• رمدان
يمم عينيك شطر التلفاز في شهر رمضان لترى أعجوبة ثامنة من عجائب الدنيا. طوفان من البرامج الهوفاء الشوهاء، والمسلسلات التي تعج سخفا وعنفا. ما الذي يحدث يا ترى؟ أعلمُ أن البرامج في الأيام العادية ليست أفضل حالا من مثيلتها الرمضانية، لكن ما سر هذا القصف من القتاد والرماد وكأن الناس لا يشاهدون التلفاز إلا في رمضان؟
أكره نظرية المؤامرة وأفنيت سنوات وأنا أناظر وأحاور بعدم معقوليتها في كثير من الحالات، لكن هذه الحالة أعجمت لساني ووجداني، فيبدو أن بعض الشياطين تآمروا قرروا إلهاء الناس بهذه السخافات ليفوتوا فرصة الرحمة والمعفرة والعتق من النار عليهم. لكن الغريب هو أن الشياطين تصفد في رمضان وفق لكثير من الآراء الفقهية وهذا يترك لبنى البشر فرصة ليفرقوا بين هوى النفس ووسوسة الشيطان، فهل يعقل أن يكون كل هذا الفحش من عمل الأناسين وحدهم دون تدخل شيطاني؟ بعد التفكير، صرت أظن أن الشياطين كائنات لطيفة ووديعة تستحق أن نربيهما في المنازل بدلا من القطط والأرانب وعصافير الحب! فالشر الشيطاني يسيرٌ، ويزول بالتعوذ، أما الشر البشري فهو وليد التعوّد مع سبق الإصرار والترصد، وكيف ينفع معه التعوّذ؟
كنا نسمع عن مرض الرمد الربيعي وهو مرض يصيب العين، الآن صار هناك مرض جديد يصيب القلوب، الرمد الرمضاني! ومن هنا صار رمضاننا تلفزيونيا "رمدانا" للعقل والقلب. ونبرأ لله مما يفعله بعض بني قومنا من نسل آدم.
• المعزّم
أما "المعزّم" أعزائي فليست مشتقة من العزيمة بمعنى الهمة رغم أن رمضان هو موسم العزيمة والهمّة في العبادات والخيرات، بل مشتقة من العزائم بمعنى الدعوات والولائم باللهجة الكويتية. فرمضان لدينا شهر الشره والنهم، وهو أيضا شهر الزيارات والمجاملات. وإذا كنتم لا تصدقونني زوروا أي جمعية تعاونية أو مركز تسوق قبيل رمضان أو أثناءه لتروا ازدحاما وتدافعا يجعلكم تظنون أنكم في حضرة مجموعة من الحجيج.
في الحقيقة علي أن أعترف بغرامي بالحلويات الرمضانية التي لا تطل إلا مرة كل عام، لكن هذا لا يعني أن نحول رمضان إلى موسم للأكل وكأننا نمن على الله السويعات التي صمناها ونعوض عنها بأن نأكل ضعفها بل أضعافها مساء، ثم نشتكي من تراكم الدهون ونهرع إلى عيادات التجميل ومراكز التنحيف.
يؤلمني قلبي حين أرى الكثيرات يلهثن في رمضان ومعالم الإرهاق بادية على وجوههن ليس بسبب المحافظة على صلاة التراويح أو القيام أو ختم القرآن، بل بسبب "التهجد المطبخي"!
الأمر الغريب الآخر في رمضان هو تحويله إلى موسم للزيارات والمناسبات الاجتماعية والسهرات، ولا أدري ما بال الأحد عشر شهرا الباقية؟ إما إذا كنت ممن لا يستجيبون لدعوات "الغبقة" والإفطار والسحور أثناء رمضان مثلي، فستحل عليك اللعنة المجتمعية اللعناء ويقال أنك لا تستجيب للـ"توجيب" ولا تراعي وصال الآخرين وودهم لك. وأنصحك ببرود الأعصاب وأخذ الأمور ببساطة، صحيح أنك ستخسر ربع أو نصف معارفك، لكن هذا أفضل من أن تخسر نصف عقلك، خاصة إذا كنت امرأة حيث أن أحاديث النساء في رمضان شأنها شأن برامج التلفاز، تزيد فيها جرعة الغيبة والنميمة والتلهي بسير الآخرين. وفي ختام المجلس وبدل دعاء كفارة المجلس يقلن "سلينا صيامنا". مسكين هذا الصيام، ثم من قال أنه يريد أن يتسلى أصلا؟
• هكذا أقمنا الحجة على أنفسنا
فرض الله علينا الصيام لا تعذيبا ولا حرمانا، فإيذاء النفس منهي عنه، لكن فلسفة الصيام هي بأنه إذا كان المرء يقدر أن يمتنع عن الطعام والشراب الذين سيفني من دونهما، فإنه حتما قادر على أن يمتنع عما هو أدنى من ذلك كالكذب والنفاق وغياب الإتقان والإحسان. وها نحن نرفع الحجة على أنفسنا بصيامنا دون أن نعي.
رمضان شهر الهمم والعزائم، لا شهر الولائم. وشهر العبادات والخيرات، لا شهر المنكرات والموبقات. تعالوا نعظم شهرا ناله منا الكثير من الظلم، "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب" (سورة الحج: 32)
التعليقات
إجابة سؤالك أن كيد الشيطان كان ضعيفا كما أخبرنا الله لذا فهذا فعل النفس التي أفلح من زكاها وخاب كل الخيبة من دساها.
أما فلسفة الضيام فهي كما تفضلت وأساسا تنحصر في مبدأ التقوى. والتقوى هي أساس العمل لو كانوا يعقلون.
وختاما: أضيفي على الفواجع: "رمدان كغريييم"!
أما ظاهرة الزيارات فأجدها إيجابية وفيها صلة للأرحام وتواصل وتعارف وتقوية لمعني الأخوة، قد يكون فيها ما يشوبها كما تفضلت ولكن فلنتذكر أهمية إجابة الدعوة في ديننا وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". وما أجمل اللقاءات التي يتخللها ذكر الله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
فقد تحول شهر القرآن الفضيل الى شهر الفضائيات الفارغة والابواب المغلقة فمع تزايد الفضائيات تتزايد حلقات الباب ويعاد في الليل والنهار جتى من فاته كلمة يسمعها مرة اخرى ، ومن فاته مشهد يشاهدة حتى يحفظه ..
وليس هذا فحسب بل اصبح الباب وغيره محور حديث الناس في لقاءاتهم واتصالاتهم وفي احلامهم اذ يتخيلون ماذا سيصنع غدا فلان وماذا سيحدث لفلانة ..
ان رمضان شهر التقوى .. شهر رفع الران عن القلوب ..
الى الامام والله يحفظك ..
لذا يكون الفرار بكامل عقلك وليس بنصفه فقط -قياسا على للذكر مثل حظ الإنثيين- أفضل وسيلة؛ فهناك ما هو أولى من الكلام الفارغ الذي لا يفيد خصوصا إذ كان علي غرار من يقمن بعمليات تجميلية للكلام فبصبح "رمضان كريم" بقدرة قادر "رمدان كغيييم" بعد التنحيف والشد والحقن لحروف الضاد والراء على التوالي!
هل تتسائلون لماذا ضاعت مقدساتنا بعد هذا؟ ياللملل!
كل عامٍ وأنتم بخير. مدهشٌ حال عرب المسلمين في هذا العالم، وأقصد بالضبط (عرب المسلمين) فهم سباقون للنهم والجشع والغوص في السلع، لا يكتفون من كونهم شر سفراء لدينهم بل يزدادون اثماً بالتسابق في صناعة الإعلام الهابط والتلفاز الساقط. ليست الشياطين مسؤلة كلياً عما يصنعه المكلف المحاسب بماله ووقته وجهده، فالذوق المنحط صار سمةً مرادفة للمجتمعات العربية، وخصوصاً الخليجي منها مع الأسف، مما يجعل التافه من أصحاب الفن يتهافت على هذا المجتمع المستهلك لكل ماهو ساذج وسخيف. إنها صناعة المأكولات السريعة والبرامج السريعة واللحظات السريعة التي يتلذذ بها هذا الطفل العربي الذي يأبى أن ينمو ويرفض أن يتعلم، ويفضل البدانة الفكرية والترهل الذهني طالما أن مجتمعه يوفر له كل السموم اللازمة عبر التلفاز، الجوال والإنترنت.
جبر الله مصابنا ومصابكم في رمضان وكل رمضان، وأحسن عزاءنا في أملٍ في الصلاح فقيد.
أبو أحمد
وقد دمجته بخفة بموضوعين مهمين يطلان علينا كل رمضان ,, بخصوص المذيعات والألسن الملتوية أعاذنا الله وابعد عنا إلتواء الألسنه , فُهن مسكينات , لايعرفن قيمة الشهر ولا يحسِّنَّ الاستعداد له !
وأما بخصوص الدعوات والعزائم ,فهي نافعة ق إن قلت , ومضرةٌ إن كثرت !
ما زلت أذكر بالخير عادات طيبة في رمضان استمتعت فيها في حلب قبل ربع قرن وأرجو أن تكون مستمرة حتى اليوم.
1- زيارة الجيران: كان جميع السكان في منطقتي ملاكاً ولم يكن هناك مستأجرين. وبالتالي كانت هناك جيرة دائمة. وكانت مشاغل الحياة واختلاف مواعيد العمل تحول دون تبادل الزيارة مع كل الجيران، لكن في رمضان و العيدين يتبادل الجميع الزيارة ويدخل واحد بيوت جميع الجيران. وتمتاز زيارة رمضان هذه والتي تتم بعد صلاة التراويح بالهدوء والصفاء والأحاديث الهادئة المعمقة وتمكنك من التعرف على جيرانك بشكل أفضل وتمتّن أواصر الجوار والمحبة. وقد ساعد عدم انتشار التلفزيون ولزوم الناس لمساكنهم ليلاً على إتمام هذه الزيارات الرائقة بها الشكل.
2- الولائم العائلية: من أشق الأمور على النفس بعد الصيام أن تجلس وحيداً على مائدة الطعام، فكل ما زاد عدد المجتمعين على المائدة زادت البهجة والأنس وانفتحت الشهية. وقد ألفت جمعية سرية مع شقيق زوجتي الأصغر لتشجيع الولائم العائلية وإنجاح أي دعوة للطعام وذلك لتمتين الروابط العائلية والاجتماعية ضمن الأسرة الكبيرة وكسر حاجز العزلة . وكانت ولائم رمضان تنفض سريعاً ليدرك الناس صلاة التراويح.
3- الأطباق الطائرة: قبل الإفطار تطير أطباق الطعام بين الجيران فكل من أعد طبقاً مميزاً أحب أن يشاركه فيه جيرانه، وأكثر مكان رأيت فيه انتشار هذه العادة كانت في دبي! حيث سكنت مدة في منطقة سكنية غير مزدحمة، وكان الطعام يأتينا من حيث ندري ولا ندري ثم نحتار كيف نرد الصحون لأصحابها. وأظن أننا كنا نتبادل أطباق حلويات العيد في حلب. ولكن تقادم الزمن وضعف الذاكرة أصبحا يجرحان شهادتي في هذا المجال.
4- وأخيراً لا بد أن أذكر أن هناك فقراء مستورون في بلادنا إلى يومنا هذه. وقد أجهشت بالبكاء حين رأيت على قناة الجزيرة أسرة في أحد مخيمات الفلسطينيين في عمان تنتظر مدفع الإفطار وقد تحلّقت حول صينية تحتوي شوربة العدس والبصل والخبز فقط لاغير. أسأل الله أن يرزقنا شكر نعمته وأن يجعلنا نذكر أخوتنا وأقرباءنا الفقراء وبرهم. ولذلك يُخرج الكثير من المسلمين زكاة أموالهم في رمضان.
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة