أتصدقونني؟! في رمضان الماضي تجرأت وشاهدت التلفاز، وخالفت اللوائح المنزلية الصارمة التي تعودنا عليها منذ المهد ، والتي تنص على إغلاق الشاشات الصغيرة في هذا الشهر الكبير ، لكنني بشقاوتي اكتشفت العام الماضي تلفازا بثوب جديد وشكل فريد، جهاز عظيم بمختلف قنواته وبرامجه، وجدته بتأثيراته السمعية والبصرية بين دفتي القرآن الكريم .
صحيح أننا نقرأ القرآن دوما، وفي شهر الخيرات على وجه الخصوص، نتسابق لنحصل على أكبر رقم من الختمات، وبالتالي سرعة التلاوة تتجاوز مؤشرها الطبيعي، ولكن السنة الماضية عشت تجربة من أروع التجارب الحياتية، لذة تفوق كل أطعمة السحور والإفطار، متعة وإثارة تتعدى أخطر الألعاب في أضخم ملاهي العالم، كانت قراءتي هذه المرة مرافقة لتفسير الآيات، ومحاولات متواضعة للولوج في أعماق التفاسير والابحار فيها ، ولم تكن تجربة التفسير هي الأولى لكنها لأول مرة في شهر كريم ، ولجميع سور هذا الكتاب العظيم .
حينما اندمجت في تلاوة الفرقان مع تدبر آياته وتفكر في أحداثه، وجدت نفسي أعيش عصورا ولى زمنها، مع شخصيات لها من عبق التاريح عطورا فواحة، وانتقلت بين مواقع وأمكنة مع أحداث مثيرة تختلط فيها مفاهيم المشاعر، لا تساويها أي مسلسلات وبرامج رمضانية تتهافت القنوات لبثها، وتتنافس لجذب أكبر عيون مشاهدة لها في شهر فضيل ، لكسب المال والشهرة على حساب أوقات العبادة لدى المسلمين.
مسلسلات اجتماعية بالغة الحكمة والحبكة الدرامية ، وقضايا في منتهى الواقعية، تراها وتسمعها وأنت تتنقل بين الآيات القرآنية ، تتخيل نفسك في بداية خلق البشرية مع حكاية أبونا آدم عليه السلام، وكيف جاءت وسوسة الشيطان الرجيم للأكل من الشجرة المنهي عنها، ثم ينتابك شعور الندم عند غضب الله على آدم وحواء وهبوطهما في الأرض، ومن تلك اللحظة أنشأت هذه العداوة الأبدية بين الإنس ومعشر الشياطين، كم تحقد على إبليس الذي لايزال يوسوس أبناء الأبوين الكرام ، وسيبقى إلى يوم الدين حسب ادعائه اللعين.
ثم تستمتع وأنت تبحر بسفينة نوح، ومعك أزواج من مختلف الكائنات الحية، وتستمع لحوار شيق بين الأب الحنون وإبنه العاصي، الذي لا يخاف غضب ربه ويعاند أبيه، وأخرى قصة يوسف وغيرة إخوته منه، وما مر بالفتن في حياته منذ غيابة الجب أثناء اللعب، إلى بلوغ الجمال وولع الحب، ثم من قهر السجن خلف القضبان، إلى المجد والسلطان وعودة الإخوان بعد فراق الأزمان ، يالها من حكايات كان يا ما كان .
ويا لروعة أحداث الكليم موسى ، منذ أن ألقي باليم وهو طفل رضيع، تقرأ الآيات وتكتشف العجاب، في حياة من وقف بوجه مدعي الألوهية ، ثم منظر السحرة الذي يسحر الألباب عندما يسجدون أمام جبروت فرعون، مؤمنين برب موسى وهارون، ثم تتابع زواج موسى من التي جاءت على استحياء، وجبل الطور والحوار الذي يدور بين الرب والعبد المأمور، أي برامج على مر العصور تشمل جمال هذه الأمور .
متعة من نوع آخر عندما تتمعن في حياة عيسى، معجزة الطفل الذي ولد من غير أب، وتضحيات أم عذراء تواجه نظرات العالم وحدها مع صغيرها، أمام هذا الحدث التاريخي الذي يعجز العقل المحدود عن فهمه، ويكبر الطفل ويعالج الأسقام بإذن ربه، دون أن يدرس أصول الطب وأنواع العقاقير، ثم يرفع إلى الله بعد انتشار الفساد في الأرض، ونبقى جميعنا بانتظاره، إنها حقائق تاريخية ليست من نسيج المؤلفين للأفلام السينمائية .
خيال علمي آخر حين ترتل الآيات وتجد خليل الله إبراهيم ، في حيرة من أمره كالتائهين، يا لها من حيرة في البحث عن رب العالمين، بين النجم والقمر والشمس فكلهم من الآفلين، ويجادل والده آزر ويخالف نهج الأميين، ثم يرمى في نار الظالمين، ويخرج منها باردا سليما برحمة أرحم الراحمين .
مهما أسهب فماذا أكتب؟! كل نبي حياته خبرة وأيامه عبرة، فصبر أيوب وحكمة لقمان وحكم سليمان الذي أبهر الزمان، وعلوم كثيرة نقطفها من أشجار يعقوب ويحيى وزكريا، جميعهم رسل الله عليهم أفضل الصلاة السلام، تستحق سيرتهم ومسيرتهم وقفات جادة منا، لنضيء ظلام حياتنا بوميض نورهم .
ناهيك عن آيات جنات النعيم، وسخاء المولى في العطاء الكريم، من حور وغلمان وأنهار ووديان، ياله من جود وهاب عظيم، ثم تعتريك رعشة خوف عند آيات الجحيم ، عندما تغوص بين سطور العذاب والعقاب وغضب رب الأرباب، يتجسد أمامك ذاك المنظر الأليم ، وحدة القبر وميدان الحشر وهول القيامة ثم الصراط المستقيم ، ماذا أعددنا لذاك اليوم .. أيها القارئ الحكيم ؟
والآن يقف قلمي عاجزا أمام أعظم شخصية عرفها التاريخ ، أمام أسطورة صنعت المعجزات ، أمام ذاك القلب الذي حمل كلام الله العظيم واحتواه ، إنه خير البشر الرسول الأمي محمد عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء والمرسلين، والذي ستشعر بهيبته وعظمته وأنت تقرأ كلمات هذا الكتاب المنزل عليه .
إن هذا الكتاب المعجزة بكلماته العذبة، مهما تشرب منه لن ترتوي، وفي كل مرة ومع كل قطرة هناك مذاق جديد، فكم جميل أن نفتح هذه الشاشة القرآنية، ونغلق الشاشات التلفازية الفاسدة في شهر الخير، وكل عام وأنتم بخير
الصورة نقلا عن www.chamsona.net
التعليقات
فعلاً متعة لا تُعادلها متعة
يا لرووووعة مقالك وروعة فكرتك العجيبة
جعلتيني أعشق التفسير يا حبيبتي
ربي يوفقك ويسعدك
وظننت اعلان عن برامج رمضانية جديدة
لكن بعد قراءة المقال .. اكتشفت كنزا عجيبا
ثم قرات للكاتبة مقالا آخر عن إغلاقهم للتلفاز في رمضان
بعنوان ( الداخلية تمنع التلفاز في رمضان ) ومنشور على هذا الموقع
بصراحة أنا منبهر بهذا الانجااااااز الكبير
ليت جميع الأسر المسلمة ومنها أسرتي أولا .. تطبق هذه الفكرة
جزاك الله خيرا أختي الفاضلة سمية .. وربي يحفظكم
8)8)
لكم يختلف أسلوبكِ في نثر مِدادكِ..و نشر فكركِ الراقي
حيث كأنني شاهدت عرضا مكتوبا مؤثرا مبيناً قصص القرآن..
وجميلُ أن نتعمق فيما نقرؤه دوما وخصوصا في القرآن الكريم..فكلما زدنا قراءة في تفسيره زدنا خشوعاً و تدبراً و عملاً بإذن الرحمن..
بارك الله في قلمكِ وسخره لكل خير للغير..:-)
شكرا
والي الامام يا خت سمية
المقالة جدا رائعة وممتازة وكل الحكم والعبر مثيره ..تدخل الاعماق الفكر
شكراً لكِ على المقالة الممتعه
ولكل من خصص دقائق من وقته الثمين واطلع على المقال المتواضع
أعتذر للتأخير في الرد .. فقد كنت بالعمرة بفضل الله
مبارك عليكم الشهر الكريم،، وتقبل الله طاعتكم جميعا
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=222695&date=24082010
وكذلك نشرت المقالة في جريدة البلاد السعودية
http://www.albiladdaily.com/2010/aug/21/b15.pdf
ليتني فعلا قرأت هذا المقال الجميل والرائع قبل شهر رمضان المبارك
ولكن بما أنني قرات قبيل العيد
أقول لكم كل عام وانتم بخير جميعا
وعيدكم مبارك وسعيد يا استاذة سمية
استمتعت كثيرا جدا وأنا أقرأ كلماتك وأحلق في فضاء رحب ووسيع
أدعو من الباري عزوجل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا
وأن يرزقنا تلاوته والتدبر يآياته ليل نهار
ووفقكم الله على ما تقدمونه من مساهمات كتابية رائعة
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة