الذي استمر عقودا، ولم يؤت أكله، ولم يثبت جدواه في صد الناس وتنفيرهم كلية من دينهم. لجأ بعض المؤولين إلى أسلوب آخر أشد فتكا ولكن أقل إثارة لمشاعر المسلمين، وذلك بانتهاج سياسة الهدم من الداخل وتقويض المفاهيم والمسلمات الدينية، والتشكيك في الأسس التي قام عليها الإسلام وشريعته.
وهذه المرة ليسوا بصفتهم أعداء ينقدون، و يطعنون من خندق مواجه، بل تزيّوْا بزي الإسلام، واستخدموا أسلحته، ورفعوا شعاراته، فنادوا بضرورة تجديد الدين وعصرتنه، وضرورة نقد التراث وغربلته، وإعادة بناء الثقافة وفق أسس عصرية، مستلهمين التراث الإسلامي والإرث الحضاري لهذه الأمة ... الخ الصياغات الضبابية الباطنية التي تختفي تحت عباءة التجديد والعصرنة والقراءة المعاصرة للتراث.
كل ذلك بعد أن أفنى كثير منهم أعمارهم في أحضان الماركسية، والقومية، والعلمانية. ينظِّرون لها، وينافحون عنها ويطعنون على مخالفها، وفجأة تحولوا بمؤامرة مدبرة إلى دعاة للإسلام، ولكنه إسلام عصري متنور منفتح (!) على الثقافات والحضارات الأخرى يستوعبها ويحتويها. هذه هي قصة وحركة التأويل المعاصرة وخلفيتها.
مقتطف من بحث عن التأويل بين ضوابط الأصوليين وقراءات المعاصرين - دراسة أصولية فكرية معاصرة -
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة