وربما كان المأزق المزمن الذي يعيشه العالم العربي أحد عوامل غياب الفكر المستقبلي الذي يفترض وجود قدر كبير من الثقة في النفس وإرادة الفعل، فالمستقبل مساحة عريضة من الإمكان تتحول بالإرادة والبصيرة الثاقبة إلى مخطط يمكن إنجازه مهما بدا كبيرا. والافتقار للنظرة المستقبلية يكرسه من ناحية أخرى افتقار للخيال السياسي، فاتخاذ الواقع مبدأ ومنتهى للنظر السياسي يفضي إلى الجمود والتحول من "فاعل" إلى "منفعل".
وفي كل الكيانات السياسية التي تملك رؤية كونية محددات رؤية مستقبلية يمكن البناء عليها، لكن العقل السياسي العربي أصيب بعجز عن التخيل ولم يعد قادرا على تصور التحرك وفقا لمخطط معد مسبقا. وبطبيعة الحال لا يعني هذا الوقوع في أسر التهويمات وأحلام اليقظة. ومن يراجع ما شهده نصف القرن الماضي من تجارب نجاح اقتصادي وسياسي مخططة سلفا ويقارنها بحصيلة نصف القرن الماضي من المسيرة العربية يذهله البون الشاسع بين قدراتنا وقدرنا.
فتجارب ما يسمى بالنمور الآسيوية لم تكن لتنجح لولا خيال سياسي جرئ أعمله أصحابه دون خوف من الفشل، فالخوف من الفشل أحد الأمراض التي تدفع الأمم الكبيرة لسكون تكون تداعياته أكبر من الفشل نفسه. وهذه السمة توجد غالبا في الأمم ذات الثقافات الغنية عندما يسيطر عليها إحساس بأن ذاتها مهددة، فعندئذ تصبح كل خطوة محل شك وموضع تردد، فمن المسلم به أن حماية الوجود الذاتي أسبق في الأولوية من ترقية الأحوال الاقتصادية أو السياسية، ويحفل الخطاب السياسي العربي بأعراض هذا المرض الذي يجعلنا نتشكك في نتائج كل تغيير ممكن، يستوي في ذلك الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو . . . . .
وتشير الاستجابة العربية لمقولات "الكونية" و"الكوكبية" وأشباهها رفضا للفكرة على نحو مبدئي وهو رفض يتستر وراء نقد يحاول أن يبدو منطقيا لمقولاتها، وبالتالي فإننا مشغولون بشجب فكرة العالم الواحد أكثر من انشغالنا بأن نسعى قدر الطاقة لأن نجعل محتواها أكثر عدالة وأصدق تعبيرا عن تعددية حضارات العالم. وما يؤكده الخطاب التحليلي العربي بشأن عالم متعدد الأقطاب لا يخرج عن كونه نوعا من الهرب من حقيقة نشعر أننا غير مؤهلين لخوض غمار المنافسة حولها.
ولنأخذ مثال انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد كان بالنسبة للأمريكيين: أمنية ونبوءة وتصورا مستقبليا، فمنحتهم الأمنية أملا، وأعطتهم النبوءة ثقة، وكان التصور المستقبلي جسرا بين الكائن والمأمول. وخلال التاريخ الغربي طرحت تصورات مستقبلية لاقتصاد العالم وأمنه وسياسته، صحيح أن كثيرا منها بدأ وانتهى مجرد "تصورات"، لكن تحول المستقبليات من ضرب من التنجيم إلى علم ضيق الهوة إلى حد كبير بين الكلام عن المستقيل وتخطيطه.
والحد الأدنى من الاكتراث بالمستقبل يكون بوجود تصورات في مواجهة الاحتمالات الأكثر رجحانا بحيث لا يجد صانع القرار نفسه أما مفاجئات مربكة، وقد كان المنطق الذي تعامل به النظام الرسمي العربي مع الغزو العراقي للكويت نموذجا لغياب مثل هذه التصورات. فرغم أن الأزمة كانت لها جذور تعود إلى عقد الستينات لم يكن هناك سيناريوهات معدة للأزمة قبل حدوثها. وفي المقابل كان لدى الولايات المتحدة سيناريوهات افتراضية تتضمن التداعيات وردود الأفعال المحتملة للأطراف كافة والبدائل الممكنة، هو ما اعتبره البعض دليلا قاطعا على أن مؤامرة أمريكية دبرت ونفذت بشكل حرفي.
وحقيقة الأمر أن الإدارة الأمريكية لديها سيناريوهات مماثلة لكل الأقطار العربية فهي لا تستبعد أن يتحول أي خلاف حدودي عربي إلى صراع مسلح، بل إنها أصبحت – وقبل احتلال العراق بسنوات – تعد نفسها لاحتمال حدوث انقلاب عسكري في بعض الدول العربية. وقد أجرى الجيش الأمريكي مناورة قبل عامين كانت الأكبر في تاريخ أمريكا لتكون قادرة على التدخل لإجهاض انقلاب عسكري في دولة عربية صديقة – لم يكشف عن اسمها – في حالة وفاة حاكمها!!
وفي اللحظة التي يكون لدى صانع القرار العربي فيها ملف يحمل عنون "هكذا نريد العالم" نكون قد بدأنا طريقنا لبناء المستقبل، لا عبر التمني وبناء الأسوار العالية لتحمينا من السيناريوهات المستقبلية التي يضعها الآخرون بل بوضع سقف يتناسب مع طموح أمة تملك من المقومات ما يمكنها من أن تسهم في صياغة مستقبل كوكب الأرض بل مصيره. وقد كنت أفكر في إيراد أرقام عن أعداد المؤسسات المتخصصة في المستقبل في الشرق والغرب للمقارنة بين واقعين، غير أن ما يتداوله الإعلام العربي من معلومات عن المشروعات الهزيلة لإصلاح الجامعة العربية والنظام الرسمي العربي السجالات الرسمية العربية حول الممكن والمأمول صرفني عن ذلك، وعوضا عن الأمل في المستقبل صرت أشعر بالخوف على حاضرنا الذي صار يبدو بلا مستقبل.
فالمستقبل الذي لا نجهد أنفسنا في تخيله وتخطيطه هو في الغالب مجهول سوف يدهمنا ونحن عنه غافلون.
التعليقات
السلام عليكم كاتبنا الكريم !
أجل ، إننا آخر من يحسب للمستقبل حساباته الواجبة ونحن كذلك في مقدمة من لا يعتبر بالماضي مع أننا - وأنا واحد ممن اتكلم عنهم - لا ننسى الماضي أبدَا ونبكيه يوميا لدرجة تعيق سعينا للحاضر والمستقبل، وبكاء الماضي هو جزء من تربيتنا مع الأسف وإن كان حجم هذا البكاء يختلف من شخص إلى آخر وبلد إلى آخر. إن هناك كثيرَا من البلاد العربية تعيش المشكلات التى عاشتها منذ مئات بل منذ آلاف السنين فالمشكلات هي هي وأسلوب الحكم والإدارة هو هو وإن اختلفت الاسماء والوجوه.
أستاذ ممدوح ! ما هو الحل؟ كيف نخرج من أزمتنا؟ وأنا هنا لا اسأل عن دور الدولة فقد ثبت أن الدولة في عالمنا العربي ليست شعبًا فوق أرض وتحكمه حكومة وإنما الدولة عندنا هي الحاكم فقط ، فالحاكم هو الشعب و يتنازل عن الأرض كيفما يشاء ويشعل حروبا لاستردادها وقتما يريد وهو الحكومة أيضًا. فإذا كان الحاكم من أمثال فيصل بن عبد العزيز أو زايد بن سلطان رحمهما الله رأينا النصر و عشنا المعجزات وإذا كان من أمثال الآخرين رأينا انفصام الشخصية والميكافيليه والديكتاتوية إلخ .
لذا أستاذنا الفاضل أرجو أن ينال دور الفرد المفرد (أنا وأنت وهو وهي وهم وهن ) من غير الحاكمين أو المنضمين لأية تنظيم رسمي أو غير رسمي ، أرجو أن ينال وقتاَ من تفكيرك فتناقش دورنا وتطيل فيه وتوضحه وتفسره فهو أولى وأنفع من الحديث عن الدولة التى هي الحاكم فكل واحد منا يمكنه على الأقل أن يحاول مع نفسه أما مع الدولة (الحاكم) فلا أمل حاليَا ، شكر الله لك وأدام الله عليك رجاحة عقلك وصدق قلمك وثقتك بنفسك.
و السلام عليكم
1- النظام الديكتاتوري الذي كبت التفكير و الابتكار لدى مجمل الأمة. فكلما زاد الطغيان قل التجديد والابتكار. و العكس صحيح.
فمثلاُ: أصبح الوزير في أيامنا هذه يفكر في إصلاح الشارع وضمان انسياب المرور فيه، بدل التفكير في إعادة تخطيط المدينة و إيجاد شبكة طرق جديدة للمدينة بل وللدولة مما يحل الأزمة الحاضرة ويلبي حاجات المستقبل.
2- غياب المشروع القومي : فلقد لعبت الحرب النفسية التي شنتها إسرائيل و أمريكا مستعينة بالأقلام المأجورة دوراً في تسفيه الحلمين الكبيرين لدى جماهير الأمة وهما: الوحدة العربية ، و الإسلام أي تطبيق الفكر الإسلامي على أرض الواقع . وتم إلهاء الناس بكل شعار وفكر مغاير شريطة الابتعاد عن العروبة و الإسلام.
وأنا أرى أنه لا بد من تغيير الأنظمة القائمة بأنظمة برلمانية تعتمد الشورى على كل مستوى وتراعي شؤون الناس – كل الناس - لا تسرقهم ولا تستعبدهم و لا تصطدم مع معتقداتهم الثقافية. على أن يتم هذا التغيير سلمياً وعلنياً، بدون ثورة أو إراقة دماء وبدون تدخل خارجي. و قبل ذلك فإن أي تفكير بالإصلاح أو بأية مشاريع مستقبلية ضرباً من طلب المحال.
يجب أن نشجع أنفسنا و نشجع الناس على النزول للشارع و تحدي عصا الشرطة و خراطيم المياه و قنابل الغاز، فذلك خير من الوقوع تحت الاحتلال الأجنبي ومعاناة ويلاته.
و قد قال االه تعالى في سورة العنكبوت : الم (1)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
فعلاً تصور المستقبل المنشود والعمل له من أهم عقبات نهضتنا.
حكامنا يجيء بهم عزرائيل - بأمر الله تعالى - حين يموت سلفهم ويروحون بذات الكيفية،
وما بين القدرين الحتميين: لا نرى لهم رؤية ولا نلحظ لهم هوية!
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة