شغل "الجسد" الروائيين قبلا, فانشغل النقد وبات "الجسد" وجهة للنقد . وندعى أن "الجسد" وعلى كل دلالاته لعب دورا هاما فى جوهر ملامح رواية المقاومة "أو الرواية المقاومية".بالعموم يعد الجسد ومفاهيمه مدخلا هاما فى فهم الوعى واللاوعى الجمعى للجماعة.
اذا كان الاقتراب من مفهوم الجسد من مدخل اللغة يشى بدلالات عامة, ففى لسان العرب كلمة "بدن" تعنى الامتلاء والتقدم فى السن, وكلمة "جثة" تشير الى الجسم متصفا بالاكتمال, وكلمة "جسم" تعنى الضخامة والعظمة أو الهيبة والاعتلاء وبذل الجهد, وكلمة "الجرم" بكسر الجيم تعنى الجسد. أما مادة "الجسد" فهى الوحيد مما سبق التى تلتصق بالانسان, من حيث ماهيته , وتستبعد معنى الامتلاء أو معنى الهيئة الخارجية.
وقال "ابن منظور": الجسد هو جسم الانسان, ولا يقال لغيره من الأجسام, والجسد مما يوصف بالحسن , ويرتبط الجسد ارتباطا عميقا بالنفس.
وبذلك يكون للجسد ومن المدخل اللغوى مفهوما أوليا مما نعنيه حول علاقة "المقاومة" والتعبير بالجسد.

اما الاقتراب الصوفى من دلالات الجسد , فيقول "ابن عربى" أن الجسم الانسانى من أشرف الأجسام لأنه محل كمال الظهور الالهى. ويمكن القول أن الخطاب الصوفى ينظر الى الجسد بوصفه حجابا مرحليا, حيث يبدأ الصوفى بالعزلة والزهد لعزل الجسد رغبة فى الوصول الى الحق .. والمعرفة النورانية.
والآن هل يمكننا القول بدلالة الجسد المقاومية للتواصل المباشر لما هو أدنى الى ما هو أسمى وأعلى, أى مقاومة بمعنى ما, وان لم تكن ما نعنية بالمقاومة (التى هى الحركة المعبرة عن الهوية , المتطلعة الى الحرية , من أجل الخلاص الجمعى..وليس خلاصا فرديا).

كما أشار البعض "على زيعور" الى مركزية الجسد فى الثقافة, ذلك بتأثيره على اللغة ودلالاتها المفردة والمركبة للكلمات.
فهناك تشارك بين الجسد والصفات البشرية..مثل: العظمة , الأنفه, الرئاسة, الجسامة, الوجاهه والرحمة , وغيرها. وهى من أصل مفردات الجسد ..العظمة,النف, الرأس,الجسم...
كما توجد الفعال اللغوية المنبثقة من الجسد ..مثل: عاين واعتنى وعنى.
ثم هناك الاستعرات اللغوية التى نطلقها من الجسد على عناصر الطبيعة..مثل : هاج البحر, سكنت الجوارح, يدخل القلب ..وهكذا.
ولا يفوت المرء أن العلاقة بين المدخل الثقافى هذا يحمل فى مجمله ملمح المواجهة والتقابل, بحيث يصبح الجسد هو المبتدأ الذى نفهم منه دلالات مقاومية , اذا ما خلصنا على أن المقاومة هى صورة العنف الشريف أو المبتغى من أجل خلاص "الأجساد" المتشيئة الى دلالاتها المرجوه.

أما الفكر الفلسفى فقد ظل ينظر الى الانسان على أنه على حالة ثنائية :النفس والجسد, وكثيرا ما رفع الفيلسوف شأن النفس على الجسد فى مجمل الفلسفة الاغريقية وعلى رأسها أفلاطون, وحتى "ديكارت".
أما "سبينوزا" فقد وحد بين الجسد والنفس وقال بكونهما صفتان مختلفتان فى جوهر واحد هو الله. واكد اصحاب الظاهرتية على الربط بين النفس والجسد , على اساس أن الجسد الظاهراتى ليس مجرد موضوع , ولا هو أداة من أدواة الشعور والوعى , بل هو الأساس والأصل, ولكل سلوك عنه وظيفة ومعنى ما.
لكن ليس من الموضوعية الابتعاد عن رؤية علم الاجتماع فى هذا السياق- خصوصا فى البحث عن العلاقة بين المقاومة والجسد- ربما يكاد يحدد اهتمام علم الاجتماع فى مشكلة التحكم فى الجسد وضبطه , فوظيفة المجتمع تتلخص فى : اعادة انتاج سكانه فى الزمان, التحكم فى الأجسام فى المكان, كبح الجسد الداخلى أو الرغبات, حضور الجسد الخارجى فى المجتمع..(أحمد زايد).
وكأن الجسد هو تاريخ مجتمعه, ولا تفسر سلوكة "الفسيولوجيا" وحدها. كما أن الجسد فى ذاته تعبير حى عن أحوال وأزمات المجتمع, فالجسد الذى يعانى من مرض فقر الدم هو التعبير الفعلى لأزمة الفقر أو سوء التغذية نتيجة الجهل العلمى وغير ذلك. وكما يقول "ميرلوبنتى" أن المجتمع ينحت رموزه وأحواله على الأجساد. وأكد "فوكو" على فكرة انتاج "الانسان الآلى" التى أنتجت الجسد المنتج أو رأس المال الحى أو قوة العمل المهمة.
وتظل "المقاومة" بمعنى ما قائمة بين تضاد النفس والجسد, ثم الفرد والمجتمع, لتبقى فاعليتها والتى نعنى تلك المواجهة الايجابية فى اطار صالح الجماعة. فلما تريد الجماعة "بطلا" فهى فى الحقيقة وفى الأصل تدافع عن نفسها وبقائها حرة محتفظة بهويتها..اليست "المقاومة" هى التعبير عن الجماعة الواعية بهويتها الساعية الى حريتها.

وبعد.. "التعبير بالجسد" فى الأدب "الرواية مثلا" هو تعبير أولى , لكنه يحمل ما هو بشرى وجودا فى العالم, بوصفه كيانا نفسيا وجسميا فى اطار علاقات اجتماعية.. وهو فى الأدب كيانا عضويا واجتماعيا و متخيلا.. وبذلك يمزج الأديب أو الأدب بين ما هو طبيعى وثقافى.
وعلى قلة الدراسات الجادة على مستوى الوطن العربى التى تتناول "الجسد" فى الرواية نقدا, نشر "د.سعيد الوكيل" دراسته "الجسد فى الرواية العربية" ضمن سلسلة "كتابات نقدية", حيث تناول ثلاث روايات للتعبير عن ثلاث تمثلات للجسد : رواية "التبر" للروائى الليبى "ابراهيم الكونى" تعبيرا عن التمثيل العرفانى, ورواية "وليمة لأعشاب البحر" للروائى السورى "حيدر حيدر"تعبيرا عن التمثيل الأيديولجى , ورواية "مدينة اللذة" للروائى المصرى "عزت القمحاوى" تعبيرا عن التمثيل الميثولوجى للجسد.

لعل "أدب المقاومة" هو أكثر مناحى الأدب الذى تم فيه توظيف الجسد على مجمل تمثلاته, مثل تمثيل الجسد الثقافى الاجتماعى, تمثيل الجسد الطبيعى الكونى, تمثيل الجسد الأيديولوجى, وغيرها .
ربما يرجع ذلك لاهتمام أدب المقاومة بالعلاقات الملتبسة مع المجتمع, والعلاقات الوطيدة..معا!
وفى الأولى لابراز عناصر القوة والضعف فى الأنا الجمعى, فى مقابل عناصر القوة والضعف فى الآخر العدوانى. حيث أدب المقاومة كاشف ومحفز للعمل من أجل الجماعة (والخلاص الجمعى) ..وهو ما يوضح دوره للتعبير عن العلاقات الوطيدة مع المجتمع فى حالات الخطر أو التهديد الخارجى.
ومن جانب آخر يعد "الجسد" هو وسيلة حية وايجابية فى المفهوم المقاومى, وهو المبتدأ والمنتهى, حتى وان كان الخطر عدوانا خارجيا .. وليس أصدق على ذلك من حالات الاستشهاد التى قد تبدو خارقة للعادة أثناء مواجهة الأعداء.
(لعله من المناسب ابراز بعض النماذج من الروايات العربية فى أدب المقاومة, أرجو أن يتاح ذلك قريبا فى قراءة سريعة لبعضها).

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية