بعد أن أفنيت عمري في عالم الطفولة الساحر.. وعشت سنوات طويلة وأنا أدرك أن العمل من أجل الجيل الجديد مصيره بالنسبة للعامل ليس سوى أن يصبِّر نفسه بأنه يعمل من أجل بناء المستقبل، ومن يعمل من أجل البناء لا يبحث عن مكانة أو منصب.. ولا يريد من الناس لا جزاء ولا شكورا..
بعد كل هذه السنين من الجد الذي لم يعرف الكلل ولا الملل.. تسربت إلى نفسي - غصبا عني - مشاعر اليأس رغم قوة الإيمان بما نعمل من أجله.
ولا شك أن للعامل في مجال الطفولة في عالمنا العربي خصوصية بالنسبة لنفسه.. لا بالنسبة للمجتمع، لأن مجتمعنا لا يفي الحق لحقه.. فعليه أن يعلم منذ اللحظة الأولى أن العمل في حقل الكتابة للطفل مجال يفنى فيه الإنسان ويتفانى، وعليه أن لا ينتظر ولا يترقب من أحد غير الله جزاء أو شكورا.. فإما أن يقبل هذا البدل المجزي بالنسبة لي وله أو أن يرحل.. أو يرضى بأن يجرب حظه.. أو ربما.. يجعل الأمر.. كما هو بالنسبة لي - هواية - حتى لا يبكي فيما بعد على الأطلال.
ولكني لم أتصور أن تتحول هذه الهواية إلى إدمان، وأضطر لأنفق عليها حتى تصبح مضرة ومؤذية..
والعجز الحقيقي في عالمنا العربي هو في فقدان الأمل في المستقبل، ولو أراد كاتب من كتاب الأطفال أن يعتزل الكتابة وهو في قمة العطاء ماذا يعني ذلك.. لا شيء.. ولن يسأل عنه أحد لأنه أصلاً لم يكن له مكان.. في وسط معزول في الأصل ولكنه يفتح شهية الكثيرين لولوجه مع فقدانهم أبسط مقومات العطاء.. فيغدو الحارث على حرثة من غير حرص ولا حراسة.. فتفقد الأمة هويتها كما هي الآن.. وربما أكثر.
الكتابة للطفل ليست عصية على قلمي.. لكني ربما نظراً للقتامة التي تحجب الرؤية باتت الكتابة مصيدة التهاوي.. فأنت تكتب وتكتب وتكتب.. وتقضي عمرك في الكتابة دون أن تحصل على ما يوازي قيمة الحبر الذي تبذله.. ثم تسمع عن فنانة ما.. تحصل على 70 ألف دولار لقاء 3 ساعات.. وتسمع عن مطرب ما حصل على 120 الف دولار لساعتين مع طائرة تقله من بلده بكلفة 40 الف دولار.. ثم نضحك على أنفسنا بأننا نعيش لنكتب.
ونفكر بعد سنين طويلة وبعد فوات الأوان: هل ضللنا الطريق.. أم نحن نادمون على رداءة أصواتنا.. فارتضينا بأقل القليل؟؟
لكن وللأسف فإن هذا القليل لا يسمن ولا يغني من جوع.. فباتت الكتابة الحقيقية للطفل – ولا أعني الكتابة التجارية - مضماراً لمن يريد النزال ويحمل كفنه على كتفه.. وأن يدرك أن الجوع طريقه.. أو "يتسول". أو يمتهن مهنا أخرى ليعتاش منها .. على عكس الغرب الحضاري الذي يعرف ما تعني الكتابة للطفل..
أدركت هذا من البداية.. ولكني كابرت.. ورفضت وصارعت..
وفي النهاية اصابني الوهن.. وفقدت أو كدت أفقد كل أشرعتي.. وضعف سلاحي.. فلم تعد ريشة القلم مستوية للكتابة ولا لوحة المفاتيح طيعة على اصابعي..
ومع ذلك.. قد يأسف شخص أو شخصين.. ثم تمضي الأمور كما كانت.. لأن الكاتب أصلا ليس له دور في عالمنا العربي.. هو سلعة تشترى.. وكما تشترى تباع..
لكن الكتابة للطفل بنظري وأقولها للتاريخ. وليقبل من يقبل وليرفض من يرفض.. فيها إذلال للكاتب الحقيقي.. ففي أكثر من مكان.. تفقده البريق الذي كان سيناله لو بذل نصف جهده في مجال كتابي آخر.. ويكسب بعد فناء عمره.. بعض شهادات التقدير.. وحياة بائسة له ولأولاده.. هذا إذا تفرغ للكتابة إيمانا منه بأهمية الكلمة بالنسبة للطفل ولأجيال المستقبل..
من أجل هذا.. أنا لا أشجع أبنائي على الكتابة ولا على العمل الأدبي برمته.. وأدعوهم دائما إلى المجال العلمي.. والتركيز على اللغة الأجنبية.. وما ربطي لهم بالعربية إلا لكونها لغة القرآن الكريم.. ولو كان من سبيل.. ولو أتقن الأجنبية لكتبت للطفل الأجنبي.. لا كفراً بالعربية ولكن يأسا من أبنائها..
هذا بعض ما تبقى من كلمات كتبتها في كراستي الخاصة وحذفت أكثر من نصفها.. شهادة لتاريخ لن يقدم ولن يؤخر.. ولن يقرأة غير قليل.. وحتى لو قرئ من بعض من أحب فإن الإيام تمضي.. والذاكرة تمضي.. وليس لنا في الحياة إلا أن نعترف بأننا لا نستطيع معاندتها.. لذا أقول لمن نال 130 الف دولار ولمن نالت 70 الف دولار في ليلة واحدة.. ألف صحة على قلبيكما. فأنتما الصح ونحن الغلط... لكني بالتأكيد لن أعتزل "الغلط" حتى لو كتبتُ على اوراق الشجر..
24-9-2009
التعليقات
"حياتي في عالم الأطفال"، قد يكون عنوان الكتاب الذي يسطره دكتورنا البكري، كي يدوِّن التجربة ويردد النداء ويلخص الخبرات، وينطلق مجددًا إن شاء الله - وبعونه سبحانه - في سماء الأدب ... الأدب، والإبداع ... الإبداع، بعيدًا عن بريق "قلة" الأدب و"شذوذ" الابتكار.
و ولقد اجريت احصائية فوجد انه كل امريكي يقرأ ما يقرئه 22 عربي اليس هدا بتأخر وعار على العرب اصحاب اللغة والعلم والابداعات الاولى
إن كان هذا قولكم , فماذا نقول نحن الشباب الذين بالكاد بدأنا في مشوار الكلمة المفيدة , والأدب البنّاء .
امضوا في طريق الحق ونحن نكمل من بعدكم : ) حتى لا يخلو الميدان لمن يعيث به فسادا , ونسأل الله أن يعجّل بفرج جريدة الطفل , فنحن ننتظر أن يرى مشروعكم النور , ونأمل أن نرى في أيدي أبناءنا جريدة ً خاصةً بهم .
بارك الله في كل كلمة , كل حرف , وكل فكرة تكتبونها في سبيله
كنت ولا زلت من المتابعين لما تكتب من قصص ومقالات في عالم الطفل ..واحرص على ان اقرا القصص على ابناء اخواني واخواتي ...ففيها من القيم العظيمة والمعاني التربوية ما يساعد المربي على تربية ابناءه عليها
استاذنا الفاضل ...
أحيانا لا يجد الإنسان ثمرة ما ينتج أمامه .. ولكنك تستثمر استثمارا يمتد أثره الى يوم القيامه ..والعلم الذي ينتفع به صدقة جارية لصاحبها ...استمر والله معك والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
دكتورنا الفاضل طارق البكري ،، أشاطرك وجهة نظرك و أعرف هذا الشعور جيدًا و لا ألومك في الحقيقة ..
لكن
يبقى الأمل موجود طالما حيينا .. كثير من الأمور في حياتنا لا نرى ثمارها يانعة إلا بعد حين .. و الزهرة التي تُزهر في الشدّة و في ظروف مثل هذه الظروف هي الأكثر ندرة و جمالاً ..
+
الأرض كُرة ، فما تراه كأنه نهاية ربما كان أيضًا مُجرد بداية =)
:
أتّفق مع ما قالته ايلاف .. تمنياتي لك بفيض من الأمل و العطاء اللامحدود .. وفقك الله و سدد على طريق الخير خطاك ..
واوقول إني لست يائسا ولم اصل ولن اصل أبدا إلى مرحلة اليأس مهما تكالبت الصعاب والمحن.. ولطالما مررنا بظروف أصعب وتغلبنا عليها بفضل الله..
لكن الواقع الموجود علينا التعامل معه.. ولو كشفت سر هذه المقالة لعرفتم مقصدي.. ربما مع الأيام أكشف هذا السر وليس هو بسر خطير، ولا أظنه يهم كثيرا من الناس، ربما البعض يريد معرفته لإشباع الفضول، والبعض المحب يريد المعرفة للدعم والمساندة، ولكن وباختصار.. ما حدث أبعدني (مؤقتا) للأسف عن الكتابة للطفل نظير جهل البعض بأهمية الكتابة للطفل، ولولا لطف الله لكنت الآن خارج الكويت.. وقد بقيت في الكويت لا لأني كاتب أطفال بل لشيء مختلف عن ذلك تماما.. ولو كنت فقط كاتب أطفال لما بقيت في الكويت لحظة واحدة.. رغم أن الكتابة للطفل متأصلة في نفسي، ولها فضل علي كبير.. لكن للاسف.. الأماني ليست وقائع في الغالب..
ولو فضل الله لغادرت الكويت وعدت الى بلدي.. وكأنها حرب ضد الكتابة للطفل.. ومنذ ذلك اليوم وأنا أفكر بأن أكتب.. ولكن ما حدث يحتاج إلى حدث أكبر منه يعيدني إلى الكتابة.. لكني متأكد أن هذا الحدث سوف يأتي ولو بعد حين.. وفي كلامكم مؤاساة كبيرة..
وفقكم الله جميعا..
اني سعيد لوقوفك امام امواج الجهل و الفكر الخاطئ السائد في مجتمعنا اننا يمكن ان نستبدل الكتاب والقصص الاطفال الهادفه بالتلفاز و المجلات الهزليه المناقضه للفكر و المنطق ولا تمس الواقع بشيء
فقف امام تلك الامواج (التسونامي الفساد) و هناك دائما امل في جيل اكثر وعيا ان شاء الله
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة