إني أنبت، أنبت، أنبت!
إنه يوم الجمعة، وإسرافيل يلتقم قرنه مجددا. نفخة واحدة، إنها الرادفة، ويا للهول. إني أنبت مثل تلك البذور الصغيرة التي وضعناها في القطن في حصة العلوم، فبرزت منها سيقان هزيلة، ما لبثت أن استغلظت واستوت. إني أنبت، من عُجب الذنب، من عظمة العصعص المنمنمة التي ادعى بعض المساكين أنها من مخلفات الإنسان الأول الذي كان له ذيل! إني أنبت من جديد، دون حبل سري أتمسك به، ودون مشيمة تعصمني من الأنواء، أنا أنبت كما نبتت أول مرة، لكن بالحركة السريعة، وبالمؤثرات الصوتية التصويرية الكاملة، أنا أنبت وأنخلق من جديد أمام عين نفسي، نفسي تشهد على نفسي، روحي تراني، وترى جسدي يتخلّق، وتلتحم معه مجددا، تصافحه مصافحة ثانية، ولتصفع أولئك المنكرين.
وها أنا أدب على رجلي. أرى الكون وقد تبدّل، إنه كون ذُبح فيه الموت، إنه كون سمع الرب عزّ وجلّ يقول «أنا الملك! أين ملوك الأرض؟» فما أجاب أحد.

بالساهرة
ها أنا بالساهرة، وها هم النابتون مثلي. كل منشغل بنفسه، لا أحد يكلف نفسه البحث عن أحد أو الاطمئنان عليه. لا، ليست أنانية بل هول عظيم كفيل بإفقادك ذاكرتك العاطفية، فلا تعبأ إلا بمصيرك، ولا تود أن تؤمن إلا مستقبلك الخلودي.
كلٌ منا بُعث على ما مات عليه. والمقام اليوم ليس مقام خجل من الآخر بقدر ما هو مقام فزع من اليقين بأن ثمة حساب محكم مبرم ناجز يحوم في الأفق، وأول علامات الحساب هذا أن المرء يبعث على ما مات عليه، وهذا يستوجب ويستجلب أن ثمة كتاب {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}، وهذا شعور مفزع للمسيء وللمحسن منّا على حد سواء، فمن يخلو كتابه من المصائب والمعائب؟
خمسون ألف سنة، خمسون ألفية بمقاييسكم الدنيوية. كثير؟ أعلم. لكن ما هي مقارنة بالخلود؟ باللاتناهي، باللافناء؟ لا شيء البتة. وبمقاييسكم الدنيوية فإن قسمة أي عدد على الصفر غير جائزة، وكذلك قسمة العدد على اللانهاية، جائرة وغير جائزة.
ها هي الشمس تأتي، ترفل بكامل قُطرها الوسيع وتدنو مقدار ميل فوق رؤوسنا. هل تتحرقون شوقا لتعرفوا أي ميل هو؛ ميل المكحلة أم الميل القياسي؟ وما أهمية ذلك وهي اقتربت منا بكاملها دون كسف تبث الوَجْف، واعتمدت فوق رؤوسنا وفوق أجسادنا الجرداء؟ بالمناسبة، أين أنتم يا رعاة العري ودعاته؟ أليس الفرصة مؤاتية الآن؟ أين كاميراتكم الميمونة؟ صوروا، صوروا، فالفرصة لا تعوض. حقا، أين هم؟ ها هم كغيرهم ذاهلون كل يفكر في مصيبته.

الغرق في العرق!
إذا كنتم تظنون أن الغرق في العرق الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم مجرد أمر مجازي، فواهمون أنتم. امممم، كيف أشرح لكم ما يحدث الآن؟ حسن، تخيلوا أن شخصا واقفا وحوله «سحابة» من العرق تصل إلى ما شاء الله أن تصل إليه؛ «فمنهم من يكون إلى كعبيه ... ومنهم من يلجمه العرق إلجاما» وهذا السحابة تحيط بالشخص إحاطة الهالة بالجسد، وترافقه السحابة العرقية أينما ذهب. وحتى أقرب الأمر أكثر لعقولكم الأرضية البسيطة، تخيلوا أن الإنسان يقبع في «كوب»  افتراضي شفيف يمتلأ بالعرق، كل على شاكلته، كل وفق عمله.
لكن هناك فئة ذات حظوة! سبع غمامات، لسبع فئات مخصوصة، فئات هامة جدا تحمل جوازات سفر دبلوماسية أخروية فلا تقف في طابور، ولا يطالها تفتيش. ها هم السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله. لا تقولوا يا بختهم، بل قولوا ما أكبر عزيمتهم، وما أجل عملهم، وما أروع وأصدق خالقهم الذي وعد وأوفى، {ومن أصدق من الله قيلا}؟

الأنظار والانتظار
قد يكون معظم الموجودين عاشوا 50 سنة أو أكثر بعقد أو عقدين، 50 سنة ثقيلة وطويلة. فكيف تكون تجربة الوقوف متعرقين لخمسين ألف سنة؟ أغمضوا أعينكم وتخّيلوا. لا أقول هذا لأفزعكم، فهل نسيتم عبارة آينشتاين الشهيرة بأن الأمور نسبية؟ فالخمسين ألف هذه شأنها شأن الإقامة في القبر، تمر على الكافر بثقل، وتمر على المؤمن كصلاة مكتوبة.
بلغت القلوب الحناجر، وها نحن نبدأ بالاستجارة من الرمضاء، ولو أودت هذه الاستجارة ببعضنا إلى النار، حرفيا هذه المرة! فكما يقال، توقع المصيبة مصيبة أكبر. وهنا بدأنا بالبحث عن طريقة لنتسلم كشوف أعمالنا مهما كانت مخيفة أومخيّبة.
«نفسي، نفسي» يكررها على مسامعنا نبي الله آدم ونوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام أجمعين. ولا يأتي الخلاص إلى على يد سيد ولد آدم، الذي يستبدل بـ»نفسي نفسي»، قوله «أمتي أمتي» ساجدا حامدا تحت العرش.

الصحف الطائرة
حان وقت الحساب، وها هي الصحف تتطاير. وهو سجلك الإنجازي/الإجرامي يلاحقك، ويدس نفسه في يديك، إما اليمين وإما الشمال، ولا تظنن أن لك الخيار. اقطع يدك إذا شئت، تبرأ منها، ستجدها تلحقك وتعود مكانها لتستلم صحيفتك. لا تكابر، لا تجادل، لا تراوغ، فأنت في دار الحق.
فجأة تجد صحف جميع الخلائق وقد تطايرت في الهواء، وقد علمت كل صحيفة مشربها ومسربها، وها هي لا تضل طريقها تأتيك لتعطيك خُلاصة ملخّص التلخيص:
يمين = جنة.
شمال = نار.

«ووضع الميزان»
تحسبا لنزعة بعض البشر في الجدال والمراوغة ومحاولة التحذلق في جميع الأحوال بما في ذلك يوم القيامة، لا بد من محاسبة تتسق مع أرقى معايير الشفافية والمحاسبة الصارمة، وعلى أعلى مستويات التدقيق والمراجعة. صحيفتك أخبرتك بمأواك، لكن من حقك أن تعرف لم حصلت على هذا المصير –في حال أنك ادعيت أنك لا تعرف! من حقك أن تعرف، ولو كان الذي يقول لك ذلك هو رب الملكوت. من حقك أن تعرف، من حقك. فسبحان الحق العدل، سبحانه.
وسبحان اللطيف. حساب الكافر على رؤوس الأشهاد، فمن أنكر وجود الله لا يؤمن بوائقه، ولا يؤمن أن يدعي أن في الحساب تدليس، فلا بد من إشهاد الملائكة والخلائق عليه من باب الاحتراز، ومن باب التكبيل. أما المؤمنون، فقد حاضرنا ربنا محاضرة، وعاتبنا، ولم يهتك سرنا، فهنيئنا لنا، هنيئا.
لكن مرة أخرى، ها هي هناك فئة هامة جدا أخرى، فئة لم تحاسب أصلا، وسيقت في موكب إلى مكان بعيد حتى لم نعد نراها. سبعون ألفا، دخلوا الجنة بلا حساب، سبعون ألفا كانوا يتوكلون توكلا باللسان، وآخر بالقلب، وثالثا بالجوارح، فحق لهم أن ينضموا إلى موكب الخصوص.

لقد جيء بميزان له كفتان. أعلم أن بعض البشر الذين يهوون المراء يضحك في باطنه ضحكة استهزائية يتلجلج فيها حرف الخاء؛ فما الحاجة إلى ميزان ذي كفتين، لماذا لا يكون ميزانا رقميا مثلا؟
هل نسيتم الكفتين الذين على كتفي كل منكم؟ رقيب وعتيد؟ هل نسيتم أن لكم سجلين، سجل الحسنى وسجل السوء؟ وهل نسيتم نزعة البشر في التنميط وفي وضع الأمور في فسطاطات؟ هذا فسطاط أعمال الخير على اليمين، وهذا فسطاط أعمال الشر على الشمال. فبأي يد استلمت كتابك؟ تعال إذا وشاهد الكفة المقابلة لها ترجح، وشاهد الكفة الأخرى تترنح في الهواء. تعال وشاهد بعينيك، واجعل نفسك تشهد على نفسك.

ملائكة السجلات
أنتظر الملائكة تحضر ومعها السجل الكبير ليوضع محتواه في الميزان، و أمني النفس أن تسقط ورقة هنا، وأن تصفر ورقة هناك، وأن يكون الخطا ردئيا في صفحة. تخرصات إنسانة خائفة، فعند الله لا يضيع مقدار حبة من خردل، فكيف سمحت لنفسي أن أظن هذه الظنون. لا أعرف، لكن هكذا فكرت للوهلات الأولى.
عجبي كبير، كبير جدا! محتوى السجلات يعرض أمامي حياتي بالصوت والصورة والحدث كاملة الأبعاد! لا ثلاثية ولا رباعية الأبعاد بل كاملة الأبعاد. إنى أرى ما اجترحت مرة أخرى، صوتا وصورة وأبعادا كاملة مجسمة كأنها تحدث أمامي فعلا، بل أني في الحدث نفسه، إني محبوسة داخل نفسي، أنا داخل المشهد (دون أن أستطيع التغيير فيه). أنا داخل جسدي، أراني وأرى يدي تمتد لتأخذ سماعة الهاتف، وأحس بأحبالي الصوتية تهتز، وبلساني يتحرك وينطق ويغتاب. أنا داخل نفسي الآن، أشهد عليها، وأقرأ كتابي قراءة لم تخطر على قلب بشر.
{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}
ها هي أحداث عمري توضع واحدا تلو الآخر في الكفة الملائمة، ولسان حال الملائكة الشهود يقول: «هل تجرُئين على الإنكار؟».

هناك أعاجيب تراها، كلها تؤكد أمرين: «إنما الأعمال بالنيات» و«لا تحقرن من المعروف شيئا». آه لو ترون كفات الموازين تطيش حين توضع «لا إله إلا الله» في الكفة اليمنى، شاهدناها في الدنيا بعلم اليقين وربما بعين اليقين، وها نحن نشاهدها حقَ اليقين. تعرفنا على الوزن النسبي المرتفع لـ»سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم». فجأة تذكرت مدرِّسة الفيزياء حين أخبرتنا عن الكثافة، وأن الحجم ليس كل شيء، بل قد يكون الشيء صغير الحجم وكثيفا ثقيلا. وها هما العبارتان الخفيفتان نطقا، تكشفان عن كثافتهما الميزانية، وهما هما تتجهان -بعد أن أدتا دورهما في تثقيل الموازين- إلى الجنة لتنغرس كل واحدة منهما نخلة شماء لتستقبل صاحبها وتنحني له فور دخوله، {ويدخلهم الجنة عرّفها لهم}.

آه، كم خيبتي كبيرة. أصابعي تثرثر وتشهد علي، و لساني ينطق ويشهد على نفسه، وكأنه هو الآخر نبت له لسان شهيد عليه. « بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل». وأرجو أن تعفوني من التفصيل في أعضائي التي شهدت علي، وبم شهدت. فقد سترها الله علي، ولا يحوز أن أفضح نفسي.

حول الحوض
طوال إقامتي على الأرض وحلم نتائج الثانوية العامة يراودني بين الفينة والأخرى رغم أني أنهيتها منذ زمن طويل. ربما لأنها المفصل الذي يمكن للمرء من خلاله أن يتنبأ ببقية مستقبله المهني. وكذلك هو التزاحم على الحوض، شيء أشبه بانتظار نتيجة الثانوية العامة. للبعض تجربة لذيذة، وللبعض الآخر مرارة يتجرعها أثناء الانتظار وبعده.
هناك أراه، وأخيرا! كم قرأت عن شكله، وكم تخيلت. لم أعرف المعنى الحقيقة لدعجة العينين إلا الآن. حينما رأيته من بعيد، شعرت بشيء من الاهتياب، وها أنا أقترب زلفى ولا أشعر إلا بالتحنان. وصدق القائل «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه».
أعارك الصور التي دُمغ بها دماغي. حينما كنت صغيرة كنت أظن النبي صلى الله عليه وسلم يشبه الشيخ الشعراوي! وحينما كبرت بضع سنين، تسللت إلى مخي صورة الرجل النحيل المجعد البشرة ذي اللحية البيضاء الطويلة، وذي العصا المتعرجة، وحينما كبرت أكثر بدأت تصلني الصورة الحقيقية. لكنها كانت مجرد كلمات، ومجرد وصوف انطباعية أحاول أن أضع أجزاءها معا لتكتمل مربعات الأحجية. واليوم أراه عيانا، ولا أستطع كتمان غبطتي لأولئك الذين كان يمكن لهم أن يجمعوا عرقه الشريف. ولا أستطع أن أخفي شكري لله أني لم أولد في عصره ولم أره! فماذا لو كنت رايته ولو أؤمن به؟ ماذا لو رأيت بدر التمام، وقررت أن أشيح بوجهي وأن أُعليَ هبُل أو تراث الآباء.
لطالما كنت سَكُوتة، لكن في هذا الموقف سأتجرأ، و سأفعل مثل الغلام حين قال « لا أوثر بنصيبي منك أحدا»! سأطلب شربة ثانية من يده الشريفة، صحيح أن الشربة الأولى لا ظمأ بعدها، ولكني قاسيت كثيرا في حياتي لأحب شخصا لم أره، وأقتدي بشخص على سبيل السماع والنقل. إني أرجوه –صلوات ربي وسلامه عليه- أن يخصني بشربة ثانية جبرا لغضاضة الحياة علي، وكيف لا، وقد قضيت فيها ما قضيت ولم أحظ برؤية وجهه الشريف. لا أدري إن كان أحد الآخرين سمعني وقرر أن يطلب مثلي، لكن حقوق الملكية لهذه الفكرة محفوظة لي، يرجى عدم التعدي! سبقكم بها «عكاشة»، {والسابقون السابقون}! اعذروني، فأنا حتى الآن لم أتخلص من جميع صفاتي الأرضية، ولا يزال في قلبي شيء من الأنانية.

الصراط المستقيم
هذا ما طلبناه خمس مرات في اليوم؛ الصراط المستقيم. الآن حان الوقت لنعرف هل كان طلبنا جادا بما فيه الكفاية فنكون ممن أُجيبوا، أم ممن خُيّبوا.
هذا الطريق الذي قال عنه الحبيب –صلوات ربي وسلامه عليه- «أدق من الشعرة وأحدّ من السيف»، وهذا تعبير مجازي لتقريبه إلى عقولكم البشرية، وهو فعلا دقيق بشكل لا يمكنني شرحه لكم بلغتكم الأرضية القاصرة.

ما اريد أوصله لكم هو أن التوازن عليه في الآخرة، هو انعكاس لمقدرتنا على التوازن عليه في الدنيا. الصراط هو مرآة لأعملانا، ومروقنا من عليه تحصيل لصدق دعائنا، ولصدق استقامتنا على ما يحقق هذا الدعاء من تطويع لجوارحنا. ولأن الجزاء من جنس العمل، فإن الصراط يطوّع نفسه للمار عليه في الآخرة، بقدر ما طوع هذا الإنسان نفسه لتنقاد على الصراط المستقيم في الدنيا.
هناك من يعبر قبل أن يرتد إليه طرفه، وهناك من يحبو كالطفل الصغير. أما الخطاطيف والكلاليب فهي أشياء تشبه تلك التي في دنياكم نوعا ما، لكن للأسف لا أجد في معاجمكم المفردات الملائمة للتعبير عن فظاعتها، لذا أفضل ألا أتطرق للأمر أصلا من باب إيثار الأمانة والسلامة!
تسحب الخطاطيف أصحابها المعرَّفين لها، تضمهم إلى أمهم الهاوية، حيث السَّموم واليحموم. أما المؤمنون فلكلٍ نور، بقدر جبل أو بقدر طرف إبهام الرِجل، كل يعبر على شاكلة عمله.

التقاصص
نحن الآن في طريقنا إلى المرحلة ما قبل الأخيرة، إلى الجدار العازل، إلى المنطقة نازعة الغل، إلى القنطرة. هنا نتقاصص من بعضنا، ونكون جاهزين لنكون {إخوانا على سرر متقابلين}.


ألوان أكثر من السبعة!

«ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».

حين وهبنا الله مشيئة في الدنيا وهدانا النجدين، أعلمنا أن الجزاء من جنس العمل، و{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}؟ وما جزاؤنا في الآخرة إلا المشيئة أيضا. فمن طوع إرادته ومشيئته في الدنيا، فـ«كان هواه تبعا» لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن جزاءه مشيئة أيضا، لكنها مشيئة من نوع خاص، مشيئة خارقة تحقق كل شيء وأي شيء؛ {لهم فيها ما اشتهت أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون}. فسل تجب، واطلب تعطَ. ولا أعرف لماذا يصر البعض على طرح أسئلة عبثية من نوعية «لماذا ليس للمرأة حور عين في الجنة؟» يا سيداتي ويا سادتي، ادخلوا الجنة وحينها اطلبوا ما تشاؤون، فما ضرب في القرآن ضرب من باب المثال لا الحصر، فهل يعني لكم اليوم الرمان والعنب شيئا وهو يشحن شحنا من أقاصي العالم على مدار العام؟ قطعا لا، ولكنه كان يعني الكثير لعرب الجاهلية. وهل يفرح سكان المناطق المتجمدة بالظل الوارف؟ أظنهم يتمنون الجنة كلها شواطئ مشمسة ليل نهار. يا جماعة، ادخلوا الجنة، وبعد ذلك أرهقوا أنفسكم –إذا شئتم- في التجادل عن صنوف النعيم التي فيها. الجنة مكان ماتت فيه الـ«لا».
وبعد أن تلذذت بكبد الحوت، وبعد أن رأيت عنق الموت مجزوزا وعلمت أنه خلود فلا موت، يطيب لي أن أخبركم عن بعض ما أرى، لن أضيع وقتي في إخباركم بأمور لا يمكن لعقولكم الأرضية أن تعيها. لكن هل يكفيكم أن تعلموا أن في الجنة ألوانا لم نرها في الدنيا؟ لا أعرف كيف أصفها لكم، فهي ليست مزيجا مفتعلا من الألوان السبعة إياها، بل ألوان جديدة وأصيلة، ألوان لن أكلف نفسي إحصاءها لأنني أعلم أن الرقم الذي أصل إليه لم تتوصلوا إليه بعد، ولن تتوصلوا إليه. لكن تخيلوا معي، حاولوا أن تعتصروا أخيلتكم لتتصور أن هناك ألوانا جديدة. مساكين! كنا نفرح بال 256 لونا في شاشات الكومبيوتر، ونظنها فتحا من الفتوحات، أو بالألوان المتدرجة في اللوحات الزيتية، أو بالطبقة الشفافة اللامعة التي توضع فوق المطبوعات، أوبالتذهيبات التي تضاف فوق قطع الأثاث، ولا نعلم أن هذا لا يكون عشر معشار الألوان الموجودة في الآخرة. ورغم أنه لا تعب في الآخرة ولا نصب، لكني فعلا أحس بالتعب من محاولتي إيجاد كلمات تعبر لكم عما أرى الآن!
أغمضوا أعينكم وتخيلوا، وأنا أكيدة أن البصر سينقلب خاسئا، وفارغا. فهذا مما لم يخطر على قلب بشر.

هنالك ماتت الـ«لا»، هنالك حرم حصين لا يدخله إلا لمن يتقن قول «لا» هنا.
ومن هنا إلى هنالك طريق قصيرة، لا أعرف لم يستطولها البعض.

كاتبة ورئيسة تحرير دار ناشري للنشر الإلكتروني
كاتبة كويتية. حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية واللغة الإنكليزية من جامعة الكويت بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وعلى درجة الماجستير في علوم المكتبات والمعلومات من جامعة الكويت. صدر لها 15 كتابا مطبوعا: أربع روايات، ومجموعتان قصصيتان، وكتاب في اللغة وآخر في شؤون المرأة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية