سدد طرف القلم على الورق ميمنة فميسرة. يمهر توقيعه بالتاريخ، ويضع نقطة زيادة في التأكيد أو ربما لمآرب أخرى. هذا كان ديدنه اليومي. أما الآن، فأعظم خوفه ألا يجد طريقة يتمكن بها من توقيع قرار الإيعاز بصرف مكافآت فريق الخبراء الأجنبي الذي جاء ليحقق في الظاهرة الغريبة التي تحدث. فالعين بصيرة، واليد -أو بمعنى أدق الأحبار- قصيرة أو طائرة!

مَنْع سريان الأخبار كان أولويته فور حلول الكارثة. واضطر للاجتماع مع رئيس وموظفي كل قسم على حده ليوجه لهم تعميما شفهيا شديد اللهجة بضرورة التكتم على الوضع القائم، فتسرب الأخبار بعفوية إلى الأهل والأحباب عبر الموظفين، يعني أنها حتما ستتسرب إلى الصحافة، ومنها إلى الأعداء الذين يقفون بشوكة وسكين تارة، وبمذراة وسيف تارة أخرى، متلمّظين ينتظرون حصتهم من الكعكة. فهم يعلمون يعلمون أنه نزل بمظله فوق كرسي وزارة الثروة الإنسانية في يعربستان. ومثله يمكن الاستغناء عنه خاصة في أقرب مطب/مكب جوّي!

أم عدنان، وهي أقدم موظفة في الوزارة تصر أن ما يحدث هو سحر أسود، وصار تبخير أرجاء الوزارة مهمتها الصباحية، خاصة أنها –كغيرها من الموظفين- لم يعد لها أية مهام وظيفية تقوم بها، إلا إذا استثنينا شرب الشاي والقهوة من الأمر. حتى قراءة الصحف لم تعد ممكنة، فهي الأخرى طالها جزء من الظاهرة الغريبة. وصحيح أن حبر الصحف لا يتبخر بسرعة حبر القرارات والمراسلات، لكن ما أن تقرأ الصفحة الأولى، حتى تبدأ الصحيفة بالبهتان شيئا فشيئا، وترقد بين يديك صحافا من ورق فارغ يستجدي الكلمات! صارت الثرثرة، وتناول الطعام، والتمتع بألعاب الحاسوب مهام الموظفين الرسمية، في ظل تبخّر الأحبار.

جرَّبوا كل الحلول؛ أقلام الحبر سائل، أقلام الحبر الجاف، أقلام الحبر الهلامي «الجل»، أقلام الرصاص، حتى أن أحد الموظفين –جادا لا هازلا- أحضر قلم «الكوبيا» الأثري الذي ورثه من مقتنيات جدّه -لعل وعسى- لكن ظنه كان في تباب. وغني عن الذكر أن الوثائق المطبوعة من الحاسوب هي الأخرى لم تسلم مما يحدث.

أغلقت الوزارة أبوابها أمام الزوار بحجة «الجرد السنوي» رغم أنه تمّ قبل ثلاثة أشهر! سورة البقرة تلف المكان بطمأنينة عجيبة عبر السماعات الحديثة المنتشرة في أسقف مبنى الوزارة،.وحينها تفتق ذهب أحد الموظفين عن اقتراح أن يتم تحويل المراسلات إلى إلكترونية خاصة وأن ثمة توجه لدى الوزارة بذلك أحبطه التدخل المستمر في المناقصة المخصصة للأمر. لكن هذا المشروع سيستغرق وقتا طويلا، ولا بد من حل سريع للموضوع قبل أن يَفْشُوَ الخبر.

بعد أن نال الوزير من القلق كِفْلَهُ، جاء البشير بأن الفريق الأجنبي قد أنهى تحقيقه. وطبعا لم يكن ليتوقع تقريرا مكتوبا بالنتائج، فعَجِل إليهم ليعرف ما الخبر.

أخذ المهندس «ماتاساو»، يعرض على الوزير المُرَشِّحات التي نصبوها في الوزارة لقياس نسبة الحبر في الجو. وكان واضحا أن النسبة أعلى من المسموح بها عالميا. في الحقيقة، لم يرَ الخبراء شيئا كهذا من قبل، حتى أنهم أبدوا استعدادهم –بعد أن تشاوروا هاتفيا مع الشركة الأم- عن التنازل عن التكلفة المادية لاستشاراتهم، مقابل أن يأخذوا عينات الحبر معهم لتحليها شريطة ألا يعيدوها إلى يعربستان.

- م. ماتاساو: سيدي، لا أستطيع أن أقول لك سوى أننا إزاء هجرة جماعية للأحبار! وصحيح أن الأحبار في كل دول العالم تتفلت أحيانا من أوراق القرارات الرسمية، لكن المعدل لديكم عجيب، ولا أجد له تفسيرا منطقيا. أحباركم تمرّدت يا سيدي، ولا أعرف لم! انظر إلى المرشِّح هذا كيف صار أسود اللون، هذا السواد هي أحباركم التي غادرت الورق، وصارت تسكن الأثير.

- الوزير: أريد حلولا، حلولا. لا أريد شرحا.

- م. ماتاساو: سنستدعي خبير التخاطب مع الأحبار من شركتنا، لكن أمامه 48 ساعة تقريبا ليصل.

- الوزير: ولم لم تحضره معك من البداية؟! حسنٌ، الآن عليك أن تجد لي حلا إلى أن يصل خبيركم، لا تقف كالأبله هكذا. علينا تصريف الأمور، قبل أن يسرِّب أحد الموظفين الخبر إلى الصحافة.

- م. ماتاساو: أراهم مستمتعين بوقتهم، لا أظن أن أحدا منهم سينبس ببنت شفه.

- الوزير: دعني من ظنونك، مواطنو يعربستان ثرثارون. ثم إنّ هناك تقارير يحب أن تنجز، ومراسلات يجب أن تتم، والأمور متوقفة من أكثر من خمسة أيام. إذا لم يتكلم الموظفون، سيشك من هم خارج الوزارة.

- م. ماتاساو: لم لا تنجز الأعمال الضرورية من البيت أو من أي مكان آخر؟

- الوزير: وهل تظن أن ذلك لم يخطر ببالي؟ طلبت من سكرتيري إنجاز المراسلات في بيته وإحضار البريد لي مساء لتوقيعه، لكن المراسلات وصلتني بيضاء من غير سوء! جربت عبثا التوقيع على البياض، فتبخر توقيعي أيضا بعد ثوان.

- م. ماتاساو: ماذا؟! لماذا لم تخبرونا بهذا من قبل، لقد ظننا أن الأمر محصور بأروقة الوزارة.

- الوزير: في الحقيقة تعلم أننا لا نعتمد على التقنية في وزارتنا، ولقد طلبت من ابنتي أن ترسل لكم البريد الإلكتروني الذي وصلكم، ولعلها غفلت عن ذكر جميع التفاصيل التي أخبرتُها بها. أما الطلب الرسمي، فقد جاءكم كما تعلم عبر مكتب صديقي وزير المحاربين القدامي، وكان مقتضبا ومموها كي لا يعلم أحد بحقيقة الأمر.

- م. ماتاساو: يا سيدي، لو كنت أعلم أن الأمر ليس محصورا في المبنى، بل أمتد لشخصوكم، لما كان فريقنا تجشم العناء وحضر. فنحن إزاء حالة عصيان شرسة من جموع الأحبار، وعقدنا معكم لا يغطي هذا الجانب، ببساطة لأنه لا يمكن التخاطب أو التفاوض مع أحبار قررت العصيان.

- الوزير: سحقا يا صاحب العينين الضيقتين! ماذا أفعل الآن؟

- م. ماتاساو: لا حل سوى أن تيمم أملك شطر التراسل الإلكتروني، لكن حذار، فحالة الحنق والعصيان التي تصيب الحروف الإلكترونية التي ستتمرد بدورها عليكم. أرجو ألا تتخذوا قرارات لا تنفذونها، وإلا ستقعون في المشكلة نفسها مجددا.
سأرسل لك تقرير مفصلا بنتائج تحقيقنا إلى بريد ابنتك الإلكتروني. والآن، أرجو أن توقع لي بأننا أتممنا طرفنا من العقد.

- الوزير: بكل سرور يا عزيزي، لكن ناولني قلما لا يتبخر حبره بين يدي!

وظلت الأحبار تهاجر هجرة جماعية عن وزارة الثروة الإنسانية في أرض يعربستان. تنتشر، ثم نتدثر لتعانق الهواء الفسيح. وكيف لا، وهو خير لها من وصمة العار الشهيرة: «حبر على ورق»!

كاتبة ورئيسة تحرير دار ناشري للنشر الإلكتروني
كاتبة كويتية. حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية واللغة الإنكليزية من جامعة الكويت بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وعلى درجة الماجستير في علوم المكتبات والمعلومات من جامعة الكويت. صدر لها 15 كتابا مطبوعا: أربع روايات، ومجموعتان قصصيتان، وكتاب في اللغة وآخر في شؤون المرأة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية