مقدمة:
إن الجامعة مكان لمجتمع بشريٌّ حر لا يُعدُّ للحياة، بل هو الحياة نفسها، فالجامعة مجتمع تربوي متكامل، يعكس كل صفات المجتمع التربوية، وتتعاون؛ لتكوِّن حياة البشر، وهي ليست عددًا من الطلاب والأساتذة والمعامل يجمع بينهم المكان فقط، بل تفاعل الأفكار والآراء بين هؤلاء؛ لتهَبَ التعليم الجامعى النشاط والحركة والعطاء والاندماج، وتمنح الجامعة هيكلًا للمعرفة، ومملكة للعقل، ووعاءً للفكر الحر، وطريقًا قويمًا مفتوحًا إلى الحرية والإبداع.
إن الطلاب عندما يأتون إلى الجامعة؛ يأتونها ورؤوسهم مملوءة بالأحلام عن حرية الفكر وحق الإنسان في المعرفة، ومسئولية الجامعة هي أن تكون عند حسن ظنهم، فتعدَّ لهم أسباب النضج ، وتعجل بخطاهم إلى الوعي العلمي، وتعزيز وعيهم لذواتهم، وتدعيم هذا الوعي باحترام أفكارهم، بل حتى عندما تبدو هذه الأفكار قاصرة في معيار الأستاذ، وهي لا ريب قاصرة عن ذلك في أول الطريق، وإلا لما كانوا طلابًا يتتلمذون على أيدي أساتذتهم، وإجمالًا فإن الشباب يدخلون الجامعة ويعتبرونها ركنًا من أركان إدراكهم للعالم؛ لأن الوصول إلى الجامعة يعني في بعض ما يعنيه إجازة إلى وعي الذات، والشعور بالأمن والاستقلال والحرية الأكاديمية".
وتتضمن الحرية الأكاديمية لطالب الجامعة حرية اختياره الكلية التي يرغب في الالتحاق بها، والتخصص العلمي الذي يتناسب مع قدراته، واختيار المقررات الدراسية، واختيار توقيت الامتحانات ، وحريته في التعبير عن آرائه وأفكاره، و حقه في تكوين المنظمات العلمية، وممارسة الأنشطة الطلابية التي من خلالها يكون للطلاب صوت ومشاركة حقيقية في الجامعة تمكّنهم من المطالبة بحقوقهم التي تكفلها لهم اللوائح والقوانين الجامعية، ومن ثم تنبع أهميتها بالنسبة لهم من حيث كونها تدريب وتنمية لكافة جوانب شخصية الطالب، والتعامل مع الآخرين واحترام آرائه والشجاعة في إبداء الرأي وتكوين الشخصية المستقلة الموضوعية.
فالعمل التعليمى الجامعي كما أوضح (علي، 2005) "ليس مجرد تزويد الطالب بكمٍّ من المعارف والمعلومات، وإنما الجامعة "بيئة" اجتماعية وثقافية ذات مواصفات خاصة تسهم في إعادة صياغة الإنسان.
لقد اتجهت الجامعات العربية كما أوضح "الفيصل"96" إلى تضييق حدود الحرية المعنوية للإنسان؛ فكبلته بقيود الرقابة والمحرمات والمقدسات، ومنعت عنه حرية التعبير عن آرائه، وغرست فيه الخوف من النقد، ودربته على الاستلاب الفكري، وقبول الواقع، وأبعدت عن عقله فكرة مقاومة السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والفساد السياسي، ودرَّبته على الثناء والمديح ، وأجرت على لسانه بعض الكلمات مثل الشفافية والمصداقية... وغيرها.
إن المتأمل للواقع الجامعي العربي يلحظ عدة أمور مريرة يأتي في مقدمتها غياب الديمقراطية الحقة في المجتمع العربي والأكاديمي على وجه الخصوص، ولعل أبرز مظاهرها: (مصطفى، 1996)
- إشغال الأجيال العربية الشابة المقبلة على العلم، بعلوم لا تندرج البتة في حاجة المجتمع العربي للمعرفة المناسبة appropriate knowledge لإنقاذ الإنسان العربي من حالة التخلف والجهل والفقر والمرض.
وبث حوارات فكرية تشكك بأصول الحضارة العربية الإسلامية، وتدعو من وراء ستار المدنية العلمانية إلى تمرد على تلك الأصول الحضارية السامية.
- طرح مقررات أكاديمية تنطوي على معتقدات تخالف بشكلٍ ما تلك التي نهض عليها كيان المجتمع العربي، وخاصة تلك التي تنكر على الدول العربية التحالف والوحدة، والتكامل، والاعتماد على الذات، وعودة المدرسة العلمية العربية.
- نشر أفكار تبرر وتضعف الهوية الحضارية العربية، وذلك عبر تزويد الخريجين بتعاليم غربية مادية وسلوكيات لا تنتمي للوجود العربي المدني من جهة، وترسخ تبعية الشباب للفكر والممارسة الاستعمارية السائدة.
- بذر نوى سياسية وطنية شابة، تحررية الظاهر، استعمارية الباطن؛ لتعمل بعد تخرجها، ومن داخل الأطر الجماهيرية العربية التحررية على صرف شرارات التوقد التحرري، وعلى تضليل تلك الأطر من ترسيخ مسارها الحق نحو الوحدة والحرية وبناء الذات.
- وأخيرًا شغل الباحثين الأكاديميين العرب بمسائل نظرية تحطّ في آخر السعي عند أفكار ومعتقدات عملية نضج الإنسان العربي عند إدراك مجريات التطور المدني والتقدم التقني العالمي".
وأوضح "صيداوي"2002"أن ما نسميه بالجامعات العربية في غالبيتها ليست إلا مدارس للتعليم الجامعي، يمارَس فيها التعليم بواسطة الحفظ والتلقين ودراسة الكتب الكلاسيكية؛ لذا أفرزت هذه الجامعات قيادات هزيلة لم تتمكن من إحراز أي تغيير جذري في بنية المجتمعات العربية".
ويستمر "زاهر"2004" في وصف سلبيات كثيرة انتقصت من وضع الحرية وديمقراطية التعليم وأهميتها وقيمتها في التعليم المصري؛ مما جعله تعليما مفلسا فاقدا الحرية والوظيفة، وأجْمٍل تلك السلبيات في النقاط التالية:
- إلزامية التعليم من ناحية، وعدم إتاحة التعليم الجامعي لشريحة كبيرة من أبناء الوطن من ناحية أخرى، وذلك لقصور الإمكانيات المالية والفنية والبشرية .
- عدم توافر مدارس أو جامعات (كليات) بما يلبي الطلب الاجتماعي المتزايد على التعليم، مما أدى إلى ارتفاع نسبة المحرومين من التعليم ممن ينتمون إلى الطبقات المهمشة. وهذا النقص في الكفاية العددية أو المادية أو المكانية قد صاحبه نقص في الكفاية النوعية تمثّل في:
* ثقافة جامعية ذات طبيعة قومية موروثة من تعليم الصفوة الأكاديمي، ولا تتماشى مع تنوع الميول واختلاف العادات والقدرات.
* ثقافة ذاكرة محصورة في عالم الكتب ولا تنمّي غير ملكة الحفظ، ولا صلة لها بالحياة العملية أو القدرات العقلية العليا.
* تعليم ضعيف غير ديمقراطي يتمثّل فيما أطلق عليه باولو فريري بتعليم المقهورين يتصف يإيجابية الأستاذ واستبداديته أمام سلبية المتعلم وانقماعه.
* أساليب تدريس تقليدية عقيمة وفنيات تقويم فاعليتها وعوائدها ضعيفة، مع تقلص أو تلاشي الأنشطة الجامعية التي تكون شخصية الفرد ملامحها".
على أية حال فإن المجتمع الجامعي هو مرآة بصورةٍ ما للمجتمع الأصل، ولا يزال الطالب في نظامنا التعليمي الجامعي مكبلًا بالأغلال، ويمارس العدوان عليه وتخريب الشخصية يتم باللاوعي وبالوعي أيضًا، ولا يزال مكتب التنسيق هو الفيصل في توزيع الطلاب على كليات الجامعة استنادًا إلى مفهوم ضيق يعتمد على الدرجات محصلة التحصيل والحفظ في الشهادة الثانوية ، ولا يولي أهمية ولو ضئيلة لميولهم وقدراتهم، فنحن قد سلبنا المبادرة من الشباب عندما وزعناهم على الكليات حسب إرادتنا لا إرادتهم، وسلبناهم إرادتهم مرة أخرى بعد تخرجهم فوزعناهم على وظائف لا وجود لها، أوليست من اختصاصهم".
إن الحرية الأكاديمية بالشكل الذي تقدّم تعد مطلبًا ضروريًّا لا غنى للحياة الجامعية عنه، ففي ظلها ينمو الفكر، وتزدهر المعرفة، وتبرز المواهب، وبدونها يصعب على الجامعة أن تؤدي رسالتها على خير وجه، وإذا كانت هذه الحرية مهمة وضرورية لكل المجتمعات الإنسانية فإنها للمجتمع الأكاديمي على وجه الخصوص أكثر أهمية، انطلاقًا من كثرة الأخطار المصيرية المحيطة به، ولا شك أن الحد من هذه المشكلات يتطلب وجود المفكرين والمثقفين الواعين، وخير مناخ يساعد في إعداد وتكوين هؤلاء المثقفين هو المناخ الجامعي الذي يتسم بحرية الرأي والفكر والتعبير عن الذات.
وهنا يكمن جوهر التربية الجديدة التي نحتاج إليها في المجتمعات العربية خاصة من خلال المؤسسات الجامعية، تربية تُعِدّ لنا مواطنين حسنيْ النيات ومتنورين، فالتنشئة على التنوير العقلاني وعلى ممارسة الحرية هما الضمانة القوية ضد انزلاق هذه المجتمعات مرة أخرى إلى مسلكيات العنف والعنف المضاد اللذين عرفتهما خلال العصر الحالي، فالمطلوب هو تحرير المؤسسة التربوية العربية من التسييس، والتحول بها إلى نمط فكري يتمركز حول الإنسان Anthropocentric يكون فيه الإنسان وحريته موضع الدرس العملي والعلمي وغايته ".
المراجع
- الفيصل، سمر روحي (1996)، العمل الثقافي العربي المشترك، مجلة شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد (82) .
- رضا، محمد جواد (2006)، العرب والتربية في القرن الجديد، التحدي الصعب والاستجابات الممكنة، مجلة العلوم التربوية والنفسية، المجلد (1)، العدد(1)، كلية التربية، البحرين .
- زاهر، ضياء الدين (2004)، الإنفاق على التعليم المصري وتمويله، دراسة تحليلية، منتدى الإصلاح العربي في مصر، مكتبة الإسكندرية، مؤتمر إصلاح التعليم في مصر الواقع والتطلعات ، 8 – 10 ديسمبر.
- صيداوي، أحمد (2002)، تأملات حول مستقبل التعليم العالي العربي، مطبوعات اليونسكو الإقليمي للتربية، عمان.
- عدنان مصطفى (1996)، مسألة الجامعات العربية، منظور القبور الحية، مجلة عالم الفكر، المجلد الرابع والعشرون، العددان الأول والثاني، يوليو – ديسمبر.
- علي، سعيد إسماعيل (2000)، موقع الجامعة بين المشاركة السياسية في مصر، دراسة مقدمة إلى المؤتمر القومي السنوي السابع، مركز تطوير التعليم الجامعي، "الجامعة في المجتمع"، جامعة عين شمس، 21-22 نوفمبر.
- علي، سعيد إسماعيل (2005)، التعليم العالي بين كمه وكيفه (من التراخي في القبول إلى التردي في المخرجات)، مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، المؤتمر السنوي الثامن عشر للبحوث السياسية "التعليم العالي في مصر" خريطة الواقع واستشراف المستقبل"، 14-17 فبراير، القاهرة.
- وطفة، علي أسعد (2000)، الأداء الديمقراطي للجامعات العربية، مجلة بحوث ودراسات العدد (68)، السنة (17).
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.