ثمة حاجز يحول بيني وبين الكلمات حين أكون في حضرة الناس. كلماتي في داخل نفسي تنطلق كالشهب أو كالخيول أو كصواريخ «ناسا»، لكن حين أكون في حضرة البشر، لا أعرف لم أكتفي بالحواجز الدفاعية: الابتسام، وهز الرأس، وشيء من كلمات المجاملة.
نظري في أعين الناس يجمد حاسة التفكير عندي، الأفكار تهرب وتطلب حق اللجوء في مكان آخر غير عقلي. وأبقى عيّةً، وأبقى سَكُوتا.
«فتوح، أما تزالين معنا؟» هكذا يسألونني حين يخذلني لساني –كعادته- ويتحول إلى أنشوطة معقدة كتلك التي يربطها الكشّافة. وبعدما ينقضي الموقف، أبدأ بلوم نفسي: كيف بلعت لساني ولم أرد؟ كيف نسيت أن أطرح هذه النقطة؟ كيف عازتني اللباقة أن أرد على ذلك؟
شيء ما يحدث لي؛ هل هو نوع جديد من أنواع الرُهَابات؟ رُهَاب الكلام؟ يقال أنه من الجيد أن يعد المرء للعشرة، لكني أظل أعد الخراف، وأعدها، وأعدها، وتضيع الفرص، وتنقضي المواقف، وأتحمل الإهانات، وأظل أعد الخراف خوفا من أنطق بما هو غير مناسب.
يظنون أني خجلى، أو ضعيفة الشخصية، أو طيعة وسهلة الانقياد، ولست أيا مما سبق. أنا لينة العريكة ومتسامحة، لكن لدي عقل راجح وقادر على إطلاق رصاص الكلمات بسرعة فلكية. لكن في حضرة الناس ينتابني شيء ما يقيِّد تلافيف مخي ويغرقها بسائل لزح، فتنشغل عن الموقف بمحاولة النجاة من الغرق، وتتركني أغرق في لجة حضرة الناس، وقلبي يتصبب عرقا، ونفسي تقطر جمودا وقلة حيلةً.
حينما يلقي أحدهم بشباك النقد أو التهديد أو التهوين من شأني، إني أستسلم صاغرة بل وأفترض أن الحق -كل الحق- معه! لماذا لا أقف وأدافع عن نفسي؟ لماذا أشعر بالخوف وأميل إلى التسليم والخضوع و«السير تحت الحائط»؟
ثمة شيء في نفسي مكسور، وزجاجه يخزني كل لحظة، كما تقلبت نفسي على جنب ما، وخزتها الزجاجات الصغيرة في مقتل، حتى حارت نفسي كيف ومتى تقر أو تنام.
أتأمل إخوتي السبعة في فُرُشهم. تركهم والداي في جيدي، وانطلقا إلى السماء. وأتحسس لساني المكبل قلقا. ثمة شيء كسر، ثمة أمان اختطف، صار الخضوع للخوف والتهديد قُوتا يوميا، والمسالمة والمسايرة أرغفة نهاري وليلي. أخشى أن أُطمئن نفسي، أخشى أن أشعر بالقوة، أخشى أن أتعلّم كيف أتكلم، فيحدث ما يحدث.
«أهلا بك في المجتمع العربي»، أكاد أجزم بأني رأيت هذه العبارة مكتوبة على غرفة العمليات يوم وُلدت!
«أهلا بك في المجتمع العربي»، أهلا بك حيث الكلمة محسوبة ليس خوفا من الله أو من رقيب أو عتيد، بل لأنك ستدفع ثمنها، وغرامات وضرائب اجتماعية.
لا تنتقد، لا تقاطع لا تدافع، من أنت أيها الطفل، صه، صه! تضع المدرسة يديها على فمها لتعلمنا كيف نحترم أنفسنا ونسكت «إششششش»، «أُصصصصص». تعلمنا أن السبابة ليست للتوحيد وللشهادة فقط، بل لها استخدام آخر أجل وأنبل؛ وضعها على شفاهنا الصغيرة لنعبّر عن طاعتنا الانخراسية.
السكوت من ذهب، لكن كم من الماس والمرجان والياقوت والزبرجد فقدت يوم استمعت إلى أمثالكم البالية وصمتُّ؟!
أما حين نأتي لوضع الفتيات تحديدا، فحدّث بكل حرج! هل تعرفون قصة «انططع حيط الططن»؟ القصة تحكي عن أم لديها 3 بنات يعانين من مشاكل نطقية. وحين زارتهن الخطّابة، أوصتهن الأم أن يكتفين بالغزل ولا يتحدثن. لكن وفي حضرة الخاطبة انقطع الخيط.
فقالت الأولى: «انططع حيط الططن» (انقطع خيط القطن).
فردت الثانية: «اعددنّه واستتن» (اعقدنه واسكتن).
فقالت الثالثة: «ما دالت لكم أمي لا اتحتون؟» (ما قالت لكم أمي لا تتحكّون).
فردت الأختان: «تحتينا، تحتينا وترثنا البيت حتيات» ( تحكينا، تحكينا وترسنا البيت حكيات).
فانصرفت الخطّابة دون رجعة!
أبعد كل هذا تتوقعون ألا تأكل القطة لساني؟ كيف تلومونها، فلساني ليس فيه عظمة، لساني لا ظهر له، هو قطعة لحمة مصفاة تُركت على القارعة لقمةً سائغة. هكذا يا قومي، أكلت القطة لساني، ولست ألومها.
أعرف أننا محاسبون على كل كلمة، وأن ما يكبنا على وجوهنا في النار إن هو إلا حصاد ألسنتنا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. ولست في ذلك أجادل. لكن ما أظن هذا ينطبق علينا إلا حين نملك لجام الكلمة، فنحجم ونكظم الغيظ لله وحده.
الحق من أسماء الله الحسنى، فكيف لا نبحث عن الحق، وكيف لا ننطق له وبه؟
اليوم، أبحث عن بصيص تغيير يُبرعم الأمل في قلبي ويزوّد شراييني بنبض مديد، حتى أصحو في يوم، فأجد أنه قد نبت لي لسان من جديد. قبل أن يغيب خيط الأفق، قبل أن ينقطع خيط القطن، فتولي الحياة عني هاربة ولا تعقب!
* * * * *
اقطعي خيط القطن يا فتوح، إليك خيطا من فولاذ!
{الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}
فتوح، تفتح فمها، فتوح تنطق، فتوح تحيا.