إنه الموروث الأكبر الذي خلّفه لنا الآباء والأجداد , وهو المرآة التي تعكس لنا الماضي بكل صوره وتفصيلاته , هو النتاج والخلاصة , هو الامتداد العريق لبني البشر .
كثيرًا ما يحن الإنسان لماضيه , والتجول في أروقة تاريخه , والبحث والتنقيب في أيامه الماضيات , أيام أجداده وأجداد أجداده , القريبة والبعيدة , والمتناهية البُعد !
كم ينال منا الفضول عند سماع إحدى حكايات التاريخ , وكم ينتابنا شعور الفرح والانتشاء عندما نعرف معلومات أكثر عن حضارةٍ ما , أو نسمع عن دولةٍ من الدول التي قامت على صفحات التاريخ , وكم نتوق لمعرفة المزيد والمزيد عن أسرار الإنسان التي خلفها وراءه على هذه الأرض.
والدليل على شغف الإنسان بماضيه , هو البحوث والكتابات المستمرة منذ عهدٍ بعيد حول التاريخ , فكل أمةٍ تأتي وكل جيلٍ يولد يؤرّخ من جاء قبله , وينبش في ماضيه ليدوّنه لمن يأتي بعده , وتهافت الناس على قراءة مثل هذه الكتب والأبحاث بالرغم من مرور السنين الكثيرة عليها , وربما القرون , ولكنها تظل مادةً متداولة ورائجة , لا ينال منها الكساد ولا يطالها الاهتراء !.
وكذلك المتاحف والآثار التاريخية التي تعتبر من ثروات الأمم وأهم ممتلكاتها التي تعتز بها وتحافظ عليها , فما الذي يدفع الدول والحكومات للحفاظ على المباني المُتهالكة , والقطع الأثرية المُكسّرة , ووضعها في أفخم المتاحف وحراستها أشد حراسة , وما الذي يدفع الناس من كل أقطار الأرض لرؤيتها والإطلاع عليها سوى حب الإنسان للتاريخ والماضي , وولعه بمعرفة كل شيءٍ عنه , واعتباره إياه كنزًا ثمينًا وثروّة ً لا تقدر بثمن .
ولعل هذا الأمر فطرة أو غريزة موجودة في الإنسان , ولكنها تتفاوت من شخصٍ إلى آخر , فهناك من يكتفي بمعرفة بعض المعلومات البسيطة , وهناك من يبقى ظمآنًا طوال حياته مهما ارتوى من مناهل التاريخ , ولكنك لا تكاد تجد من يدير ظهره أو يغلق أذنيه حين سماعه حديثًا أو حكاية عن حضارةٍ من الحضارات الغابرة أو أمةٍ من الأمم السالفة , كما يختلف الناس في مآربهم من الإطلاع على التاريخ , فمنهم من يستمتع بقصصه وأحاديثه , ومنهم من يستخلص منه العِبر , ومنهم من يدرسه وينقده .
وعن نفسي فأنا أصنف نفسي من ذلك النوع الشغوف بالتاريخ , معاصره وقديمه , العربي منه والأجنبي , الإسلامي وما سلفه وسبقه , فكل ماله علاقة بالأمس والتاريخ , من أحداثٍ ووقائع وشخصيات وحروب وأمم وحضارات ونهضات وثورات وهزائم , أعده علمًا نفيسًا وغاليا , يستحق الإنكباب عليه والاستزادة منه .
وكلما أصبحت في غمرة الاستمتاع , ولجة القراءة , وعمق التاريخ , قفز إلى ذهني قول الشاعر :
مازلت تدأب في التاريخ مجتهدًا حتى رأيتك بالتاريخ مكتوبا
فتمر أمامي خيالات المؤرخين وعلماء التاريخ وهم يدأبون فيه ويسجلونه ويكتبونه , وتتراءى لي صور قرّاءه ومحبيه وهم يتدارسونه ويتسامرون به , وأراهم قد أصبحوا اليوم تاريخًا نقرأه !
هم الذين كانوا يحبون التاريخ ويعتنون به , وهم الذين حفظوه لنا بعد فضل الله , وهم الذين ورّثوا حبه في قلوبنا وخلّدوا أحداثه على هامات العصور , أصبحنا اليوم نقرأهم , ونستمتع بسيَرهم وأحاديثهم .
هكذا تَشكل التاريخ , ما نعيشه اليوم ونسميه حاضرًا , يصبح في الغـَدِ تاريخًا نقرأه , وما نفتعله الآن من أحداث ونتقلب فيه من وقائع , يكون بعد قليل ماضيًا نتذاكره .
وهذا الأمر يدفعني دومًا للتفكير والتخيل , ماذا سيكتب عنا التاريخ , وماذا سيحكي للأجيال القادمة ؟
ماذا سيكون حالنا عندما يؤرخنا التاريخ ؟
وأفكر في هذا الأمر من عدة نواحي , السياسية منها والاجتماعية , الشخصية والجماعية , هل سيكتب التاريخ عن وطني بأنه كان جزءً من الأمة الإسلامية المُفككة , أم سيقول بأنه كان دويّلة منفصلة كسائر الدوّيلات المنتشرة على خريطة الوطن العربي والتي اجتمعت بعد ذلك وتوحدت ؟
هل سيحكي التاريخ عن مجتمعنا لأبنائنا بأنه كان مجتمعًا متأثرًا بالعادات الغربية المستوردة من الدول الأجنبية , أم سيقول بأنه مجتمعٌ ضعيف , لم يصمد أمام الصدمة الحضارية القوية التي داهمته بسبب الانفتاح الإعلامي الذي اجتاح العالم في هذه الفترة ؟
هل سيكتب الأدباء والمهتمين باللغة العربية عن الجفاء الكبير الذي واجهته في هذه الفترة , والاضمحلال الذي عانت منه بين ألسنة العرب , أم سيكتبون بأن لغاتٍ غربية ولهجاتٍ غريبة أصبحت هي السائدة والمتسيدة على لغة الضاد ؟
هل سيلقي علينا التاريخ الاتهامات ويسمنا بالذل والهوان والتخلي عن القضية الأهم في قلب كل مسلم , أم سيتمنى زوال حقبتنا بسرعة من على صفحاته , والإتيان بحقبةٍ تنتفض لتحرير الأقصى ؟
هل سيخلد التاريخ أسماء المطربين والمغنيات والممثلين والراقصات , أم سيكتب سِـيَرهم قبل سير العلماء والعظماء ؟
هل ستكون سيارتي ضمن متحف يضم وسائل المواصلات في القرن الماضي أو الألفية السابقة , وهل ستكون أمتعتي الشخصية آثار نادرة للحضارة التي وُجدت في شبه الجزيرة العربية في يومٍ ما ؟
هل ستصبح الكتب التي أقرأها اليوم مخطوطات تاريخية , والمنزل الذي أعيش فيه مبنـًا أثري , وجهاز الحاسب الآلي المحمول الذي استخدمه آلة بدائية !
هل سيذكرني التاريخ بشيء ولو يسير هل سيبقى اسمي , أم سأكون عددًا في إحصائية قديمة لتعداد سكان هذا الوطن أو هذه الأمة !
تساؤلات كثيرة , قد تبدوا متشائمة , أو غبية وعديمة الفائدة , ولكنها واردة , ومهمة , ويجب أن نسأل أنفسنا عنها دائمًا , فنحن الذين نختار كيف ستكون الإجابة على هذه التساؤلات , نعم أو لا , نحن الذين نحن الإجابة اليوم , لأن ما نفعله اليوم هو ما سيكون تاريخنا غدًا .
نحن الذين نقرر ماذا سيكتب عنا التاريخ , سيمتدحنا أم سيذمنا , سيتمنى أحفادنا عودة زمننا أم سيستاءون كلما مرت عليهم صفحاتنا ؟
إنها دعوة لكل شخصٍ منا , أن يساهم في صناعة التاريخ , ويكتبه كما يريد له أن يكون , ليبدأ بنفسه , ويسطر سيرته الذاتية الذي يود أن تُقرأ بعد موته , ليتميز في مجالٍ ما , ويبرز فيه ويفيد أمته , ولينطلق بعدها إلى مجتمعه ويحدث فيه التغيير , ومن ثم للأمة ..
نحن الذين نقرر أن نكون نكرات لا جدوى من وجودها , أم معارف تصنع المعجزات وتتخطى المستحيل ..
لماذا لا نحاول أن نجعل التاريخ يمتدحنا , كأشخاص , كمجتمع , كوطن , وكأمة , لو بدأ كل شخصٍ منا بنفسه أصدقاءه وعائلته , لأصبح الحلمٌ واقعًا ..
إن التاريخ سيؤرخنا في يومٍ ما , فلنجعله يكتب عنا ما نُحب .
التعليقات
تساؤلات صريحة وفي صميم الحقيقة كاتبتنا الفاضلة، نحاول تجاهل هذه الحقيقة وخداع أنفسنا بأننا خالدون أبدًا على هذه الأرض الفانية بأكملها، نتوهم بأننا سنعزي الناس بأحبابهم الراحلين كلهم، ولا نتذكر بأننا راحلون مثلهم ... وربما قبلهم.
لو أدركنا حقيقة الموت وآمنّا حقًا به، لغدا عيشنا المحدود أكثر فعالية وإنتاجية، لأن العيش الصالح يمد في عمر الإنسان زمانيًا ومكانيًا، فأغدو خالدًا في مسيرة أتباع النبيين والمصلحين عليهم السلام، من أبينا آدم إلى أمامنا المهدي والمهديين الذين من بعده.
تجاهل حقيقة ما لا ينفيها! إنه أمر يجعلنا جهلاء فحسب
التاريخ يدون كل شيء تقريبا و لكن لا تبقى إلا الامور او القضايا الإيجابية التي سنسجلها نحن في دفاتر التاريخ نعم سنلقى اللوم قليلا على ما آلت إليه أمتنا الاسلامية و لكن سيذكر التاريخ ان هناك فئة ساهمت في نهوض الصحوة المنشودة ، و لم أقرأ في كتب التاريخ انه خلد أسماء مطربين بل إنني أرى التاريخ لا يخلد إلا العظماء ،
و التاريخ لا يخلد ايضا امورا مادية مثل السيارة او ما شابه ذلك
و ينبغي علينا نحن ان نبدأ بأنفسنا اولا ثم بمن حولنا كلٌ في مجال تخصصه .
و أختم بالقول التالي / سيبزغ فجر الصحوة عن قريب إن أدركنا ذلك واهتممنا بتنشئة جيل إسلامي منير و أن نرعاه حق الرعاية و كما قال الدكتور مفتاح دياب في كتابه قضايا معلوماتية في حديثه عن الطفل : أن المجتمعات إذا أرادت أن يكون مستقبلها خيرا من ماضيها و حاضرا فعليها الاهتمام بشريحة هامة من شرائح المجتمع وهي الطفولة التي تشكل في العديد من المجتمعات نسبة كبيرة من عدد السكان
وعذرا للإطالة
بويوسف
((إن التاريخ سيؤرخنا في يومٍ ما , فلنجعله يكتب عنا ما نُحب .))
بالضبط! هذا مربط الفرس..
مازلنا ندور في فلك الأسئلة التي تلقى منذ نيف ومئة عام بقليل من التحوير وإختلاف الأدوات فقط لا غير وإلا ما كانت وصلت لنا والأسباب كثيرة متشابكة على أصعدة عدة.
التاريخ هام لكن -في رأيي- للغظة والتفكر والتدبر والوقوف على الأخطاء لضمان عدم تكرارها والغريب والمحنق أنها تتكرر بشكل ما أو بأخر لأننا نفكر كل في نفسه على جميع المستويات.
أوليس (إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) هذا هو قانون التعيير الرباني الذي هو سنة من يأخذ بها يفلح وغيره يكلح بغض النظر عن الديانة؟ بلي لكن العقليات بنت جدارات ولا تريد أن تعبر منها تحت مسميات عدة زائد أشياء كثيرة أخري تعرفونها.
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة