فى البداية أحب أن أشير إلى أن الكاتب وائل وجدى قد قسم مجموعته القصصية(1) إلى ثلاث لوحات تضم كل لوحة تحتها عنوانات قصصية فهناك لوحة( رائحة الأيام)ولوحة(دبيب الروح مرة أخرى) ولوحة(النجم المسافر)وأخيراً(انعتاق) ولم تشدنى معظم هذه اللوحات إلا قليلاً من جهة البناء والدلالة، ولهذا الحكم النقدى جولة أخرى لتبريره جمالياً ولكن ما شدنى حقاً فى هذه المجموعة اللوحة الرابعة (انعتاق) وهى اللوحة الأخيرة وما اندرج تحتها من عناوين قصصية متعددة التجارب، والأشكال الجمالية، ولكن الغالب عليها هو الشكل الرمزى الفياض بالإيحاءات والإيماءات الشعورية والفكرية معا،ً وكان الكاتب فى هذه اللوحة الأخيرة على وعى بفنية البناء للقصة القصيرة فهو يقدم أشكاله الرمزية عبر لقطة سريعة مكثفة، أو مشهد مضغوط أو موقف إنساني مكثف أو حتى انطباع خاص عن جو من الأجواء حتى ليقارب فى هذه التشكيلات الرمزية مصطلح (شعر الفكرة) الذى شاع بين الشعراء الرومانسيين وكان قائدهم فى ذلك الشاعر الوجدانى المعروف (عبد الرحمن شكرى) الذى صور الأفكار وجسدها شعرياً كفكرة الفرح وفكرة الحزن وفكرة الموسيقى وفكرة الغيرة إلى أخر ذلك وتبعه فى ذلك كل من (أحمد زكى أبوشادى) وجميع الشعراء الرومانسيين ،وبالطبع فإن الحدود الفارقة بين كل من بنية القصيدة وبنية القصة القصيرة حدود هشة،فثمة تداخل وثيق بين بنية القصيدة وبنية القصة القصيرة ،يتحدد ذلك فى التكثيف اللغوى، والبناء الفنى الصارم ،الذى لا يزيد ولا ينقص حتى ليساوى الحسم الدلالى بين الدال والمدلول، فليست القصة القصيرة (ديباجة مرصعة،ولاألفاظا منسقة ،ولاأحداثا لافتة ولا حركة عنيفة، ولاعقدة دقيقة، ولا حبكة متينة ،بل هى همسة،أو لمسة حقيقية أو دمعة أو مسقط ظل أوإشعاع ضوء) (2)
ومن هنا كانت الصعوبة الجمالية الشائكة لدى وائل وجدى فى مجموعته القصصية. فهل استطاع أن يحقق التوازنات الجمالية المرهفة بين متطلبات فن القص ومقومات فن الرمز من خلال مجموعته القصصية؟!
من المعروف أن السيطرة الفنية على أبعاد الشكل فى الفن مسألة فى غاية الأهمية والصعوبة لايستطيعها غير فنان قادر على السيطرة على أدوات فنه خاصة فى فن مرهف مراوغ كفن القصة القصيرة، ومن الطبيعى أن ثمة أعمالا قصصية يحتل فيها الشكل البنائى حيزا يخل بالعلاقة بين الشكل والمضمون أوـ بتعبير أدق يخل بالنسب الدلالية لمكونات الشكل الفنى غير أن هذا الخلل لايجعل العمل الفنى شكليا فقط، وإنما يخل بأحد مقومات بنية الشكل، وهو الانسجام الجمالى لمكونات الشكل، وهذا الخلل هو دليل حسى على اضطراب المضمون لدى القاص أو قل اضطراب التجربة لديه فهى مشوشة لم تتبلور وضبابية لم تتحدد، وهذا يؤكد أن (شكل القصة أو القصيدة مرتبط أصلا بالوظيفة التى تشكل من أجلها مادام قد كتب لقارىء فى مجتمع قائم الآن أو سيقوم فى المستقبل، وهذا التواشج بين الشكل والوظيفة يؤكد على أن الاهتمام بالشكل ليس مجانيا وإنما هو تعبير عن مدى الاهتمام بمدى قدرة المبدعات على تحقيق أغراضها)( 3)
كما أحب أن أشير إلى أن مفهوم الشكل ليس على معنى الوعاء المجرد الذى ينصب فيه المضمون بل الشكل هو التعبير والبناء معا والقدرة على ـ توتير الجدل ـ إن صح التعبير بين العناصر الجمالية الشكلية لخلق الدلالات الإنسانية للقصة وذلك من خلال الاستجابة سواء ـ لدى الكاتب أو القارئ ـ لمفاهيم التوازن والوحدة والاستمرار فى بنية الشكل نفسه بمعنى أن يتحقق فى النص هذا التوازن بين العناصر الجمالية التى تتفاعل من خلال وحدة انطباع إنسانى ما فى كافة مكونات الشكل القصصى، وعندما يتجادل الرمز وما له من محددات فنية مع الشكل القصصى وما له من محددات جمالية، يصير الشكل الرمزى للقصة ذا دلالة خاصة (فالشكل ليس الرموز وإنما هو التعبير الكلى بالرموز… فليس المخطط الهندسى للقصيدة ـ أو القصة ـ هو شكل القصيدة أو القصة ـ بل الشكل فى العمل الأدبى التعبير البنائى وليس المخطط الهندسى)(4)
فإذا انتقلنا إلى المجموعة القصصية وجدنا القاص فى قصة ( براءة) يدخلنا إلىعالم الطفولة العذبة الذى يظل أفق ابتسام على مدى عمرنا كله، والكاتب يبنى قصته من مواد الواقع الحسية من الجميزة القديمة ـ الباب الخشبى المتهالك ـ الترعة الضحلة ـ والسمكة الفارة فى ثنايا الماء ـ القدمان الحافيتان ـ) جميع هذه المفردات التى تشكل أفق الطفولة تنير وتسطع لدى الكاتب لدى (كل صباح) والصباح هنا زمن رمزى لاندرى هل هذا الصباح صباح الطفولة الذاهبة ؟!، أم صباح الطفولة الباقية فى مواجهة ظلام الحاضر؟! فالكاتب يتركنا منفتحين على إيحاءات جمة ودلالات خصبة، أو هو يتركنا فى مفترق طرق جمالى ـ إن صح التعبير ـ ولنا أن نسلك طريقنا الجمالى حيث شئنا فى الفهم والإدراك ، وهذا من ميزات الرمز الكبرى التى يختلف بها عن كافة صور المجاز فى التشبيه والاستعارة والكناية، وإذا رجعنا إلى المنهجيات اللسانية فى تحليل الخطاب الأدبى وجدنا ما يساعد على التمييز بين بنائية الرمز وبنائية الصور الجمالية الجمالية الأخرى( فالفارق الأساسى بين الرمز والاستعارة يكمن فى الوظيفة التى يسبغها كل منها على التمثل الذهنى الذى يطابق المدلول الشائع للكلمة المستعملة وهذا يمكن أن ندعوه بلفظة (صورة) ففى البناء الرمزى، يكون إدراك الصورة ضروريا لفهم المعلومة المنطقية التى تتضمنها المقولة .على العكس من ذلك البته انتقال المعلومة وفهمها فى الاستعارة وجود هذا الوسيط… وفى حين يتوجب فهم الصورة الرمزية فهما عقلانيا لكى يتم تفسير المرسلة، لاتدخل الصورة الاستعارية فى البناء العقلانى للمقولة ذلك لأن المضمون الإعلامى لهذه الأخيرة يستخرج دون اللجوء إلى التمثل العقلانى)(5)
وهذا يعنى أن علمنا المسبق بالمواضعات اللغوية والاجتماعية لرمز (البراءة) له توجيه أساسى فى مدىوعينا بالدلالات الحسية التى جسدها السرد فى القصة، حيث تتجسد البراءة فىالعذوبة والطلاقة والبساطة، ويدفع بنا الكاتب إلى أعماق إنسانية أخرى للبراءة لينتقل الرمز إلى أبعاد كونية أكثر عمقا واتساعا، فتصير البراءة بذلك اتحاد المخلوقات بالمخلوقات، واستدماج الذات الإنساية الصافية من كدورة العيش بجسد العالم الحى المحيط بها، لعل الكاتب يرجع بنا إلى أصولنا الأولى ـ فى اتحاده بمخلوقات العالم وذلك برجوعه إلى عالم الأصوات فى زقزقة العصافير أو إلى عالم الماء السابح الطليق فى الترعة دون عوائق، أو عالم العرى الصافى ـ فى تعبير الكاتب حافى القدمين ـ إن الكاتب باختصار يدخلنا إلى كون من الجمال حيث يعيدنا إلى عالم الحرية والطلاقة، فالجمال هو الحرية والطلاقة والتجدد ـ كل هذه المفردات الحسية التى جسدت السرد فى القصة هى رموز جزئية تصب فى الرمز الكلى ـ رمز الحرية والطلاقة الموازى الجمالى للبراءة. والمتأمل فى طبيعة المفردات السردية التى بنى بها الكتب قصته يراها مستقاة من عوالم الطبيعة( والطبيعة كانت منذ القدم نبعا فياضا للرموز فقد احتضنت منذ البدء الفعل الإنسانى، تثيره وتنميه وتحاوره بسحرها وجلالها الغامض الطرى، وكانت مبعثا لحنينه وإحساسه بالجمال، كانت بعبارة أخرى رمزا لتشوقه إلى المطلق والسامى والبعيد) (6) وبذلك تفتح البراءة بابا إلى الحرية والطلاقة
فى قصص ( انعتاق ـ الحلم ـ صراع ـ انفلات ـ بوح ) نرى هذه الومضات الفنية الخاطفة أشبه بلقاء المتنبى بحبيبته حيث كان لقياها به وداعا فلا يمهلنا الكاتب لنتملى حقيقة الفن فى هذه القصص القصيرة جدا حيث امحى الحد الفاصل بين القص والشعر فلا ندرى هل ما نقرأه قصيده شعرية ،أم لوحة قصصية قصيرة؟! ولنتأمل هذه القصة بعنوان : ( انعتاق )
نغمات حانية، تنساب فى المدى، تنعش قلبه المشتاق، تهزهز الركام الصدىء تنفرج العتمة عن قبس، يتمسك بجدائله وينتظر) ويأتى التشكيل الجمالى لباقى القصص السابقة على نفس المنوال فهل نحن أمام قصة أم قصيدة شعرية، وهذا ما أشرت إليه آنفا بصعوبة السيطرة على الشكل الجمالى للقصة القصيرة ـ ناهيك عن القصيرة جدا ـ كما فى هذه القصص حيث تقف هذه القصص على شفا جرف جمالى رهيف من التداخلات الأجناسية بين القص والشعر ولا يستطيع أن يجيد سبك بنائها إلا من يدرك أن الفن توازن لطيف مهدد بالتلف كل حين ما لم يحسن الكاتب توزيع الأضواء بعناية وتركيز، فما إن يزيد عنصر هنا أو هناك فى القصة حتى يدخل عليها من التشويش والاضطراب ما تتبدل به تبدلا كليا، وهذا ما حدث لمعظم هذه القصص، فالمجاز يسيطر على القصص السابقة أكثر من الوصف، وتتباعد الارتباطات الجمالية بين الدوال ودلالاتها تباعدا هائلا، وتضمر ملامح الشخصية وينتفى الحدث حتى على المستوى المعنوى، وتكون النتيجة لذلك عجز هذه النصوص عن ( الانبناء والتشكيل) ـ إن صح العبير ـ ومن ثمة غياب دلالاتها ومغزاها اللهم إلا إذا اعتسفنا وتأولنا رهقا وعنتا فى الرمز والدلالة معا.أضف إلى ذلك صعوبة تصنيف هذه القصص القصيرة جدا إلى مجال الشعر أو إلى مجال القصص، وصعوبة التصنيف هنا ليست راجعة إلى جموح الإبداع وقدرته على التخطى بقدر ما رجوعها إلى عدم القدرة على السيطرة على الشكل الجمالى للقص حيث أن ( لكل جنس أدبى جماليتة الخاصة وبلاغته المميزة وهذا ما يجعل اللغة خاضعة لشروط الجنس الأدبى الذى تنتمى إلية حقاً إن اللغة أداة أسلوبية فى جميع أجناس التعبير غير أن هذه الأداة تظل مشروطة فى تكوينها الجمالى والوظيفى بمكونات السياق الجنسى الذى تستخدم فيه …….وإن التفاعل بين الأجناس الأدبية لا يتنافى مع تمايز كل جنس بأسلوبه الخاص)(7) . فالأجناس تتداخل وتتفاعل ويبقى لكل جنس أدبى شكله ومذاقه الخاص، بل يبقى لكل مبدع شكله الجمالى الخاص، داخل الحدود الجمالية للجنس الأدبى الذى يبدع فيه فإذا كانت ( شروط تحديد الجنس الأدبى ( التجنيس) تظل نسبيه ورهينة شروط الإنتاج والمؤسسة الأدبية فى القراءة والتلقى والنمذجة والتصنيف، إلى جانب أن شروط التجنيس تحمل فى ثناياها إمكانات الاختلاف بالنسبة إلى كل نموذج( شكل/ جنس) أدبى فإن ما يوحد بين هذه الشروط هو أفق الشكل)(8) وليس الخروج الحاد عن هذا الأفق الذى يجعل القاص يخرج تماما من حدود جنسه الأدبى إلى حدود جنس أدبى آخر.
ولكن الكاتب يوفق توفيقاً جيداًفى رموزه القصصية فى قصص (ذكرى) و(أنين)و (رؤى) وكان أجدر بالكاتب أن يضم القصة الأخيرة ( رؤى) إلى لوحته الرابعة(انعتاق) فهى أدخل جماليا فى سياقها الجمالى
وفى قصة (ذكرى) يصور الكاتب أيام صباه ويفاعته وأيامه فى طلب العلم ودائماً لا تبرز الذكرى وتلح إلحاحاً إلا إذا استندت إلى زمن حاضر حتى يحدث هذا الجدل الزمنى بين الغائب السعيد والحاضر الفارغ أو حتى المختلف هذا ما نحسه جيداً من الجملة الأولى فى القصة إذ تبدأ بدقات الزمن :
(تك-تك-تك
تأتى من بعيد خافتة ،ويعلو صداها فى نفسى ، تؤنسنى تبعد وحشة الوحدة الليل ومذاكرة الليسانس
انهض نافضا السأم المح الحاج سيد، جلبابه الأبيض طاقيته البيضاء وعصاه صاحبة اطرقات الحميمة أتابع خطاه المتئدة آلى مسجد الصحابه…)
إن البداية الزمنية الماضية للقصة تأتى منقذة للكاتب من حاضرة الموحش لتؤنسه بصوتها البعيد العذب فهى تبعد عنه الوحشة فى حاضرة ،وتدخله ملكوت الماضى الجميل بكل أشيائه وتفاصيله العذبة ،والكاتب يذكرنا فى قصته بقصيدة (الذكرى)لشكسبير ،حيث تتحول المفردات الماضية إلى رموز إنسانية عميقة الإيحاء والوفاء والمودة والحب ،وتتضافر المفردات الطبيعية لخلق هذا المعادل الموضوعى الرمزى للذكرى، هل هى ذكرى الوفاء الجميل ؟!،ذكرى العالم السمح البسيط الحميم؟!،ذكرى الالتحام بعناصر الطبيعة أيام الصفاء–النجم-القمر-السحب الداكنة-نسيم الفجر-ذكرى اتساقنا مع ذواتنا والآخرين ،ربما يكون رمز الذكرى هو بعض ذلك أوكل ذلك وغيرة أيضاً فالرمز هنا ينتمى فى شكله الجمالى إلى المكنونات الإنسانية الدفينة أكثر من انتمائه إلى عالم الخارج

أما فى قصة (أنين) فالكاتب يبنى رمزه الجمالى عبر صور جمالية تذكرنا بمدرسة الشعر الصورى (الإيماجزم) (لعذرا باوند) وهو يبنى قصته فى صور تراكمية أشبه بالمونتاج السينمائى ولكن هذا التراكم يدفع به القاص إلى التكامل والتفاعل من خلال حركة السرد القصصى فالكاتب يبدأ قصته قائلا:
(أبصر نفسه وحيداً،يناجى الفراغ المضفر بالصقيع..أين بلدتى ؟أين شمس الصباح؟أين نبع الحياة التى كانت تفيض وتفيض؟يشخص بعينيه إلى المدى ..اللون الأصفر الباهت ينتشر على رقعة البصر،الطائرات تزمجر فى الأفق ساقاه تدفعانه إلى الأمام..يحلق ويحلق،يرتطم بالأعشاب البرية ،وبقايا أشلاء مجمدة ..يهفو إلى البراح الذى يأمن إليه ويستظل به، لمح مئذنة مسجد من بين الأطلال والغبار الكثيف .ثمة فرحة انسابت فى شرايين فؤاده المكلوم…) ثم يكون الخلاص عندما تدفع به الأزمة إلى حدودها القصوى عبر تصاعد السرد فى القصة من حالة إلى حالة بما يصل بالحدث إلى قمة توتره وهو الارتطام بالأشلاء البشرية المجمدة وانغلاق النفس فى حالة فقدان المعنى ثم يأتى صوت الإمام قارئا ً(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقو… ) فيتحد الكاتب مع المصلين ويدخل فى ملكوت الصلاة، فهل الدخول فى الملكوت الروحى هو الخلاص من الأنين والشكاة النفسية للكاتب ،وما هو هذا الأنين ؟ هل هو ضياع الاتجاه المرموز إليه بعبارة أين شمس الصباح ؟أم فى ضياع المنطلقات والقناعات الفكرية الروحية فى أين نبع الحياة ؟إن الأنين هنا رمز روحى معقد يشمل جميع ما يتناوب الكيان الإنسانى من تناقضات وانكسارات. إنه أنين البحث عن مخرج للروح والعقل معا.ً وكان الدين هو المخرج لا من حيث هو طقوس وشعارات فهذا ما لم يقله الكاتب بل من حيث هو انسياح فى ملكوت الروح والمثال.
أما فى قصة (رؤى) التى رتبها القاص فى لوحته الأولى (رائحة الأيام)وكان أولى به ادراجها فى لوحته الأخيرة(انعتاق) كما قلت من قبل وذلك لاتساقها مع الجو الشعورىوالفكرى لهذه المجموعة ،ففى هذه القصة الرمزية يبلغ الرمز مشارف فنية مشعة بالايحاءات الثرية والدلالات المتعددة فالكاتب يبنى رمزه القصصى عبر مشاهد قصصية أربعة يتنقل فيها بين الوصف والحوار بانياً هذه الرؤى من مشهد إلى مشهد رغم حصار الجميع لهذه الرؤىفالأصدقاء يسخرون بأن هذه الرؤى بلادنا عامرة بها، والآخر يتندر على القاص لأنة يفكر فيها ليل نهار ،والزوجة تنكر مشاهدتها، والعسكر يلتفون حولها ليجهضونها بالعصى والنذر الغليظة .ورغم كل ألوان الحصار حولها (تظل هذه الرؤى تتسع وتتسع) ولا تلقى بالا للغير .وهى قصة جميلة ومؤثرة ببنائها الجمالى الرمزى الذى دفع بالرمز عبر مشاهد حسية متعددة خلقت هذا الجدل الفنى القائم على التناقض بين خيال الكاتب ورؤياه والواقع من حوله .وينهى الكاتب قصته بهذه العبارة الجميلة عن رؤاه:(مازالت تتسع وتتسع) رامزاً إلى أن الحلم والخيال هما أعمق من الواقع ورائداه فى الاستشراف والتجاوز وأنا لا أوافق الكاتب الكبير (محمد جبريل)فى تعليقه فى نهاية المجموعة القصصية على هذه القصة بقوله (قصة (رؤى)تثير قضية الفرق بين الإضمار الذى ينبغى أن يكون سمة للفن وبين الغموض الذى ربما حول العمل الفنى إلى لغز ،معادلة تتطلب الحل) (9) إن (محمد جبريل)تناول منطق الرؤى فى الفن بمنطق الواقع الفعلى ،أو بتعبير أدق تناول الفن بصفته موازياً جمالياً قادراً على خلق واقع بديل على أنه مرآة تعكس الواقع وتطابقه وتدل عليه ،وعلى الرغم من الوعى النظرى السديد الذى قدمه (محمد جبريل)للفن ف قوله: (بأن الفن ليس هو الواقع،لكن الإيهام بالواقع ) غير أن الممارسة النقدية العملية كانت المحك الفعلى لرؤيته حيث حاول من خلال تساؤله الاستنكارى المتبوع بعلامة الانفعال (ما هى؟ هذه الرؤى) أن يطابق بين الخيال والواقع من خلال الرمز القصصى فى القصة والناقد يقول إن الفن إيهام بالواقع ولابد من هامش يفصل بين الحقيقة والرمز وأن الرمز يستمد قيمته أو معناه من الناس الذين يستخدمونه ،وهذا الكلام بعيد فيما أرى عن التصور النقدى الدقيق لفنية الرمز، فمن المعروف أن الرمز الفنى له محددات جمالية ثلاثة وهى:
الأولى: (أن الرمز يبدأ من الواقع ليتجاوزه ليصبح أكثر صفاء وتجريدا، ولايتخلق هذا المستوى التجريدى إلا بتنقية الرمز من تخوم المادة وتفصيلاتها.
الثانية: أن الرمز ليس تحليلا للواقع بل هو تكثيف له وفى هذا ما يربطه بالأحلام من حيث ميل كليهما إلى الإدماج بحذف بعض الأجزاء المرموزه أو الاكتفاء من مركباتها بجزء واحد فقط، أو الإيماء بالصورة المركبة إلى عناصر ذات سمات مشتركة ولعل هذا التكثيف هو وراء ما فى الرمز من غموض تتعدد فيه مستويات التأويل
الثالثة: أن الرمز من خصائص الأسلوب وليس من خصائص الكلمات، أى هو قيمة سياقية تركيبية وليس قيمة إفرداية) (10)
وبهذه المحددات الجمالية الثلاث نرى أن الرمز الفنى عبارة عن تجادل عالمين أحدهما واقعى مادى والآخر انفعالى إنسان، كلاهما يتجادل مع الآخر، و يتنامى به ولايذوب فيه، كما أن الرمز ليس كما قال الأستاذ محمد جبريل يستمد كل معناه من الناس الذين يستخدمونه بل يستمد بعض معناه وليس كله من الاتفاق بين الكاتب والقارئ على المواضعة اللغوية والمواضعة الاجتماعية ولكن يبقى للرمز بعد ذلك كما أوضحت فى بداية هذا البحث اشعاعه الذاتى الخالص القادر على إثراء المعانى بلا حدود بين الرمز وما يرمز إليه كما هو الحال مثلاً فى معظم الصور الأدبية الأخرى كالتشبيه والاستعارة وغيرهما.وإن قراءة قصة (رؤى) تؤكد توفيق القاص فى حشد الصور الحسية الواقعية وانمائها على طوال البناء الفنى للقصة فى وضع متناقض بين عالم الرؤى /الأحلام/الخيال/ وعالم الواقع مما طور الصراع بينهما ونمى الحدث حتى وصل إلى منتهاه فى انقراض جميع صور العوائق والكوابح الواقعية واستمرار عالم الرؤى والخيال فى الاتساع وهذه السيطرة التشكيلية على الرمز وإنمائه على طوال القصة حتى الوصول به إلى هذه النهاية القصصية المفتوحة والمناسبة لعالم الرؤى وما يكتنفها من عدد تحديد ووضوح هو ما يتناقض مع رؤية الكاتب الكبير محمد جبريل عندما يتسائل عن الرؤى التى( تتسع وتتسع وأكرر السؤال ما هى ؟) فهى رؤى الفن الموغلة فى غرابتها وشفافيتها فى آن فى مواجهة تصورات الواقع الغليظة الكسيحة، والخيال قادر فى الفن على أن يحول تناقضات الواقع التى جابهها القاص فى السخرية تارة وفى الملاحقة من العسكر تارة أخرى ـ يحولها إلى كمال وتماسك جمالى يكون قادرا على التشكيل والدلالة فى وقت واحد خاصة أن الفنان فى عالم الرؤى يكون قادرا على استقطاب ( اللامرئى من خلال المرئى، وينداح فى اللازمن من خلال عناصر الزمن، ويسعى للاندماج فى الحقائق العليا، بل ربما يربط بين ما يكون موضع التفكير بما لايمكن أن يكون)(11)
وتأتى قصة ( صداقة) فى الصدارة من هذه المجموعة من حيث قدرتها على التشكيل الرمزى القصصى الموفق، وكنت أتمنى لو اتسع بى المقام لمعالجتها فنيا ولكنى رأيت أن تنتهى دراستى لهذه المجموعة عند هذا الحد، وأرجو أن أكون قد وفقت بعض التوفيق فى معالجتى لهذه المجموعة القصصية الجميلة، فما كان من توفيق فمن ربى وما كان من نقص، فيكفينى أنى حاولت.



المصادر والمراجع


1. وائل وجدى، رائحة الأيام، س/اشراقات، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ط1/ 220/
2. د/ محمود الحسينى/الاتجاهات الواقعية فى القصة القصيرة،دراسة فى المضمون والبناء الفنىن دار المعارف، مصر،1984/نقلا عن أمين الخولى، مجلة الآداب،ع7/ أكتوبر/1956
3. خلدون الشمعة، معنى الشكل فى العمل الفنى،مجلة المعرفة السورية،ع135،آيار، 1973،ص149
4. المرجع السابق، ص150
5. د بسام بركة، المنهجيات اللسانية فى تحليل الخطاب الأدبى، مجلة الفكر العربى، بيروت، لبنان، السنة 18،ع80، 1997، ص234
6. د على جعفر العلاق، الشاعر العربى الحديث/ رموزه واساطيره الشخصية، مجلة الآداب، بيروت،نوفمبرن 1988،ص 6
7. د محمد مشبال، البلاغة ومقولة الجنس الأدبى، مجلة عالم الفكر ،الكويت، مج،30،ع1، يوليو/ سبتمبر،2001/ ص85
8. د بشير القمرى، شعرية النص الروائى، قراءة تناصية فى كتاب التجلياتن الرباط،ط1، 1991،ص13
9. وائل وجدى رائحة الأيام، محمد جبريل، هذه اللحظات العادية، ص75/76
10. د. محمد فتوح أحمد، الرمز والرمزية فى الشعرالمعاصر، دار المعارف، القاهرة،ط 1984، ص136 ـ138
11. جان برتليمى، بحث فى علم الجمال، تر /د . أنور عبد العزيز، دارنهضة مصر، القاهرة، 1970، ص90

You have no rights to post comments

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية