يلاحظ المرء غياب الرؤية الواضحة من حياة المسلمين عامة وشبابهم خاصة، بالإضافة إلى عدم امتلاك منهجية محددة للحياة، وكثيرًا ما تكون الأهداف التي نسعى إليها غير محددة المعالم، ولو أنك التقيت بشاب مسلم لا على التعيين ـ ونريد أن نشير مجددًا إلى أننا لا نعمم، لكن نزعم أن هذا التوصيف ينطبق على كثير من الشباب ـ أربع مرات خلال الشهر الواحد بمعدل مرة كل أسبوع لأمكنك ملاحظة أن هذا الشاب قد غير قناعاته وفهمه لكثير من المسائل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس، والأمر لا يشمل فقط المسائل الدينية، بل كذلك مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطروحة للنقاش، فهناك مزاجية وعاطفية واضحة في تناول المشاكل المطروحة للمعالجة، وربما تكون هذه المعالجة العاطفية للمسائل وضمور النزعة العقلية في حياة المسلم إنما هي انعكاس لشكل التربية الاجتماعية
والإسلامية الحالية، التي بيّنا آنفًا بأنها تحتاج إلى تطوير وتحديث. أما عن حجم الفوضى في حياة المسلمين فحدث ولا حرج، ونحن العرب على وجه الخصوص تقوم حياتنا على الفوضى والعشوائية في كل شيء: في العمل، في النوم، في الطعام، في العلاقات الأسرية والاجتماعية، في النظام الاقتصادي والسياسي ... إلخ. ونعتقد أن هذا الوضع لا يحتاج إلى برهان، فكل ما عليك فعله هو أن تعيش لفترة أسبوع واحد في حي إسلامي إذا كنت تعيش في عاصمة غربية حتى تلاحظ الفرق بيننا وبين غيرنا من المجتمعات، بل يكفي أن تمر في إحدى شوارع الجاليات المسلمة في الغرب حتى ترى العجب العجاب من أمرنا، وربما يكون التشوش العقلي -إذا صح التعبير- الذي يتجلى في اضطراب التفكير وعدم وضوح الرؤيا ينعكس بدوره على السلوك الفردي والاجتماعي ليظهر جليًا من خلال حالة الفوضى واللامبالاة السائدة في الممارسات اليومية. ولعل المسألة الأكثر وضوحًا في منشطنا ومهجعنا هي: غياب النظام، وغياب العمل الجماعي، وبروز حالة الأنانية والفردية والتسلط، والفشل في العمل وفق روح الجماعة والفريق. وسنضرب مثالاً واقعيًا ولطيفًا على ذلك، فقد قمنا بمراقبة ميدانية - طويلة ومتكررة - لمجموعة من طلاب المسلمين، الذين ينتمون إلى أكثر من ست دول إسلامية وعربية، والمثل يتعلق بسلوكهم خلال لعبة كرة القدم، ففي كل يوم أحد من كل أسبوع، يجتمع ما يزيد على خمسة عشر طالبًا للدراسات العليا من المسلمين؛ ليمارسوا لعبة كرة القدم، وكثيرًا ما يصدف أن يكون في الملعب نفسه فريق ألماني، حيث أن الملعب مصمم ليستوعب عدة فرق تلعب في الوقت نفسه بشكل منفصل، فكنا نلاحظ بعناية كبيرة الفروق بين الفريق الألماني والفريق العربي- الإسلامي أثناء اللعب، واستطعنا أن نسجل الملاحظات التالية – والتي نوردها هنا باختصار ومن غير تحليل أو تعليق- : الفريق الألماني لوحظ عليه ما يلي: 1 ـ يلعب بهدوء ونظام، فاللاعب لا يتحرك سوى الحركة الضرورية باتجاه الكرة. 2 ـ الفريق يرتدي ملابس متجانسة، وينقسم إلى مجموعتين متناظرتين تقريبًا. 3 ـ الفريق يتوزع بصورة محسوبة ومنظمة في مساحة الملعب. 4 ـ يوجد حكم في اللعبة وكل أفراد الفريق يلتزمون بقرار الحكم. 5 ـ اللعبة تبدأ بوقت محدد وتنتهي بوقت محدد. 6 ـ نادرًا ما تحدث إصابات بين اللاعبين. 7 ـ اللعبة تستمر حتى نهاية الوقت المحدد لها. 8 ـ اللعبة تنتهي بروح رياضية بأن يصافح كلا الفريقين بعضهم بعضًا، مهما كانت النتيجة. وفي المقابل فإن الفريق العربي- الإسلامي قد لوحظ عليه ما يلي: 1 ـ المجموعتان أو الفريقان دائماً غير متناظرين. 2 ـ اللباس أشبه بقوس المطر من شدة تباينه. 3 ـ تمتلئ سماء الملعب بالصياح والشتائم والشجارات. 4 ـ نادرًا ما تمر لعبة دون أن يتعرض فيها لاعب لإصابة قاسية، قد تجبره على الذهاب إلى المشفى. 5 ـ لا تكاد تنتهي اللعبة حتى تبدأ الخلافات الشخصية بين اللاعبين، التي قد تستمر لشهور بسبب اللعبة. 6 ـ الفوضى في توزع الفريق وعدم تعاونه، وعلى الرغم من أن الأشخاص أنفسهم يلعبون مع بعضهم منذ أكثر من خمس سنوات، فإنهم لم يستطيعوا التوصل إلى صيغة تعاونية جماعية منظمة في اللعب، بل لم يحاولوا فعل ذلك. 7 ـ عدم الإلتزام بمواعيد محددة للعب، أو للخروج من الملعب، بل الشيء الأكثر سخرية أنه لا يوجد حكم للعبة، وإن وجد فلا يلتزم أحد من اللاعبين بقراره، والحكم نفسه لا يحاول أن يسلك مسلكًا موضوعيًا في قراره ولو بصورة نسبية، وذلك لأنه ليس بمعزل عن الخلافات والتداخلات الشخصية مع اللاعبين. 8 ـ اللاعب يتحرك بصورة عشوائية، ويتحرك بعدد كبير من الحركات التي هي غير ضرورية. ونحن نعتقد أن هذا المثال ينطبق على كثير من أشكال إدارتنا لمختلف مجالات حياتنا، وهذا السلوك غير المنتظم ـ إذا صح التعبيرـ إنما هو انعكاس بشكل أو بآخر كما بينا من قبل للفوضى والتشوش على المستوى الفكري. تنظيم الحياة وترشيد الوقت والعمل الجماعي والشعور بالمسؤولية تجاه الواجبات واحترام القانون والتخصص وممارسة الرياضة المنظمة كلها من أهم أسباب تقدم المجتمعات. والتربية الصحيحة هي القادرة على زرع هذه الخصال في حياتنا اليومية. لابد أن تكون الأهداف واضحة أمامنا حتى لا نفقد بوصلة التوجه، حياة بلا هدف ليست إلا محض عبث، ونشاط غير منظم لا يثمر، وجسد لا يمارس الرياضة دائم الخمول، فكما أن الحياة الأخلاقية والروحية تضيء النفس فكذلك تفعل الرياضة في الجسد. لو أنك سرت في بلد عربي بعد منتصف الليل لوجدت الشوارع تعج بالخلق وليس البالغين فحسب بل كذلك الأطفال، ثم سر في نفس الحي في صلاة الفجر لن تجد غير الشيوخ الطاعنين في السن ما عدا ثلة قليلة من الشباب، والأمر ليس عسير الفهم ببساطة من ينام مبكرًا يستيقض مبكرًا، وفي ذلك سلامة الجسد والروح. لو أنك سرت مثلاً في العاصمة برلين خلال أيام العمل بعد الساعة العاشرة ستلاحظ أن الشوارع شبه فارغة، وكذلك وسائل المواصلات وأنوار البيوت أغلبها مغلقة، حتى أنه لينتاب المرء المعتاد على العيش في المدن العربية الشعور بالوحشة، ولكن لو أنك خرجت إلى الشوارع في الساعة الخامسة صباحًا لتعذر عليك أن تجد موضع قدم في الحافلات والقطارات، ولرأيت بأم عينيك الألمان وهم في قمة النشاط والحيوية وقد توجهوا إلى أعمالهم ومشاغلهم بكامل طاقتهم. ولو قدُّر لك أن تدخل بيوت المدينة فلن تجد أحدًا قد بقي في الفراش غيرنا نحن العرب والمسلمين ومن شاكلنا، وقد غططنا في سبات عميق! فسبحان الله، ألسنا نحن أهل صلاة الفجر؟ ألسنا من أُمرنا بإعمار الأرض والسعي في مناكبها؟ أليس القسم بالوقت في الكتاب المنزل دلالة على عظيم أهميته؟ أليست صلواتنا كتابًا موقوتًا يقُّسم يومنا وينظمه من قبل بزوغ الشمس إلى ما بعد غروبها؟ ونحن يجب ألا نركز على السلبيات - فقط- فهناك حقًا مُبشِرات بالخير، لدينا فئة من الشباب والشيب المنظمين والنشطين والذين هم مفخرة وقدوة لنا، لكن غالبيتنا لا تسير على هذا المنوال، ولا شك أن صعوبات الحياة وعوامل الفقر والتخلف والفساد السياسي والأخلاقي التي تنخر في مجتمعاتنا لها دور كبير في محاصرة الإرادة الفردية لمن يرغب النهوض بنفسه ومن حوله، وتجعل تنظيم الواقع الاجتماعي شديد الصعوبة، لذلك نحن لا نحتاج فقط إلى التغيير والإصلاح السياسي بل كذلك إلى ثورات موازية في الجوانب التربوية والدينية والرياضية والمعرفية . التدقيق اللغوي: لجين قطب.
التعليقات
شكراً جزيلاً .. على مروركم الكريم على مشاركتي المتواضعة .. كلماتكم الطّيبة .. إنما تعكس حصافة ذوقكم الرفيع .. يسرني أن استمع لتوجيهكم ونقدكم لكل ما أشارك به؛ فأي مشاركة تقدم في موقع "دار ناشري" .. لن تأخذ معناه وقيمتها ما لم تجد من يتفاعل مع مضمونها.
مرة أخرى أشكركم على التعليق اللطيف.
وتقبلوا خالص محبتي واحترامي
أخوكم عبد الحكيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سعدت كثيراً بقراءة مقالك هذا ،فقد وصفّت المشكلة بأبعادها ،وضربت مثلاً واقعياًينطبق بنسبة كبيرة عليها.ولكن أليس من الظلم والإجحاف أن نتحمل المسؤولية كاملة وقد عشنا طفولة مشتركة- تعرفهاأكثر مني- في قرية صغيرة كان الهم الأول لأغلب أهلها تأمين قوت يومهم في النهار ،والسهر في الليل-وهذا ليس ذنبهم- قس على ذلك ماشئت من بلادناالواسعة.
أخي الحبيب :
أعتقد لا بل أكاد أجزم أن العيب ليس فينا .
فقد بنينا حضارة يشهد التاريخ لهاعندما كنا ملتزمين ب......
لك حبي وتقديري ،ابن عمك :عبد العزيز شباط
أخي الحبيب الأستاذ/ عبد العزيز شباط
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قد سعدت حقًا بتفضلكم بالمرور والتعليق على هذه المشاركة المتواضعة.
نعم أتفق معكم تماماً بأننا في الأزمنة الغابرة قد بنينا أمة وحضارة وأمجاد .. إلخ. ولكن سنة الله قد جرت على الحضارات والناس بقوله: " .. وتلك الأيام نداولها بين الناس ..". وهذه المداولة تستند على الأخذ بالأسباب التي أودعها القدير في السنن الكونية .. والذي حدث أننا اعتبارًا من القرن الثالث عشر تقريباً بدأنا نقوم بحركة تراجعية تمثلت في التوقف عن الأخذ بالأسباب على النحو الذي كان عليه أجدادنا. فبدأ التحجر والتصلب يدب في أوصال الأمة ومفاصلها .. وأخذت المظاهر السّلبية تتمدد حتى طمست المعالم الإيجابية .. فشهد العالم تبدلات في مراكز القيادة الحضارية والسياسية في الأرض .. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه "زمن الانحسار الحضاري العربي -الإسلامي" (تابع من فضلك أسفل)
.. لذلك فإن هذه المشاركة وغيرها لا تُوصّف بلدة بحد ذاتها أو مدينة أو دولة .. ولا تُحمّل شريحة اجتماعية أو أفراد بعينهم المسؤولية أو توجه إليهم النقد .. بل هي محاولات لرصد عوامل الخلل في "أنماط التفكير والسلوك" التي تمارسها "العقلية والشخصية" الإسلامية في كل مكان في الكرة الأرضية .. وعندما نضرب أمثلة من الواقع فذلك فقط من أجل تقريب المعاني العامة وتوضيحها بالأمثلة المحسوسة .. هذا الأمر يطبق كذلك في العلوم الطبيعية حيث يستدعي الباحث تطبيق تجارب معملية على عينات فردية ليستخدم النتائج المتحصلة عنها في فرضياته العامة .. ولو أنك تأملت سلوك الناس في بلدتنا الصغيرة .. لن تجده يختلف كثيرًا عن سلوك الناس في إمارة رأس العين أو في إمارة دبي .. وكذلك ستجده متشابه في القاهرة والرباط والكويت والخرطوم ودمشق وبغداد والرياض واسطنبول وإسلام آباد ... إلخ. (تابع من فضلك ج3)
وذلك أن المنظمومة الفكرية والثقافية – في العالم الإسلامي والعربي- واحدة من حيث الإطر العامة وإن كان الإختلاف حاصل في الخصوصيات الجزئية – التي تخص البنية الداخلية للمجتمع - .. وهذا ما حاولت الإشارة إليه عندما أخذت عينة من عدة دول إسلامية وعربية في عمل مشتركة "فريق كرة القدم" مثلاً .. أو ما حاولت رصده بـ "رسالة إلى لجين" والمثال الأول والثاني من الواقع وليس من بنان الخيال .. وربما أتفق معك بأن المعنى ليس بهذا الوضوح في المشاركة .. ولكن ربما السّبب أن هذه المشاركة هي عبارة عن فقرة جزئية في مقال أوسع ضمن مبحث "تأملات نقدية في العقلية الإسلامية". وأعتقد أنه إن شاء الله عندما يتاح لكم الاطلاع قريباً على المبحث كامل سوف يتضح لكم المعنى الأوسع الذي هدفت إليه المشاركة من غير نقص وبالتالي يزال اللبس الحاصل هنا.
في النهاية أشكركم على الرأي النقدي الذي تفضلتم به هنا. سأل المولى أن يفرج عن أهل الشام خاصة والمسلمين عامة.
مع خالص محبتي واحترامي
أخيك عبد الحكيم
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة