بحث بعنوان (امرؤ القيس: حياته، سماته وخصائص شعره) المقدمة: حمدًا لمن خلق الإنسان وخصه بالعقل والبيان. وصلاة وسلامًا على نبيه محمد أفصح العرب لسانًا، وأوضحهم بيانًا، وأسلمهم لغة، وأجودهم مثلًا، وبعد: الشعر نمط من اللغة فنيّ ؛ فكما نولد جميعًا مفطورين على اكتساب اللغة، يولد بعضنا مفطورين على اكتساب فن اللغة وكما نحتاج جميعًا إلى من نكتسب منهم لغتهم لتصير لغتنا، يحتاج بعضنا إلى من يكتسبون منهم فنهم اللغوي ليصير فنهم. إن كلَّ من حولنا قرباء وغرباء، كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا، يعلّموننا اللغة، ما لم يَصُدّوا عنا أو نَصُدَّ عنهم. وليس كلُّ من حولنا يعلّمون فنّ اللغة، ولو شدَّ بعضُهم يدَه بغَرْز بعض. إنما يعلِّمُهُمُوهُ طائفةٌ عزيزة انمازت من سائر الناس فسميت (الشعراء)، كما انماز كلامهم من سائر الكلام فسمي (الشعر). ولأمرٍ ما كانت أُسر الشعراء منذ أوّلية الشعر العربي؛ فمُهَلْهِل خال امرئ القيس وجَدُّ عمرو بن كلثوم لأمه، وأكبر المرقـِّشَيْن عم الأصغر، والأصغر عم طرفة؛ يتعلّم الولد من أبيه أو من هو بمنزلته، كما تعلّم هذا من أبيه أو من هو بمنزلته، سُنّةً مستمرة ولا يجوز الاعتراض بأنها سنة في الاكتساب سيّئة، غير صالحة للفن؛ لأنها تُخرج صورًا منسوخة عن
أصلها، ليس فيها غير موات التقليد، والفن رهين الإبداع الذي هو رهين الانقطاع من الماضي وهدم المألوف، ففضلًا عن أن التقليد نفسه هوالمرحلة الفنية الحتمية الأولى لا يكون حَديث إلا بعد قديم، ولا يعرف حديث إلا بقديم.
أهداف البحث: فى هذا البحث أتمنى من الله ـ عز وجل ـ أن أصل فيه إلى : 1 – التعريف بالشاعر وحياته ونشأته ومولده. 2 – المراحل التى مرت بها حياة الشاعر وأثرها على شعره. 3 – السمات العامة فى شعر امرؤ القيس. هيكل البحث: البحث مقسَّم إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: امرؤ القيس المطلب الأول: مولده ونشأته المطلب الثاني:: نهاية حياته الفصل الثاني: المراحل التى مرّت بها حياة الشاعر وأثرها على شعره المطلب الأول: المرحلة الأولى المطلب الثاني: المرحلة الثانية الفصل الثالث: السمات العامة فى شعر امرؤ القيس المطلب الأول: السمات الشخصية المطلب الثاني: قسمات عامة في مسيرته الشعرية الخاتمة. المراجع. الفهرس.
الفصل الأول: امرؤ القيس المطلب الأول: مولده ونشأته: مولده ونشأته: امرؤ القيس بن حجر الكندي واسمه حُندج(520 م - 565 م) شاعر وفارس عربي إذ روى الأصمعي أن أبا عبيد سئل في خير الشعراء فقال: "امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب". وهو أحد أشهر شعراءالعصر الجاهلي رأس الطبقة الأولى من الشعراء العرب والتي تشمل زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني والأعشى، كما أنه أحد أصحاب المعلقات السبعة المشهورة كان من أكثر شعراء عصره خروجًا عن نمطية التقليد، وكان سبّاقًا إلى العديد من المعاني والصور. وامرؤ القيس صاحب أوليات في التشابيه والاستعارات وغير قليل من الأوصاف والملحات؛ إذ كان أول من بكى وتباكى وشبه النساء بالظبيان البيض وقرون الماعز بالعصي. نسبه: حندج بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر (آكل المرار) الِكندي وله ثلاث كنى وهي: أبو وهب وأبو الحارث وأبو زيد. اشتهر بلقب إمرئ القيس ومعناه: رجل الشدة، لقّبه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملك الضلّيل، وعُرف بذي القروح؛ لإصابته بالجدري خلال عودته من القسطنطينية. وتوفي بسببه وكندة قبيلة يمنية عُرفت في النصوص القديمة باسم (أعرب سبأ) أقاموا مملكة في نجد والبحرين بلغت أوجها في القرن الخامس للميلاد. وولد شاعرنا هذا في نجد في اليمامة عند أخواله من بني تغلب، إذ قيل أن أمه كانت أخت المهلهل بن ربيعة، وهي فاطمة بنت ربيعة. وقيل إن أمه تملك بنت عمرو الزبيدية من مذحج، ومن أشعاره حول نسبه يقول: "تطاول الليل علينا دمون دمون إنا معشر يمانيون وإنا لأهلنا محبون". ولادته: يذهب لويس شيخو إلى أن امرأ القيس ولد في نجد سنة 520 م - يذكر صاحب الروائع أن ولادته سنة 500م وعلّق على ما قاله شيخو بصدد تاريخ ولادته قائلًا: "قد رجعنا... ما يذكره مؤرخو الروم عن شاعرنا، وقارنّا بين حوادث حياته وما جرى على عهده في البلاد العربية. فرأينا أن نأخذ برأي دي برسفال الجاعل ولادته حول سنة 500 م ووفاته حول 540 م". نشأته: ولد في نجد ونشأ ميّالًا إلى الترف واللهو شأن أولاد الملوك وكان يتهتك في غزله ويفحش في سرد قصصه الغرامية وهو يعتبر من أوائل الشعراء الذين أدخلوا الشعر إلى مخادع النساء كان ماجنًا كثير التسكع مع صعاليك العرب ومعاقرًا للخمر (520 سلك امرؤ القيس في الشعر مسلكًا خالف فيه تقاليد البيئة، فاتّخد لنفسه سيرة لاهية تأنفها الملوك كما يذكر ابن الكلبي حيث قال: كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح وشرب الخمر وسقاهم وتغنّيه قِيانه، لا يزال كذلك حتى يذهب ماء الغدير وينتقل عنه إلى غيره. التزم نمط حياة لم يرُق لوالده؛ فقام بطرده وردّه إلى حضرموت بين أعمامه وبني قومه أملًا في تغييره. لكن حندج استمر في ما كان عليه من مجون وأدام مرافقة صعاليك العرب وألف نمط حياتهم من تسكّع بين أحياء العرب والصيد والهجوم على القبائل الأخرى وسبي متاعها. وقال ابن قتيبة: "هو من أهل كندة من الطبقة الاُولى. كان يعدّ من عشّاق العرب".
ديانته: كان دين امرئ القيس الوثنية وكان غير مخلص لها. فقد رُوي أنه لمّا خرج للأخذ بثأر أبيه مر بصنم للعرب تعظمه يقال له ذو خلصة. فاستقسم بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فأجالها فخرج الناهي. فعل ذلك ثلاثًا؛ فجمعها وكسرها. وضرب بها وجه الصنم. وقال: "لو كان أبوك قُتل ما عققتني". المطلب الثاني: نهاية حياته: نهاية حياته: لم تكن حياة امرؤ القيس طويلة بمقياس عدد السنين ولكنها كانت طويلة وطويلة جدًّا بمقياس تراكم الإحداث وكثرة الإنتاج ونوعية الإبداع. لقد طوّف في معظم أرجاء ديار العرب وزار كثيرا من مواقع القبائل بل ذهب بعيدًا عن جزيرة العرب ووصل إلى بلاد الروم إلى القسطنطينية ونصر واستنصر، وحارب وثأر بعد حياة ملأها في البداية باللهو والشراب، ثم توجّها بالشدة والعزم، إلى أن تعب جسده وأنهك وتفشّى فيه وهو في أرض الغربة داء كالجدري أو هو الجدري بعينه؛ فلقي حتفه هناك في أنقرة في سنة لا يكاد يجمع على تحديدها المؤرخون، وإن كان بعضهم يعتقد أنها سنه 540م، وقبره يقع الآن في تلة هيديرليك بأنقرة. لقد ترك خلفه سجّلًا حافلًا من ذكريات الشباب وسجّلًا حافلًا من بطولات الفرسان وترك مع هذين السجّلين ديوان شعر ضمّ بين دفتيه عددًا من القصائد والمقطوعات التي جسّدت في تاريخ شبابه ونضاله وكفاحه. وعلى الرغم من صغر ديوان شعره الذي يضمّ الآن ما يقارب مئة قصيدة ومقطوعة إلا أنه جاء شاعرًا متميزًا فتح أبواب الشعر وجلّى المعاني الجديدة ونوّع الأغراض واعتبره القدماء مثالًا يُقاس عليه ويحتكم في التفوق أو التخلف إليه. ولذلك فقد عني القدماء بشعره، واحتفوا به نقدًا ودراسة وتقليدًا، كما نال إعجاب المحدثين من العرب والمستشرقين، فأقبلوا على طباعته منذ القرن الماضي (القرن التاسع عشر) في سورية ومصر وفرنسا وألمانيا وغيرها من البلدان التي تهتم بشؤون الفكر والثقافة. الفصل الثاني: المراحل التى مرت بها حياة الشاعر المطلب الأول: المرحلة الأولى في المرحلة الأولى، نرى الملك الضليل يَعْمَه في لهو وصيد وفراغ عامر بالأوقات الممتعة، والخروج على طاعة أولي الأمر من آباء وشيوخ تمرسوا بتقاليد القبائل العريقة...
فكان الرفض والاصطدام، وكان التشرد والعبث وتعويضٌ بحياة لا يترتب عليها أي مسئولية. فقد جاء في الأخبار أن حجرًا طرد امرأ القيس أنفة من قوله الشعر، فخرج الفتى في أحياء العرب ومعه أخلاط من العرب، ينشد غديرًا أو روضة، فأقام وذبح لمن معه، ثم خرج إلى الصيد فتصيّد، ثم عاد، فأكل وأكلوا معه، وغنته قيانه. إلى أن جاءه خبر مقتل أبيه، وهو بـدمُّون (إحدى ثلاث مدن لكندة، في اليمن). وقيل إن الخبر ورده وهو في مكان كثير البان يسمّى صيْلع... وكان مع نديم لم يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد. فقال: "تطاول الليل علينا دمُّونْ دمون إننا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون"، وأضاف: "الخمر عليّ والنساء حرام، حتى أقتل عن بني أسد مائة، وأجز نواصي مائة". ثم قال: "ضيّعني صغيرًا، وحمّلني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر". فلما كان الليل، لاح له برق فقال: "أرقت لبرق بليل أهل يضيء سناه بأعلى الجبل بقتل بني أسد ربهم ألا كل شيء سواه جلل". ولو تأمّلنا المغزى الذي تضمّنته مقولته الوجدانية: "ضيّعني صغيرًا"؛ لرأينا خلفها قصة الشاعر الفتى، وعنوان ضميره وسلوكه حينئذ. فالتضييع فعل الأب، والضياع فعل الابن... وهو يعني ـ في أبسط أشكاله ومراميه ـ: التخلي، سواء بفعل الخروج على سنن الخلق القبلي أو الملكي، أو بفعل القسوة التي تلقّاها الابن من والده، وغياب العناية التربوية التي يفترض حصولها من أب حيال ولده الذي لا يطاوع والده في الخط الاجتماعي والخلقي المرسوم. المطلب الثاني: المرحلة الثانية المرحلة الثانية أو (رحلة الثأر والنهاية) وفيها يسطر الرواة شريطًا من الأخبار المتداخلة والمتضاربة، وصولًا إلى الشكّ والمراجعة، كما هي حال عميد الأدب العربي طه حسين، ومع ذلك لا نرى بدًّا من الأخذ بها؛ لأن رفضها يستدعي رفض معظم ما يتعلّق بالشاعر وعصره، جملة وتفصيلًا.
ومما ذُكر أن امرأ القيس أخذ يعدّ العدة للانتقام من قتلة أبيه، فاتّجه بادئ ذي بدء، إلى الأقربين وهم أخواله من بني بكر بن وائل وتغلب الذين أجابوه لطلبه، فجهزوا ما يحتاج إلى ثأره من الجند والعتاد، فأدرك علباء بن الحارث الكاهلي ـ الذي كان حجر قتل أباه ـ خطة امرئ القيس، وأنذر قومه بالخبر، ونصحهم بالرحيل، فرحلوا وحلّوا في بني كنانة، ثم انتقلوا إلى مكان آخر بعد أن علموا بقدوم امرئ القيس إليهم، وكان ذلك بتدبير علباء ومعاونته. وأقبل امرؤ القيس على بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: "أبيت اللعن! لسنا لك بثأر. نحن من بني كنانة، فدونك ثأرك، فاطلبهم، فإن القوم قد ساروا بالأمس". فتراجع، وقصد بني أسد من جديد، حتى أدركهم وهم جامّون على ماء فنال منهم خلقًا كثيرًا، حتى كثر الجرحى والقتلى. وتمضي الروايات فتقول إن المنذر بن ماء السماء أمير الحيرة لكسرى أنو شروان، تطلّب الشاعر، فخاف هذا الأخير، وخرج على وجهه حتى وقع في أرض طيء، فأكرمه هؤلاء، ونعم بقليل من الراحة والاستقرار؛ لأن الطائيين قد بذلوا له وأعانوه، ولكن المنذر لم يزل يطارده، فاضطر إلى الرحيل عنهم، قاصدًا عمرًا بن جابر بن مازن الفزاري الذي أكرمه، ونصحه بالتوجّه إلى السموأل بن عادياء، بتيماء، فهو في حصن حصين، ويمنعه من كل معتد، فوافق امرؤ القيس، وكان دليله إليه الربيع بن ضبع الفزاري، وهو ذو مكانة عالية، فقرّبه عند السموأل. فنزل عنده امرؤ القيس وأودعه ابنته وأدراعه وأمواله، وتوجّه من هناك إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، في الشام، ليكون وسيطه إلى قيصر الروم جوستنيانوس، وهو في القسطنطينية. وكان رفيق امرئ القيس إلى ملك الروم، الشاعر الجاهلي عمرو بن قميئة، وهو من قدماء الشعراء في الجاهلية، "وأنه أول من قال الشعر من نزار، وهو أقدم من امرئ القيس، فمات معه في طريقه، وسمته العرب عمرًا الضائع لموته في غربة، وفي غير أرب وغير مطلب". بل روي أنه كان من أشعر الناس، وأنه كان من خدم والد امرئ القيس، وأنه بكى وقال لامرئ القيس: "غرّرت بنا". فأنشأ امرؤ القيس فيه شعرًا، وأشهره البيتان المأثوران: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه****وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنما****نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا وفي طريقه إلى قيصر الروم، مرّ الشاعر بالشام وفيها بعلبك وحمص وحماة وشيزر... ويحوك الرواة أخبارًا وقصصًا يغلب عليها طابع الخيال والانتحال، فيصعب تصديقها. منها أن قيصر قد كرمه وجعل له مقامًا في قصره، وأن ابنته قد عشقته، وكان بين الاثنين مطارحات غرامية. ثم أن قيصر نادمه وأمده بجند كثيفة تمكنه من قتال بني أسد والثأر منهم. ومن قصصهم أيضًا، أن رجلًا من بني أسد يقال له الطماح بن قيس، أخبر القيصر بحقيقة امرئ القيس ونواياه، قد شبّب بابنة الملك وقال فيها أشعارًا يفضحها ويفضحه...
فصدّق القيصر ذلك، فبعث إليه مع الطماح، بحلة مسمومة منسوجة بالذهب، قائلًا: "إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها، تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إليّ بخبرك من كل منزل". فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها. فأسرع فيه السم وسقط جلده؛ فلذلك سُمّي (ذو القروح). وقال في ذلك. لقد طمح الطماح من بعد أرضه****ليلبسني من دائه ما تلبّسا وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة****فيا لك نعمى قد تحوَّل أبؤسا ويذكر الرواة أن امرأ القيس كان قبل وصوله إلى القسطنطينية، مصابًا بداء قديم عاوده أثناء عودته إلى دياره، فلما وصل إلى أنقرة، اشتد عليه المرض فمات هناك. وقبيل وفاته، رأى قبر امرأة مدفونة في سفح جبل يقال له عسيب. فسأل عنها فأخبر بقصتها فقال: أجارتنا إن المزار قريب****وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان ههنا****وكل غريب للغريب نسيب ثم مات، فدفن إلى جنب المرأة. فقبره هناك. ويعلّق شوقي ضيف على هذه الأخبار - وبخاصة في مرحلة الثأر - قائلًا إنها منحولة، والتلفيق فيها واضح، وأن الأصل الذي تستند إليه هو أن يكون امرؤ القيس حاول عبثًا استرداد ملك آبائه، ولكنه مات دون تحقيق غايته. الفصل الثالث: السمات العامة فى شخصية امرئ القيس وشعره المطلب الأول: السمات الشخصية سماته وطوابعه الشخصية أفادنا الإخباريون أن امرأ القيس كان جميلًا وسيمًا. وشبب بنساء عدّ منهن ابن قتيبة ثلاثًا هن: - فاطمة بنت العبيد العامرية، التي يقول فيها: أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل****وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي - وأم الحارث الكلبية التي يقول فيها: كدأبك من أم الحويرث قبلها****وجارتها أم الرباب بمأسل - وعنيزة، صاحبة (يوم دارة جلجل). وهناك نساء أخريات وردت أسماؤهن في شعره، وفي أخباره المروية، كأمّ جندب، وزوجته هند الكندية، وابنة القيصر، وسواهنّ. المطلب الثاني: قسمات عامة في مسيرته الشعرية لئن اختلف الرواة والإخباريون في معالم حياته وشخصيته، وتناقلوا أخبارًا غير متفقة الغرض والسياق، فقد اتفق النقاد أن امرأ القيس شهاب ساطع في سماء الشعر العربي، ومحطة كبرى وأولى في دروب الشعر، وطوابعه على مر العصور العربية. فقد جعله ابن سلّام في أول الطبقة الأولى من الشعراء، يليه كل من النابغة الذبياني، وزهير، والأعشى...
وسئل الفرزدق، من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح، يعني امرأ القيس. ومن جعله كذلك، فقد انطلقوا من شاعرية متفردة، وأساليب شعرية غير مسبوقة، فإذا بها تصبح مع الأيام والعصور، سننًا وطرائق لا سبيل إلى تجاوزها أو حتى تغييرها وتطويرها. من ذلك: (استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ. وشبّه النساء بالظباء والبيض، وشبّه الخيل بالعقبان والعصيّ، وقيّد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى). وذكر له المرزباني بيتين هما في نظره، أفخر ما قال، وهما: فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة****كفاني، ولم أطلب، قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثّل****ورقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وتوقّف المرزباني أيضًا، عند اشتداد الهم في الليل، أو اقتصاره على الليل، فجعله امرؤ القيس في الليل والنهار على السواء، وذلك في قوله، من معلقته: ألا أيها الليل الطويل ألا انْجلي****بصبح، وما الإصباح منك بأمثل ومما توقف عنده النقاد، شعره الذي تمثلت به الأجيال وحفظته الذاكرة، وفي رأسه أو قل: رأس الشعر العربي، مطلع معلقته، الشهير: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وقوله: وقد طوّفْتُ في الآفاق حتى****رضيتُ من الغنيمة بالإياب وقوله: وإن شفائي عبرة مهراقة****فهل عند رسم دارس من معول؟ وقوله في وصف السرعة الخاطفة في عدو فرسه: مكر مفر، مقبل مدبر، معًا****كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ هذا الشعر، لم تحفظه الأجيال فقط، بل نهلت منه قرائح الشعراء، فانكبّوا عليه يتدارسونه ويستوحون منه معانيهم وصورهم وأساليبهم، يعودون فيه إلى اللبنات الشعرية الأولى، والمداميك المنصوبة في مهد الإنشاء العربي. وهذا لا يعني أن امرأ القيس كان ملكًا متوجًا في كل شيء، أو أن عين الرضا والإعجاب المتأصّلة في مقامه الشعري، قد أغفلت عن سوءاته ومعايبه، بل كان الشعر سبيله الطبيعي العفوي في التعبير عن معاناته وخطرات قلبه ولسانه، يلهج به كيفما يحلو له، وينساق عبره انسياق أنسام البوادي، يختلط فيها الهجير المحرق، والشمأل الباردة مع الأسحار. فمنهم من تقبل ذلك ورأى فيه ينبوع الرضا والجمال، ومنهم من عاين جيدًا، ورصد النتوءات، وأحصى المعايب. الفريق الأول يرى من منظار اللغويين والنحاة والعروضيين الأوائل الذين جعلوا كلّ ما يصدر عن الأعراب مصادر لقواعد اللغة ونحوها وصرفها مهما بلغ الشذوذ والشطط والإغراب... وهؤلاء يمثلون معظم الدارسين والنقاد.
أما الفريق الثاني، فهم الذين تجاوزوا الأعراق والسنن، وحكّموا ذائقة العقل، فهالهم ما وجدوا في شعر امرئ القيس من نواقص وعيوب، وخروج على القاعدة النحوية... وقد مثّل الفريق الأول قدامة بن جعفر (ت338 هـ) ومثّل الفريق الثاني أبو عبيدالله المرزباني (ت 374هـ) فأحصى له قرابة عشرة مواضع، أسفّ فيها، ووقع في الابتذال وعدم مراعاة الذوق الشعري أو العروضي السائدين. ومع ذلك فقد وجد هناك من يعذر امرأ القيس في شعره المعيب، ويرى أن ما وقع فيه من غلط، هو من سوء تفسير الرواة أكثر مما هو من امرئ القيس. كما وجد من جعله ينبوع الشعر الذي تفجّر من حجارة لا تبلى، "فخسف للشعراء عن الشعر، فافتقر عن معانٍ عور أصح بصرًا". "وافتقر: فتح. والمعاني العور: كناية عن نسب الشاعر اليمني الذي ليس له فصاحة أهل الشمال". ومهما يكن، فإن الحديث عن أصالة شعرية، وأسبقية أو ريادة لدى صاحب (قفا نبك) مسألة لا تغيّر من واقع الحال التي هو عليها، ولا تقدم أو تؤخر في رتبته ومقامه الأدبي العرقي الذي تزامن مع مقامه السياسي الاجتماعي. فكان ملكًا في الشعر، وملكًا في بيئته وتاريخه، صقلت ملكيته وأذكت وهجها، صدمة اليقظة الوجدانية والوجودية التي نجمت عن مقتل مفاجئ لرمز من رموز العظمة والملكية في حياته وحياة العصر، ألا وهو والده الملك الكندي المقتدر حجر بن الحارث. وإذا كانت ملكيته السياسية والاجتماعية قد ورثها عن آبائه وأجداده، عبر الأزمنة، فإن زعامة الشعر قد اصطنعها بيديه، وأنشأ نفسه عليها تنشئة متأنية واعية، باذلًا في سبيلها كل ما يملك، مضحّيًا بأغلى حقوقه الموروثة، ومنها الزعامة العشائرية المتأصلة. وقد أحسن أحمد حسن الزيات، في قوله، ملخِّصًا مزاياه النفسية السلوكية والفنية الشعرية: "فيه عزة الملوك، وتبذّل الصعلوك، وعربدة الماجن، وحميّة الثائر، وشكوى الموتور، وذلّة الشريد. وهو بإجماع الرواة، زعيم الجاهليين.." الخاتمة: وعلى الجملة، فإن ما سطّرته في صفحات هذا البحث عن امرئ القيس، ليس نقدًا ولا تقويمًا، بل هو أقرب إلى العرض والتقويم اللذين يسمحان لنا بالدخول إلى عالمه الشعري الرحيب، وتلمّس الخطى المستوية الواعية، طلبًا للصورة الفنية الخالبة، والاستعمال العربي اللغوي المتقن. وقد أحسن أحمد حسن الزيات، في قوله، ملخِّصًا مزاياه النفسية السلوكية والفنية الشعرية: "فيه عزة الملوك، وتبذّل الصعلوك، وعربدة الماجن، وحميّة الثائر، وشكوى الموتور، وذلّة الشريد.. وهو بإجماع الرواة، زعيم الجاهليين..."
المصــــادر : 1 - الأصمعيات. اختيار الأصمعي. تحقيق: أحمد شاكر، وعبد السلام هارون – ط. القاهرة 1979م. 2- الأغانى، لأبي الفرج الأصبهاني. تحقيق: عبد الستار فراج – ط. بيروت 1955م وما بعدها. 3 - مجلة العربي العدد 656 - 2013/7 - تاريخ وأشخاص وتراث - ياسين الأيوبي 4 – ديوان امرئ القيس. الفهرس الموضوع الصفحة المقدمة 2 أهداف البحث 4 هيكل البحث 5 الفصل الأول: امرؤ القيس المطلب الأول مولده ونشأته 7 المطلب الثاني: نهاية حياته 8 الفصل الثاني: المراحل التى مرّت بها حياة الشاعر المطلب الأول: المرحلة الأولى 12 المطلب الثاني: المرحلة الثانية 14 الفصل الثالث: السمات العامة فى شخصية امرئ القيس وشعره المطلب الأول: سماته وطوابع شخصيته 16 المطلب الثاني: قسمات عامة فى مسيرته الشعرية 17 الخاتمة 21 المراجع 22 الفهرس 23
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.