1

كان ذلك قبل ظهيرة أحد أيام الشتاء القارصة البرودة. وفي مدينة "إيست بورت " بولاية "ماين" التي دفنت تحت طبقة كثيفة من الثلوج التي سقطت حديثاً.  كان الصخب الاعتيادي في الشوارع مفقوداً بحيث بإمكان المرء أن ينظر إلى مسافات بعيدة  دون أن يشاهد سوى فراغ أبيض خامد يواكبه صمت مُطبق ـ ولست أقصد بالطبع بأن بإمكان المرء أن يشاهد الصمت ـ لا. وإنما بإمكانه أن يسمعه. أرصفة طويلة وخنادق عميقة وجدران شاهقة من الثلوج من كل جانب.

 

ومع ذلك , بإمكانك أن تسمع هنا وهناك صوت خفيض لمجرفة خشبية، ولو كنت سريع الملاحظة بما فيه الكفاية، فسوف تلمح أيضاً عن بعيد في أحد تلك الخنادق، ما هو أشبه بشكل أسود اللون، شكل ينحني ويظهر من جديد في اللحظة التالية ، بحركة  قد تعرف بأنها لرفع مجرفة مليئة بالثلوج. ولكن عليك أيضاً أن تكون سريع الملاحظة لأن ذلك الشكل الأسود لن يبقى طويلاً، وإنما سوف يُسارع برمي المجرفة لكي يسرع في الذهاب إلى المنزل، وهو يُدلّك نفسه بيديه لكي يشعر بالدفء. نعم، كان الطقس قارصاً، وبذلك كان من العسير على أي شخص حتى على من يقوم بتجريف الثلوج أن يحتمل البقاء في الخارج لفترة طويلة.

 

, هبتت السماء الآن , هبتت الريح وبدأت تعصف بشكل مُتقطع بهبّات نَشطة كانت تسوق معها. إلى الأعلى والأسفل، إلى الأمام وإلى كل مكان، سُحباً من رذاذ الثلوج. ومع اندفاع كل هبة من تلك الرياح، كانت الكتل الثلجية البيضاء الضخمة تتراكم أشبه بالأضرحة. وكانت ريح أخرى قد عصفت بعد لحظة وحوّلت الثلوج إلى الطرف الآخر، وهي تحمل معها, من قمم الجبال, رذاذ الثلوج الجميل الذي كان أشبه بالأمواج الهوجاء التي تقود الزَبد إلى البحر. ثم هبت ريح ثالثة على المكان وجعلته نظيفاً أشبه بوجه اليدّ ـ هذا لو كان ذلك التشبيه ينطبق عليها ـ كان كل ذلك مثيراً للجنون وأشبه بلعبة. فجميع تلك الرياح كانت تطرح الثلوج في خنادق بجانب الأرصفة، نعم، فقد كانت تلك مهمتها.

 

في ذلك الوقت كان ألونزو فيتس كليرنس جالساً  في الردهة الصغيرة الأنيقة، بردائه الحريري الأزرق الجميل الذي تُزيّنه أطراف وحواشٍ من قماش الساتان القرمزي المتقن الحياكة. كانت النيران القرمزية تلتهب  في الموقد., وكانت لاتزال أمامه بقايا إفطاره على مائدة  تنتشر عليها أدوات المائدة المرتفعة الثمن التي  تُضيف ما يشبه السحر الذي يتناغم مع أناقة وجمال وغنى أثاث الغرفة.

ثم هزّت ريح هوجاء من جديد النوافذ وانهالت عليها بموجة كبيرة من الثلوج.

 

تمتم الشاب الوسيم العازب:

"هذا يعني بأنه لا مجال للخروج اليوم من المنزل.  حسناً، أنا قانع بذلك. ولكن ماالذي علي أن أفعله بشأن الرفقة؟ أمي تكفي تماماً، وكذلك خالتي سوزان تكفي تماماً، لكنهما مثل هذا البائس فهما معي على الدوام، وما يحتاجه المرء في مثل هذا اليوم الكالح هو بعض الاهتمامات الجديدة، ويحتاج إلى عنصر جديد يُثير رتابة مثل هذا الاحتجاز الإلزامي".

كان ذلك ما قاله ألونزو بوضوح، إلا أنه لم يكن يعني به شيئاً. فكما تعلمون, لا يرغب المرء عادة بالاحتجاز، بل على العكس...

 

ثم نظر إلى الساعة الفرنسية الجميلة التي كانت على رفّ الموقد وقال:

"ها هي الساعة على خطأ للمرّة الثانية. لا تُشير هذه الساعة أبداً إلى الوقت الصحيح.، ولو أشارت إلى ذلك، فسوف يكون ذلك بالخطأ مما له ذات النتيجة ".

ثم نادى " ألفرد !"

لم يكن هناك أي ردّ.

حدّث نفسه " ألفرد، خادم جيّد لكنه مُتقلب الطباع مثل هذه الساعة".

ثم ضغط على جرس كهربائي مُوضّع على الجدار. انتظر لحظة، ثم ضغط عليه ثانية وانتظر بضع لحظات أخرى وقال:

"لابد أن البطارية مُللتخاطب كانتا أنني بدأت، فسوف أكتشف كم هي الساعة.،  ثم تقدم إلى قناة للتخاطب  كانت على الجدار (جهاز يُستخدم بدلاً من جهاز الهاتف). نفخ في الصفارة ونادى: - أمي!  ثم كرّر ذلك مرتين.

 

حسناً، لا فائدة من ذلك، لابد أن البطارية التي لدى والدتي مُعطلة أيضاً، ولن يكون بإمكاني أن أستدعي أحدهم للنزول من الأعلى، هذا واضح".

 

جلس على مكتب من خشب الورد، ومال بذقنه على يده اليسرى وقال وكأنه يتحدث إلى الأرضية: -  خالتي سوزان !..

أجابه صوت لطيف: -  أهذا أنت ألونزو؟

- نعم، أنا أشعر بكسل كبير وبارتخاء يمنعني من الصعود إلى الأعلى، أنا متعب للغاية،   ويبدو أنني لن أحصل من الأعلى على أية مساعدة.

- يا إلهي !  ما الأمر ؟

- أستطيع أن أقول بأن هناك ما يتسبب لي بالضيق! .

- ألونزو، لا تتركني في هذه الحالة من التوجّس، ما الأمر؟

- أريد أن أعرف ما هو الوقت.

- أنت أيها الصبي البغيض، ما هذا الدور الذي تلعبه معي، أهذا كل شيء؟

- هذا كل شيء بشرفي، اهدئي خالتي. أعلميني فقط كم هي الساعة الآن، وسوف تحصلين على بركتي.

- الساعة هنا هي التاسعة وخمس دقائق فقط ، ولست في حاجة إلى أجر، احتفظ ببركتك لنفسك.

- شكراً خالتي!  لم يكن ذلك سيجعلني فقيراً، كما لم يكن سيجعلك ثرية ، فبإمكانك العيش بدون أية موارد إضافية.

 

نهض وهو يتمتم " التاسعة وخمس دقائق"، ثم وقف بمواجهة الساعة وقال " أنت تعملين الآن بشكل أفضل من ذي قبل، كل ما في الأمر أن الخطأ هو أربع وثلاثين دقيقة لنرى... لنرى... ثلاث وثلاثين وواحد وعشرين يساوي أربع وخمسين دقيقة،  أربع مرات أربع وخمسين يساوي مائتين وست وثلاثين، وإذا حذفنا منها واحداً يبقى لدينا مائتان وخمس وثلاثين، هذا صحيح. ثم  أدار عقارب الساعة إلى الأمام  إلى أن أصبحت تشير إلى الواحدة إلا خمس وعشرين دقيقة  وقال: " سوف أرى الآن إن كان بإمكانك أن تبقي على صواب ولو لفترة قصيرة... وإلا فسوف أبيعك بالمزاد العلني".

 

ثم جلس من جديد على المكتب وهتف:

 

- خالتي سوزان!

- نعم عزيزي

- هل تناولت إفطارك؟

- نعم، منذ ساعة.

- أأنت منشغلة؟

- لا، ما عدا في الحياكة. لماذا؟"

- هل برفقتك أحد؟

- لا، لكنني بانتظار بعض الرفقة -  في الساعة التاسعة والنصف.

- أتمنى لو كنت أنا أيضاً بانتظار أحدهم. أشعر بالوحدة  وأرغب في التحدث مع شخص ما.

- حسن جداً، تكلم معي.

- لكن الموضوع خاص جداً.

- لا تخف، تكلم على الفور لا يوجد هنا أحد سواي.

- لست أدري فيما إذا كان علي أن أجازف بذلك أم لا، ولكن...

- ولكن ما الأمر ؟ لا تتوقف هنا !  فأنت تعلم بأنك تستطيع أن تثق بي ألونزو، أنت تعلم ذلك.

- أنا أشعر بذلك خالتي، لكن الأمر جدّي جداً. وهو يؤثر بي بعمق. أنا وجميع أفراد العائلة، وحتى أن من شأنه أن يُؤثر على  كامل المجتمع.

- ألونزو، أعلمني  بالأمر!  ولن أبوح بكلمة واحدة مما سوف تقوله، ما هو الموضوع؟

- خالتي، لو تجرأت..

- أرجوك، استمر ألونزو! أنا أحبك وسوف أشاطرك مشاعرك، أعلمني بكل شيء ولتثق بي ما الأمر؟

- إنه الطقس!..

-  فليمحق الله الطقس، لست أفهم كيف بإمكانك أن تتعامل معي هكذا  لو..

- خالتي العزيزة، هوّني عليك، هوّني عليك، أنا آسف، أقسم لك بشرفي بأنني آسف لذلك، وبأنني لن أكرّره، ألن تسامحينني ؟

- نعم أنا أثق بك، بما أنك تبدو لي صادقاً تماماً، رغم أنني أعلم بأن علي ألا أفعل ذلك، لأنك سوف تخدعني مرة أخرى فور نسياني ما فعلته.

- لا، لن أفعل ذلك، ولكن في مثل هذا الطقس، يا إلهي! على المرء في مثل هذا الطقس أن يحاول رفع معنوياته ولو كان ذلك بأسلوب مُخادع. الثلج يسقط، والريح تهب وتعصف، والبرد قارص !... كيف هو الطقس لديك ؟

- دافئ, ممطر وكئيب. هنا يتجول الناس الآن في الشوارع وهم يحملون واقيات المطر التي تسيل المياه من جميع أطرافها. هناك رصيف مضاعف من واقيات المطر التي تنتشر على جوانب الأرصفة إلى أبعد مكان يصل إليه نظري. وقد أشعلت النار لكي تضفي البهجة على المكان ولكن نوافذي مفتوحة بذات الوقت لكي أحصل على بعض الانتعاش، ولكن دون جدوى، ودون أية فائدة.لاشيء يدخل من النوافذ سوى تلك النسمة المعتدلة  لشهر كانون الأول (ديسمبر) التي تحمل معها من الخارج عبير الزهور الذي يفوح من الحقول التي تُبهج برونقها وروعتها نفس المرء عندما تكون روحه مكسوّة بالخيش وبالرماد  (تعبير مجازي يعني عندما يشعر بالاكتئاب)، وعندما يكون قلبه مُحطماً.

 

فتح ألونزو شفتيه لكي يقول لها " عليك أن تطبعي ما قلتيه وتضعيه  ضمن إطار" لكنه ضبط نفسه, لأنه سمع صوت خالته وهي كانت تتحدث مع شخص آخر.

 

توجه إلى النافذة, وقف أمامها وبدأ يتأمل ذلك المشهد الشتوي الكئيب. كانت العاصفة تقود الثلوج أمامها بعنف لم يسبق له نظير،  وكانت مصاريع النوافذ  تقصف وتقرع بعنف. وكان كلب وحيد بائس برأس مطأطأ  وذيل مرفوع، قد التجأ بجسده المرتجف من الرياح العنيفة، إلى أحد الجدران بحثاً عن الحماية. كانت هناك فتاة شابة تشقّ طريقها من خلال تيارات السيول التي أغرقتها حتى ركبتيها، وقد استدارت بوجهها عن تيار الهواء، بينما كانت قبعة رداءها الواقي من المطر تتحرك فوق رأسها إلى الأمام وإلى الوراء مع هبوب الرياح

 

ارتعد ألونزو وقال وهو يتنهد "من الأفضل لي أن أنظر إلى الوحل، وإلى المطر الشديد الرطوبة، وحتى إلى تلك الزهور الذابلة من أن أهتم بهذا!"

 

وعاد من أمام النافذة، إلا أنه بعد أن مشى خطوة واحدة كان قد توقف على الفور بوضع الاستماع. كانت قد وصلت إلى مسامعه نغمات رقيقة وخافتة لأغنية كان يعرفها تماماً. ظلّ واقفاً هناك  مُحنياً رأسه إلى الأمام دون أن يشعر بذلك وهو يتجرع  كآبة اللحن  وهولا يكاد يتنفس، وحتى دون أن يُحرّك يده أو قدمه. كانت هناك بعض الأخطاء في أداء الأغنية. إلا أن ذلك كان بالنسبة إلى ألونزو، ما من شأنه أن يُضيف إلى اللحن المزيد من السحر، ومما لا يجعل ذلك اللحن  مشوباً بأية عيوب... كان الخطأ في اللحن عبارة عن بعض الالتواء في الترانيم الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة من المذهب الموسيقي أو من غناء الجوقة المرافق لتلك القطعة الموسيقية. وعندما توقف صوت الموسيقى سحب ألونزو نفساً عميقاً وقال:" لم أسمع قطّ بمثل هذا الغناء الرقيق!".

 

ثم توجه بسرعة إلى المكتب. أصغى للحظة ثم قال بصوت حميمي حذر:

 

- خالتي، من تلك المغنية ذات الصوت السماوي الرائع ؟

- إنها الرفيقة التي كنت بانتظارها، وسوف تمكث معي لمدة شهر أو شهرين، سوف أقدمها إليك الآن آنسة...

-  خالتي سوزان، بحق الله، انتظري لحظة، أنت لا تتريثين ولو لحظة للتفكير بما تقومين به!

ثم ركض إلى غرفة نومه، وعاد بعد لحظة وقد تغيّر مظهره الخارجي بشكل واضح وقال بنزق: " كانت ستقدمني إلى تلك الملاك وأنا في رداء النوم الأزرق ذي الأطراف الحمراء! لا تُفكّر النساء مطلقاً قبل التصرّف".

 

ثم أسرع بالوقوف بجانب المكتب وقال بحماس :

- أنا الآن على استعداد، ثم بدأ يبتسم وينحني بكل ما لديه من كياسة ومن قدرة على الإقناع.

- حسن جداً، الآنسة روزانا  إيثلتون، دعيني أقدم إليك ابن شقيقتي، والمُفضّل لدي السيد ألونزو فيتز كليرنس!..هوذا! كلاكما من الأشخاص الجيدين، وأنا أحبكما. سأترككما معاً لكي أنجز بعض الأمور المنزلية. اجلسي روزانا. إلى اللقاء ألونزو لن أتأخر.

 

كان ألونزو أثناء ذلك ينحني ويبتسم، وكأنه يُشير إلى عدد من السيدات الشابات اللواتي يجلسن أمامه في مقاعد وهمية. لكنه جلس بعد ذلك لكي يحدث نفسه:

" كان هذا من حسن الحظ !  فلتهب الرياح الآن، ولتندفع الثلوج، ولتُظلم السماء، فلن أهتم كثيراً بذلك ".

 

والآن, وبينما يتبادل الشابان الحديث و يتعارفان، دعونا نسمح لأنفسنا بالبحث عن الأكثر لطفاً وعن الأفضل بينهما.

 

كانت روزانا جالسة بمفردها بأسلوبها الرشيق غير المُتكلّف في صالة استقبال شقّة ذات مفروشات فخمة هي على ما يبدو غرفة الاستقبال الخاصة بسيدة تمتع بذوق رفيع وبالإحساس، هذا لو كانت مثل تلك العلامات والرموز تفيد في شيء. فعلى سبيل المثال كانت هناك بجانب مقعد منخفض مريح , طاولة عمل متينة وأنيقة عليها سلّة قليلة العمق مليئة بمختلف أنواع خيوط التطريز ومن غيرها من أنواع الخيوط  ومن بعض النثريات. كان بعض تلك النثريات ما يتدلى بوفرة وإهمال من تلك السلّة،  وكانت تنتشر على الأرضية  قطع من أقمشة تركية حمراء زاهية الألوان، ومن أقمشة فارسية زرقاء، ومن أقمشة الأطفال، ومن بعض الأشرطة، وزوج  من المقصات،  واثنتان من بكرات الخيوط ومن بكرات الأنسجة الحريرية. وعلى أريكة مترفة مُنجدة  بنوع من الخيوط الهندية السوداء والذهبية التي تتداخل فيما بينها ,كانت هناك مجموعة أخرى من الخيوط التي لايمكن تحديد ألوانها., وقطعة كبيرة من قماش أبيض متين رُسم على سطحه شكل لباقة من الزهور كانت قيد الإنجاز بواسطة إبرة معقوفة.، وكانت قطة المنزل نائمة على هذا القطعة الفنية. وفي إحدى المشربيات، كان هناك مسند خشبي عليه لوحة لم تُستكمل بعد وبجانبها , على كرسي , لوحة بالألوان ومجموعة من فراشي الرسم. كما تنتشر الكتب في كل مكان من تلك القاعة: "مواعظ  روبرستون"، "ابن تيني"، "مودي وسانكي"، "عرش هاور"، "راب وأصدقائه"، كتب طبخ، كتب أدعية، كتب تحتوي على نماذج للرسومات، وكذلك وبالطبع كتب عن جميع أنواع الفخاريات. وهناك أيضاً بيانو عليه مجموعة من النوط الموسيقية الجميلة. وكانت على الجدران وعلى الرفوف وعلى رفّ الموقد، وفي كل المكان بشكل عام, تماثيل صغيرة وأشياء طريفة، ونماذج صينية ثمينة لأشخاص شيطانية.

 

تُطلّ حافة النافذة على حديقة بهيجة تحتوي على جميع أنواع الزهور منها من المحلية ومنها من المستورد من الخارج, وعلى شجيرات الورود.

 

إلا أن تلك الفتاة الشابة الجميلة كانت أكثر لأشياء أناقة في ذلك المنزل، سواء مع تلك الأشياء أو بدونها، وكان بإمكان المرء أن يتأمل فقط  تلك التقاطيع الرقيقة التي تُشبه نحت لشخصية إغريقية. بشرة بيضاء صافية أشبه بثمرة سفرجل أغناها انعكاس قرمزي خفيف من الحديقة. وعينان زرقاوان واسعتان رقيقتان بأهداب طويلة مُقوّسة توحيان بصدق طفلة وبرقّة ظبية،  ورأس جميل يُتوجه شعر ذهبي غزير، ووجه مستدير لَدن توحي كل حركة ولفتة فيه بكياسة فطرية.

 

أما ثوبها وزينتها فكانا يتّسمان بتناسق وإتقان لا يأتي إلا من شخص يتصف بذوق رفيع تُكملّه الثقافة. فهو من قماش حريري بسيط أرجواني اللون، مقصوص بالورب، تتخلله ثلاثة خطوط من حواشي ذات لون أزرق باهت بجوانب من نسيج حريري بلون رمادي. وكان ترتدي فوق الثوب طرحة (شال) بلون كستناوي داكن  بأطراف من الساتان القرمزي، وصديري بلون الذرة ثُبّت بأزرار من اللؤلؤ، وبسلسلة من الفضة مسحوبة إلى الخلف بربطة من المخمل الزاهي. كان ثوبها بياقة مفتوحة وأكمام قصيرة. كما ترتدي ربطة عنق من المخمل البني اللون بأطراف من الحرير القرنفلي الباهت.، وتحمل منديلاً من قماش متشرب بلون زعفراني، وأساور من المرجان، وقلادة معدنية ثمينة. وكان شعرها معقوصاً إلى الخلف بربطة من زهور البنفسج والزنبق.

 

هذا كل شيء. كانت الفتاة جميلة بشكل رائع حتى بدون تلك الملابس الفاخرة. تُرى كيف كانت ستبدو لو كانت ستتزين للذهاب إلى حفل راقص أو إلى مهرجان؟.

 

كانت طوال ذلك الوقت منشغلة بالحديث مع ألونزو، ولم تكن تشعر بتفحّصنا لها. مرّت الدقائق بسرعة، وهي لا تزال تتحدث معه، إلا أنها من وقت لآخر كانت تنظر إلى الأعلى، وعندما شاهدت الساعة اصطبغ خداها بحمرة قانية وقالت:

 

-  سيد فيتز كليرنس، عليّ أن أذهب الآن!

 

ثم وثبت بسرعة من على المقعد لدرجة لم تُمكّنها من سماع الشاب وهو يجيبها:

- وداعاً!

 

توقفت مشرقة، أنيقة، جميلة., نظرت إلى الساعة المُتهمة بتعجب وتساؤل ثم فتحت شفتيها وقالت:

 

- أهي الآن الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق! أي ما يقارب الساعتين.  مرّ الوقت وكأنه ليس أكثر من عشرين دقيقة... يا إلهي ما الذي سيظنه بي؟.

 

وكان ألونزو في ذات اللحظة أيضاً قد نظر إلى ساعته وقال:

 

- الثالثة إلا خمس وعشرين دقيقة.  ساعتان تقريباً!  لست أصدق ذلك، مرّ الوقت وكأنه ليس أكثر من دقيقتين. هل يمكن أن تكون هذه الساعة على خطأ من جديد؟ " ثم هتف:

 

- آنسة إثلتون، من فضلك ألازلت هنا؟

- نعم، لكنني سأغادر في الحال.

- لطفاً، هل بإمكانك  إعلامي عن الساعة؟

- اصطبغ وجه الفتاة بالحمرة من جديد، وتمتمت لنفسها " من القسوة بالفعل أن يسألني عن الساعة " ثم تكلمت لكي تُجيب بعدم مبالاة زائفة رائعة:

- الحادية عشرة وخمس دقائق.

شكراً، ولكن هل عليك المغادرة الآن ؟ هل يتوجب عليك ذلك ؟

- نعم.

- أنا آسف لذلك.

لم تجبه.

- آنسة إثلتون!

- ماذا؟

- أنت لا تزالين هنا، أليس كذلك؟

- نعم، ولكن علي أن أغادر بسرعة، ما الذي ترغب بقوله؟

- حسناً, لاشيء بالتحديد. أنا أشعر هنا بالوحدة. أعلم بأنني أطلب منك الكثير، ولكن هل تمانعين في التحدث إلي ثانية من فترة لأخرى. هذا كل شيء، لو كان ذلك لن يزعجك كثيراً ؟

- لست أدري ـ سوف أفكّر بالأمر. سوف أحاول.

- شكراً لك آنسة إثلتون !.

 

"آه... غادرت.وها هي الغيوم السوداء والعاصفة الثلجية  والرياح العاتية  تأتي من جديد.  لكنها قالت "وداعاً " ولم تقل "عِمت صباحاً" ، قالت "وداعاً"!.. كانت تلك الساعة تشير إلى الوقت الصحيح، ما أسرع ما مرّت الساعتان!"

 

ثم جلس ألونزو لفترة حالماً محدّقاً  بالموقد ., أطلق تنهيدة عميقة وقال: "كم هذا من الرائع ! كنت منذ ساعتين رجلاً حراً وها قد أصبح قلبي الآن في سان فرانسيسكو!".

 

كما كانت روزانا إثلتون أيضاً وفي ذات الوقت مستندة إلى نافذة غرفة نومها، تحمل بيدها كتاباً  وهي تُحدق بوجه خالٍ من التعبير بسيول الأمطار التي كانت تغسل السياج الذهبي، ثم همست لنفسها: " كم هو مختلف عن بورلي البائس برأسه الفارغ  وبموهبته الوحيدة المضحكة  التي هي المحاكاة!.

 

 

 

 

 

2

 

بعد مرور أربعة أسابيع  كان السيد سيدني ألغرنون بورلي أثناء حفل غداء بهيج  أقيم في غرفة الاستقبال الواسعة في " تلغراف هيل"، يُمتع الحضور بمحاكاة أصوات وإيماءات بعض الممثلين المشهورين  وبعض الأدباء و كبار الأثرياء في سان فرانسيسكو.

 

وكان السيد بورلي وهو رجل وسيم المظهر يُخفي في عينيه نظرة عابثة، يبدو في غاية المرح، إلا أنه كان مع ذلك يُلقي من حين لآخر نظرة ترقب وانتظار إلى الباب.

 

بعد فترة قصيرة دخل أحد الخدم من الباب ، وسلّم السيدة رسالة جعلها تومئ للسيد بورلي برأسها  بتفهّم، وكان ذلك على ما يبدو بمثابة التسوية لأمر ما بالنسبة للسيد بورلي، مما جعل حيويته تتناقص شيئاً فشيئاً  وبحيث ظهرت في إحدى عينيه نظرة كآبة كما ظهرت في العين الأخرى نظرة شريرة. وبعد أن غادر باقي الحضور المكان في الوقت المحدد وتركوه مع السيدة قال لها بورلي:

 

- لم يعد هناك أي شكّ بعد الآن. هي تتجنبني  وتعتذر باستمرار... لو كان بإمكاني على الأقل أن أجتمع بها  وأن أتحدث إليها ولو للحظة واحدة فقط، لكن هذا الوضع من الترقّب والحيرة...

 

قالت السيدة:

- سيد بورلي، ربما كان ما يبدو لك تجنباً ليس مجرد صدفة. فلتذهب الآن إلى غرفة الجلوس الصغيرة في الطابق العلوي ولتشغل نفسك لبعض الوقت. سوف أعطي بعض الأوامر التي تخصّ الشؤون المنزلية، وسأذهب بعد ذلك إلى غرفتها , وسوف تقتنع دون شك بالاجتماع بك.

 

صعد السيد بورلي إلى الطابق العلوي وهو ينوي الذهاب إلى غرفة الجلوس الصغيرة، لكنه كان أثناء مروره بجانب غرفة الاستقبال الخاصة بالخالة سوزان، التي كان بابها موارباً بعض الشيء، كان قد سمع صوت ضحكة مرحة يعرفها جيّداً.، وهكذا كان ,حتى دون أن يطرق الباب  أوأن يُعلن عن قدومه , قد دخل دون تردد إلى الغرفة. ولكن، وقبل أن يتمكن من الإعلان عن وجوده، كان قد سمع بعض الكلمات التي حطمت قلبه والتي جعلت دم الشباب يتجمد فيه. كان قد سمع ذلك الصوت يقول:

-  وصلتني  الصورة  حبيبتي.

ثم سمع صوت روزانا  التي كان ظهرها إليه تقول:

- ووصلتني صورتك أيضاً حبيبي!

 

تملكه غضب شديد.، واستمرت المحادثة التي حطمت قلبه:

- روزانا  كنت أعلم بأنك  ولابد جميلة،  ولكن هذا مُبهر، هذا يُفقد البصر، هذا يَفتن.

- ألونزو، سعادتي لا توصف بسماع ما تقوله. أنا أعلم بأنها ليست الحقيقة، إلا أنني سعيدة للغاية لأنك تعتقد ذلك!.  وكنت أعلم أيضاً بأن لك ولابد وجهاً يدلّ على النبالة، لكن الحقيقة كانت أسمى وأكثر مما كانت قد تصوّرته مُخيلتي.

- شكراً لك روزانا! الصورة تجعلني أبدو أفضل مما أنا عليه،  ولكن لا داعي لأن تسمحي لنفسك بالتفكير بذلك.

- نعم ألونزو.

- أنا سعيد جداً روزانا.

- ألونزو، لست أعتقد بأن مخلوق على الأرض كان قد عرف قبلي مثل هذا الحب، كما لن يعرف أي مخلوق بعدي أبداً ما هي السعادة  التي أشعر بها. أنا أسبح في سماء رائعة لا متناهية من السحر ومن النشوة المُذهلة ذلك لأنك لي روزانا، ألست لي؟

- أنا كليّ لك، كليّ لك ألونزو، الآن وإلى الأبد.  طوال اليوم  وفي أحلامي الليلية، وهناك في قلبي أغنية رقيقة واحدة مَقولتها " ألونزو فيتز كليرنس،  ألونزو فيتز كليرنس، إست بورت،  ماين !"

 

حينئذ صرخ  بورلي داخلياً " فليلعنه الله، ولكن وعلى كافة الأحوال ها قد حصلت على عنوانه "  ثم خرج من المكان.

 

في ذلك الوقت كانت والدة ألونزو، الذي لم يكن في وعيه، تقف خلفه تماماً مثالاً للدهشة، كانت مُلتفة من رأسها إلى قدميها بالفراء، بحيث لم يكن يظهر منها سوى عينيها وأنفها. كانت رمزاً جيّداً للشتاء، لأنها كانت مُغطاة بشكل كامل بالثلج.

بينما كانت الخالة سوزان التي تقف خلف روزانا مثالاً آخراً للدهشة، ورمزاً للصيف لأنها كانت ترتدي الملابس الخفيفة، وتُحاول بجهد كبير إنعاش جبينها المُتعرّق بالمروحة.

امتلأت عيون الاثنتين بدموع الفرح.

قالت السيدة فيتزكليرنس: " ألونزو،هذا ما يُفسر سبب إخفاق أي شخص في جعلك تخرج من غرفتك لمدة ستة أسابيع"!

وقالت الخالة سوزان:

- روزانا، هذا ما يفسر سبب كونك مُتوحّدة خلال الأسابيع الست الماضية!..

وكان الشابان قد وقفا على قدميهما خلال لحظة، وهما في غاية الارتباك، أشبه بتاجرين ضُبطا مُتلبسين بسرقة بضائع وهما الآن بانتظار حكم القاضي...

 

- ألونزو، فليباركك الله بُني!  أنا سعيدة لسعادتك. تعال إلى ذراعي والدتك!.

- فليباركك الله  روزانا  لما جلبته من سعادة لابن شقيقتي! تعالي إلى ذراعيّ!.

 

ثم كان هناك امتزاج بين قلوب وبين دموع فرح كل من الطرفين في كل من مدينة تلغراف هيل ومدينة إيست بورت سكوي., حيث قامت كل من السيدتين المُسنتين في المكانين باستدعاء الخدم، حيث تم إعطاء الأمر التالي إلى خادمة الأولى:

- املئي المدفأة بخشب الجوز وأحضري لي بعض عصير الليمون الدافئ المُحلّى.

وتم إعطاء الأمر التالي إلى خادمة الثانية :

- أطفئي هذه النار وأحضري لي إبريقاً من الماء المُثلج، ومروحتين من ورق النخيل.

 

بعد أن انصرف الشابان, جلست السيدتان الأكبر سناً للتباحث حول تلك المفاجأة اللطيفة وحول إعداد تحضيرات الزواج.

 

كان السيد بورلي قبل ذلك بدقائق قد أسرع بالخروج من شقة " تلغراف هيل" دون أن يستأذن بالمغادرة ودون أن يقابل أحداً. صَرّ على أسنانه وقال بمحاكاة لاإرادية للدراما الشعبية المفضلة لديه:

 

- لن يتزوجها أبداً!..  أقسم على ذلك!.. وسوف تقوم الطبيعة بالتخلص من حيوان القاقم الشتوي هذا قبل أن يرتدي الحلي الزمردية  للربيع، وسوف تكون روزانا لي!.

 

 

3

 

وبعد أسبوعين، كان يزور ألونزو يومياً ولمدة استمرت ثلاثة أو أربعة أيام، كاهن يرتدي نظارة أنفية يبدو عليه مظهر التُقى والورع., وكان اسمه بموجب البطاقة الشخصية " المُبجّل ميلتون هارغريف"  من منطقة سين سيناتي.

 

كان ذلك الكاهن قد قال لألونزو بأنه استقال من الكهنوت مراعاة لصحته - ولو كان قد أعلم ألونزو  بأنه استقال بسبب سوء حالته الصحيّة لكان قد أخطأ بالتأكيد في الحكم عليه، نظراً لما كان عليه مظهره من صحّة ومن قوة بُنية -  كما كان قد أعلمه بأنه كان قد اخترع جهازاً متورطاً من أجهزة الهواتف، وبأنه يأمل في كسب عيشه  ببيع امتياز استخدام ذلك الاختراع. كما أضاف بأن بإمكان أي شخص في الوقت الحاضر، أن يضع فرعاً لسلك برقي يستطيع بواسطته نقل الأغنيات من مكان لآخر،  كما بإمكان أي شخص في الوقت الحاضر أن يربط هاتفه الخاص بهاتف شخص آخر،  لكي يسترق السمع إلى الموسيقى التي قد تمرّ عبر الأسلاك، إلا أن الاختراع  الذي لديه من شأنه الحيلولة دون ذلك...

 

وكان ألونزو قد أجابه:

- حسناً، لو كان من يمتلك الموسيقى لن يفوته الاستماع إلى ما يتم استراق السمع إليه، فلِم سيكون عليه أن يهتم بذلك؟

 

ولكن الكاهن المُبجل قال:

- ما الذي تقوله؟ أتعتقد بأنه أليس عليه أن يهتم بذلك؟

قال ألونزو بتساؤل: حسناً  لِم  سيكون عليه أن يهتم؟

لكن المُبجل أجابه: لنفترض، لنفترض بأن ما يتم استراق السمع إليه عبر الأسلاك لم يكن الموسيقى فقط، وإنما كلمات الحب الأكثر خصوصية وقدسية ؟.

 

ارتجف ألونزو حينئذ من رأسه إلى قدميه  وقال:

- سيدي، هذا اختراع لا يُقدر بثمن ويجب أن أحصل عليه بأي ثمن...

لكن ما لم يكن في الحسبان أن ذلك الاختراع كان قد تأخر في الوصول من سين سيناتي.  وبذلك كان صبر ألونزو قد بدأ ينفذ لمجرد التفكير باحتمال مشاركة أحد السفهاء في الاستماع إلى كلمات الغزل الرقيقة التي كانت تُحدثه بها روزانا. وكان المُبجّل  في ذلك الوقت يكُّرر زياراته له، لكي يشكو من التأخير ولكي يتحدث عن الإجراءات التي تم اتخاذها لاستعجال الأمور. وهو ما كان يُطمئن ألونزو بعض الشيء.

 

وفي ظهيرة أحد الأيام صعد الكاهن السلالم  وطرق باب ألونزو، وعندما  لم يسمع أي ردّ دخل إلى الغرفة. نظر حوله بلهفة ثم أغلق الباب بهدوء وأسرع إلى جهاز الهاتف الذي كان ينبعث منه لحن رقيق جداً لأغنية "عما قريب يا حبيبي، عما قريب..." كان الشخص الذي  يغني يَلحَن كالعادة في المقاطع الخمسة التي تلت الجزء الأول والجزء الثاني الأوليين من مقطوعة الكورس (مجموعة المغنين). حينئذ أوقفه بورلي بهذه الكلمات  التي كان قد تفوّه بها بصوت يُحاكي تماماً صوت ألونزو بعد أن أضفى عليه نبرة السأم:

 

- حبيبتي !

- ماذا ألونزو ؟

-رجاءً, لا تُغني هذا اللحن هذا الأسبوع، ولتحاولي تجربة ما هو أكثر عصرية.

 

ثم سمع بورلي من السلالم صوت وقع القدم الخفيفة التي تتناسب مع صاحب ذلك القلب السعيد، وبذلك التجأ إلى خلف ثنيات الستائر المخملية وهو يبتسم ابتسامة شيطانية...

كان ألونزو قد دخل بسرعة وأسرع إلى الهاتف وقال:

 

- حبيبتي روزانا  ألن نغني معاً الآن؟

سألته روزانا بمرارة وسخرية:

- شيئاً عصرياً ؟

- نعم، هذا لو كنت تُفضلين ذلك.

- فلتغنه بنفسك، إن كنت ترغب في ذلك!

كانت تلك الطريقة الفظّة في الحديث  قد جرحت مشاعر الشاب وقال:

- روزانا، هذا الكلام  لا يُشبهك.

أجابت روزانا:

- أعتقد بأنها أصبحت الآن طريقتي في الحديث، كما كانت طريقتك المهذبة جداً في التحدث إلي سيد فيتز كليرنس.

- روزانا، السيد فيتز كليرنس؟  لم يكن في كلامي معك أية قلّة تهذيب!.

- حقاً؟ بالطبع، لابد أنني أنا التي أساءت فهمك، وأن علي الآن أن أطلب السماح... ها ـ ها ـ ها!.. لا شك في ذلك، كنت قد قلت لي لا تغنيها أكثر من ذلك اليوم!

- ما هو اللحن الذي طلبت منك ألا تغنيه أكثر اليوم..؟

- الأغنية التي ذكرتها لك بالطبع. لست أدري كيف أصبحنا فجأة بهذا البعد عن بعضنا!.

- لم أذكر أية أغنية.

- بلى، ذكرت لي ذلك.

- لا، لم أذكرها.

- أنا مُجبرة على  القول بأنك فعلت ذلك.

- وأنا مُجبر على أن أكرّر لك بأنني لم أفعل ذلك.

- هذا تصرف فظ آخر منك. هذا يكفي سيدي، لن أغفر لك هذا أبداً، انتهى كل ما بيننا!.

 

ثم وصل إلى مسامعه  صوت بكاء مكتوم. أسرع ألونزو بالقول :

- روزانا، لا تتفوهي بمثل هذه الكلمات! لابد من أن لغزاً مخيفاً يكمن وراء ذلك، لابد من أن خطأ شنيعاً قد حدث، كنت جادّاً وصادقاً تماماً عندما قلت لك بأنني لم أقل شيئاً حول أية أغنية. لم أكن لأجرح مشاعرك لأي سبب في هذا العالم... روزانا حبيبتي... أرجوكي تحدثي إلي... ألن تتحدثي إلي؟

كانت هناك فترة توقف قصيرة، سمع ألونزو بعدها صوت نشيج متكرر وبذلك علم  بأنها تركت جهاز الهاتف...

 

نهض وهو يتنهد بثِقل، وخرج من الغرفة وهو يحدث نفسه :

- سوف أقوم  بالبحث عن أمي في جميع البعثات التبشيرية الخيرية، وفي جميع مآوى الفقراء التي تذهب إليها.وسوف تتولى أمي إقناعها بأنني لم أقصد أبداً جرح مشاعرها...

 

كان المبجل في ذلك الوقت جاثماً أمام جهاز الهاتف أشبه بالقطّ الذي يعرف طريقه إلى الفريسة. ولم يكن عليه الانتظار لوقت طويل، لأنه كان قد سمع بعد لحظات صوتاً رقيقاً نادماً يرتجف بين الدموع ويقول:

 

- ألونزو حبيبي! كنت مخطئة ! لايمكن أن تكون قد قلت لي أي شيء قد يجرح مشاعري، لابد أن هناك من  قام بمُحاكاة صوتك  بخبث أو أن هناك من فعل ذلك على سبيل المزاح.

 

أجاب بورلي بصوت يُحاكي صون ألونزو:

- كنت قد قلت لي بأن كل شيء قد انتهى بيننا. فليكن ذلك., وأنا الآن أرفض عرضك هذا الذي يدلّ على الندم وأزدريه.

 

ثم غادر الغرفة، وهوفي غاية السرور بانتصاره الشيطاني، ولكي لا يعود مُجدداً وإلى الأبد بذلك الاختراع الهاتفي الكاذب.

 

بعد أربع ساعات، كان ألونزو قد عاد بوالدته من جولاتها المُفضلة على مأوى الفقراء والمعوّقين. اتصلا بمنزل سان فرانسيسكو، ولكن لم يصلهما أي رد. انتظرا، واستمرا بالانتظار بجانب ذلك الهاتف الصامت. وأخيراً، وبعد غياب الشمس في سان فرانسيسكو، وبعد ثلاث ساعات من حلول الظلام في إست بورت، جاءهما الردّ على تلك الاتصالات المتكررة بروزانا. لكن ذلك لم يكن مع الأسف سوى صوت الخالة سوزانا التي تحدثت لكي تقول :

- كنت طوال اليوم خارج المنزل . دخلت لتوي إلى المنزل، سوف أذهب للبحث عن روزانا.

انتظرا دقيقتين، خمس دقائق،عشر دقائق، ثم جاءت تلك الكلمات المشؤومة بصوت الخالة الذي يملأه الخوف:

 

- روزانا غادرت المنزل ومعها جميع أمتعتها. قالت للخدم بأنها سوف تذهب لزيارة إحدى الصديقات., وإنما وجدت في غرفتها حاشية صغيرة اسمعا ما كُتب فيها:

 

-"غادرت المنزل. لا تبحثوا عن أي أثر لي...تحطم قلبي، ولن تروني بعد الآن... قولوا له بأنني سوف أذكره دوماً وكلما غنيت أغنيتي البائسة: "عما قريب يا حبيبي، عما قريب" لكنني لن أتذكّر الكلمات الجارحة التي قالها حول ذلك! "

- هذا ما كتبته ألونزو,  ألونزو! ما الذي يعنيه هذا؟ وما الذي حدث؟

 

لكن ألونزو كان قد جلس. شحب وجهه وسَرت في جسده برودة الموت.  أسرعت والدته حينئذ بسحب الستائر المخملية وبفتح النافذة، وبذلك كان الهواء البارد قد أنعش ذلك المعذب، ثم بدأ يروي لخالته قصته الحزينة., وكانت في ذلك الوقت كانت والدته تتفحص بطاقة صغيرة كانت قد سقطت على الأرض عندما تم سحب الستائر، كُتب فيها " السيد سيدني ألكورون بورلي - سان فرانسيسكو". وبذلك كانت تلك البطاقة قد فسرّت كل شيء:

كان كل من العاشقين قد حدّث الآخر أثناء تبادلهما الأحاديث عمن كانوا قد أحبوهما، كما كانا قد أشارا إلى عيوبهم وإلى نقاط ضعفهم، وهذا ما يفعله المحبون دوماً لأنهم يجدون في ذلك شيئاً من البهجة التي تأتي في المرتبة بعد أحاديث المحبة وبعد الغناء.

 

 

4

 

وكانت أمور كثيرة قد حدثت خلال الشهرين التاليين حيث أصبح من المعروف بسرعة بأن روزانا اليتيمة البائسة  لم تكن قد ذهبت إلى جدتها في بورتلاند - أوريغون، كما أنها لم تكن قد أرسلت إليها ولا حتى كلمة واحدة، ما عدا نسخة طبق الأصل عن تلك الحاشية المُفجعة التي كانت قد تركتها في المنزل في تلغراف هيل. وبأن من تعيش عنده، هذا لو كانت لا تزال على قيد الحياة، كان ولابد قد اقتنع دون شك بعدم إفشاء سرها، ذلك لأن جميع الجهود التي بُذلت للعثور عليها كانت قد أخفقت. فهل تخلى ألونزو عنها؟ لا!.. ليس هو!.. وإنما كان قد حدث نفسه:

- لابد أنها ستغني تلك الأغنية الرقيقة عندما تكون حزينة وبذلك سوف أعثر عليها...

وكان بذلك قد حمل حقيبته وهاتفه النقال ونفض عنه ثلوج المنطقة القطبية التي كانت موطن ولادته، وسار قُدماً لكي يتجوّل هنا وهناك وفي دول عديدة من هذا العالم بحثاً عن روزانا. كان الغرباء يستغربون شكل ذلك الرجل الضائع الشاحب المرهَق المُبتلى، الذي  كان يقصد بعزم جميع مكاتب البرق في الأماكن المنعزلة وأثناء العواصف، لكي يجثم هناك ساعات بكل حزن, أذنه على تلك العلبة الصغيرة.، ثم يهيم من جديد على وجهه وهو يتنهد بكآبة. وكانوا أحياناً يطردونه كما يفعل الفلاحون مع الطيور التي يُخيّل إليهم بأنها خطرة وهائجة، ذلك لأن ملابسه كانت قد أصبحت رثّة،  كما كانت نفسيته مُحطّمة لشدة الحزن، لكنه كان مع ذلك يحتمل كل ما يتعرض إليه بكل صبر.

 

كان في بداية رحلته قد اعتاد أن يقول:

" آه... لو كان بإمكاني فقط أن أسمع أغنية  " عما قريب يا حبيبي، عما قريب " إلا أنه في نهاية الأمر كان قد اعتاد على أن يزرف الدموع فقط وعلى أن يتألم ويقول :

 

- ليت كان بإمكاني أن أسمع ولو أي شيء آخر عنها !

 

مرّت فترة شهر وثلاثة أسابيع وهو على هذا المنوال، إلى أن قام بعض الأشخاص الذين يتصفون بالإنسانية بالإمساك به وبإيداعه في مصحّة عقلية في نيويورك. لكنه لم يكن مع ذلك قد اشتكى. كانت قدرته قد تلاشت تماماً كما كانت كلّ الآمال قد تلاشت في قلبه...

 

كان مدير المصّحة على سبيل الشفقة, قد أسكنه في غرفة النوم المريحة الخاصة به، وكان يرعاه بكل محبة وتفانٍ. وبذلك كان المريض قد تمكن في نهاية الأسبوع من مغادرة فراشه المرّة الأولى. تمدّد بوضع مريح على الأريكة، تحت رأسه الوسائد وأخذ يُصغي إلى صوت عصف رياح شهر آذار ( مارس) وإلى الصوت المكتوم لوقع الأقدام في الشارع.

 

كانت الساعة حوالي السادسة مساءً، وبذلك كانت فترة العمل في مدينة نيويورك قد انتهت. كانت تلك الغرفة مُشرقة ومُضيئة في الداخل على الرغم من  الظلام الموحش الذي كان في الخارج.، كما كانت مُجهّزة بمدفأة وببعض المصابيح التي من شأنها أن تزيد من بهجتها. وبذلك كان ألونزو ينعم بالدفء،  ولم يعد مُعرضاً للرياح العاتية.

 

ابتسم ألونزو بوهن وهو يفكر بأوهامه العاطفية التي جعلته منه مهووساً أمام العالم، وبينما كان على وشك متابعة  سلسلة أفكاره تلك ، خُيل إليه بأنه سمع ,من مكان بعيد جداً, لحناً خفيفاً ورقيقاً أشبه بشبح صوت. ظلت حواسه ساكنة وهو يُصغي إليه بشفتين منفرجتين وبأنفاس مكتومة. وفي الوقت الذي كان فيه ألونزو ينتظر ويستمع كانت ألحان الأغنية لا تزال تنساب.ثم نهض ألونزو فجأة ببطء من مضجعه  دون إدراك وهتف:

- أخيراً !... هذا هو لحنها ! هذا هو لحنها! آه.. ما أجمل هذه النغمات السماوية.

 

ثم جرجر نفسه ببطء ولهفة إلى الزاوية التي كانت تنبعث منها الألحان وسحب إحدى الستائر، وبذلك اكتشف بأن هناك جهاز هاتف. وانحنى عليه في الوقت الذي كان فيه الجزء الأخير من الأغنية قد اختتم. اندفع بسرعة إلى الأمام  وهو يهتف :

 

- شكراً لله، عثرت عليها أخيراً!  تحدثي معي  روزانا  يا أحب الناس إلي!  تم اكتشاف ذلك اللغز الرهيب., فذلك الوغد بورلي هو الذي قام بمحاكاة صوتي، وهو الذي تسبب في جرح مشاعرك بذلك الكلام الصفيق.

 

تلا ذلك فترة انتظار تكاد تكتم الأنفاس كانت قد مرّت بالنسبة إلى ألونزو أشبه بقرن من الترقب , ثم وصل إلى مسامعه  في قالب من الكلام صوت ضعيف يقول:

 

- أهذا أنت ألونزو، كرّر هذه الكلمات الغالية من جديد!

قال ألونزو:

- هذه الكلمات هي الحقيقة، الحقيقة المَحضة، روزانا الحبيبة ! سوف تحصلين على جميع الإثباتات، الإثباتات الوفيرة والعديدة.

- ألونزو، ابق بجانبي، لا تتركني ولو للحظة واحدة ! دعني أشعر بأنك بقربي !  قل لي بأننا لن نفترق أبداً بعد الآن ! هذه ساعة سعيدة، هذه ساعة مباركة، ساعة لا تُنسى!.

- روزانا، سوف ندوّن هذا في سجل، وسوف نحتفل بهذا التاريخ  كل عام  كلما دقت أجراس الساعة وسوف نشكر الله على ذلك طوال سنوات حياتنا.
- سوف نفعل ذلك، سوف نفعل ذلك ألونزو.
-  روزانا، وسوف يكون هذا من الآن فصاعداً في الساعة  السادسة  وأربع دقائق من كل مساء.

- أي أنها الثانية عشرة والثلاثة والثلاثين دقيقة بعد الظهر.

- لماذا روزانا الحبيبة أين أنت؟

- أنا في هنولولو، في جزر الساندويتش، وأين أنت ؟ ابق معي!  لا تتركني ولو للحظة واحدة- لم يعد بإمكاني احتمال ذلك، أأنت في المنزل ؟"

- لا، حبيبتي، أنا في نيويورك وأنا مريض وبين أيدي الأطباء.

 

حينئذ كانت قد وصلت إلى مسامع ألونزو صرخة ألم حادة أشبه بأنين شخص جريح، لكنها كانت قد فقدت بعض قوتها بالطبع أثناء انتقالها عبر مسافة خمسة آلاف ميلٍ مما جعل ألونزو يُسارع بالقول :

 

- روزانا، اهدئي طفلتي، هذا لاشيء،  فأنا الآن أشعر بالتحسن  بوجودك الشافي.

- نعم، ألونزو، كنت قد أخفتني كثيراً! استمر في الكلام.
- تكلمي معي روزانا. حدّدي اليوم السعيد!.

 

كانت هناك فترة توقف قصيرة، ثم أجابت بصوت لطيف خجول:

- أشعر بالخجل، ولكن هذا من دواعي سروري، هذا من دواعي سعادتي، أتريد أن يكون ذلك عما قريب؟

- ليكن هذه الليلة بالذات روزانا، لا حاجة لأن نخاطر ثانية بالتأجيل ولو لثانية واحدة، ليكن ذلك الآن، هذه الليلة بالذات، هذه اللحظة بالذات !

- أيها المخلوق النافذ الصبر، القليل الاحتمال، ليس لدي هنا سوى عمي العجوز الذي يعمل مُبشراً منذ وقت طويل، والذي ترك مهمته في الوقت الحاضر. لا يوجد هنا سوى هو وزوجته. كنت أتمنى كثيراً لو كانت والدتك وخالتك سوزان هنا.

- روزانا، والدتنا وخالتنا.

- والدتنا وخالتنا سوزان، أنا سعيدة بأن أقول ذلك لو كان يسرك،  كنت أودّ حضورهما معنا.

- وأنا كذلك. لو رغبت في إرسال برقية إلى خالتي سوزان، فكم من الوقت سوف تستغرق تلك الرحلة؟ - تستغرق هذه الرحلة عادة  ثماني ساعات. سوف تكون هنا في 31 من شهر آذار (مارس).

- روزانا الحبيبة فلتحددي إذن تاريخ الأول من شهر نيسان (إبريل).

- الرحمة  ألونزو، سوف يجعلنا شهر نيسان (إبريل) كالمجانين...

- وسوف نكون بذلك أسعد من على الكرة الأرضية، ولكن علينا أن نأخذ حذرنا. حدّدي الأول من شهر نيسان (إبريل).
-  فليكن الموعد إذاً هو الأول من شهر نيسان  (إبريل) ) وهذا من كل قلبي، يا لسعادتي! حدّدي الساعة أيضاً روزانا.

- أنا أحب الصباح، الصباح بهيج، هل تُناسبك الساعة الثامنة ألونزو؟

- سوف تكون تلك الساعة هي الساعة الأجمل من ذلك اليوم لأنها سوف تجعلك تُصبحين لي.

 

ثم سُمع لبعض الوقت صوت منخفض لكنه كان بذات الوقت صوت شديد الاهتياج، كما لو أن هناك بعض الأرواح التي كانت تتبادل القبل، ثم قالت روزانا:

 

- عزيزي, اعذرني لدقيقة واحدة، فلدي موعد, وقد استدعيت إليه.

 

توجهت الفتاة الشابة بعد ذلك إلى البهو العريض الذي بإمكان المرء أن يطلّ منه في الجهة اليسرى على سهل" نويانا " الجميل الذي تفوح منه رائحة الزهور الاستوائية وأزهار الكاكاو اليانعة الجميلة، ذلك السهل بسفوحه المَكسوة  بأشجار الكبّاد والليمون والبرتقال. والذي تعود أسطورته إلى الوقت الذي قاد فيه أول  "كاميهاميها" خصومه المهزومين إلى الهلاك.  كانت تلك المنطقة قد نسيت تاريخها المُروّع دون شك، لأنها في هذه الأيام كانت في غالبية الوقت تبتسم  تحت أقواس قزح المتوهّجة. كما كان بإمكان المرء أن يشاهد أمام النافذة مدينة طريفة، تنعم فيها هنا وهناك  بالطقس الجميل جماعات من المواطنين  الداكني البشرة. وإلى اليمين وفي منطقة أبعد, يمتد المحيط الذي يقذف باستمرار زبده الأبيض في الشمس.

 

وقفت روزانا هناك بملابسها البيضاء، تنتظر وتذَرّي بالمروحة على وجهها المُتورّد المتوهج إلى أن جاء صبي "كاناكا" يرتدي قبعة حريرية وربطة عنق رثة، وأطلّ برأسه من الباب  وقال: - "فريسكوهاولو".

 

قالت الفتاة وهي تشدّ قامتها وتتخذ وضعاً مهيباً:- دعوه يدخل.

 

وفي تلك اللحظة دخل السيد سيدني ألغرنون بورلي  يكسوه الثلج من رأسه إلى قدميه. وكما يقال, كان في ثيابه القطنية أكثر تألقاً وبياضاً من الثلج. تقدم بلهفة إلى الأمام، لكن الفتاة أشارت إليه بطريقة جعلته يتراجع فجأة وقالت ببرود:

 

- أنا هنا كما وعدتك، وأنا أصدق مزاعمك، وها قد أذعنت بناء على إلحاحك، وها أنا أعلمك بأنني حدّدت الموعد، حدّدت الساعة الثامنة من صباح الأول من شهر نيسان (ابريل) والآن فلتذهب من هنا.

- آه،  يا غاليتي، لو كان امتناني لك طوال الحياة...

- لا أريد سماع كلمة واحدة. فلتجنبني حتى رؤية وجهك, وجميع الاتصالات معك حتى تلك الساعة. لا، لا توسلات، سوف يكون الأمر هكذا.

 

ثم كانت روزانا  عندما غادرت المكان قد انهارت على كرسي ذلك لأن الحصار الطويل الذي عانته  كان قد أوهن قواها وقالت:

 

- كم كانت النجاة عسيرة ! يا ليت الموعد المحدد كان أقرب. ياللهول!  كم كان التخطيط للنجاة صعباً! عندما يخطر ببالي بأنه كان قد خُيّل إلي بأنني أحببت ذلك المخادع المحتال، ذلك الوحش الغادر! سوف يندم على هذه النذالة !..

والآن دعونا نصل إلى نهاية القصة،  لم يعد هناك الكثير مما سيقال.  ففي الثاني من شهر نيسان (إبريل) كانت صحيفة هونولولو  تحتوي على الإعلان  التالي :

 

تم  في هذه المدينة، بواسطة الهاتف وفي الساعة الثامنة صباحاً  من يوم أمس، وبوجود كل من المُبجل ناثان هايس برفقة المُبجل ناثانيلدافيز في نيويورك، زواج  السيد ألونزو فيتز كليرنس - من إست بورت- ماين- الولايات المتحدة الأمريكية، بالآنسة روزانا إثلتون من بورتلاند -أوريغون - الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك بحضور السيدة سوزان هاولد من سان فرانسيسكو صديقة العروس التي كانت ضيفة المُبجل السيد هانس وزوجته اللذين هما عم وعمة العروس. وحضر مراسم الزواج أيضاً السيد سيدني ألغرين بورلي  من سان فرانسيسكو، إلا أنه لم يمكث إلى نهاية مراسم الزواج. وكان اليخت الجميل للقبطان هاوثورن، الذي تم تزينيه بذوق رفيع بانتظار العروسين، حيث أبحرت العروس السعيدة وأصدقائها  على الفور في رحلة الزفاف  إلى لاهينا  وهالياكولا.

 

كما كانت صحيفة نيويورك تايمز أيضاً تحتوي على الإعلان التالي:

 

تزوج في هذه المدينة يوم أمس، وفي الساعة الثانية والنصف  صباحاً ، وبحضور المُبجل ناثانيلديفس ومعاونه المُبجل ناسان هايس من هونولولو، السيد ألونزوفيتزكليرانس من إست بورت- ماين  من الآنسة روزانا إثلتون من بورتلاند - أوريغون.  بحضور والدي العروس والعديد من أصدقاء العروس، وقد استمتع الجميع بعد ذلك بكثير من البهجة بحفل إفطار فخم استمر حتى شروق الشمس.  وقد غادر اليخت في رحلة زفاف انطلقت إلى حديقة الأسماك لأن صحة العريس لا تحتمل سفره في الوقت الحاضر إلى أبعد من ذلك المكان.

 

وكانت السيدة والسيد ألونزو فيتز كليرنس في ذلك اليوم التاريخي قد استغرقا في حديث عن مباهج رحلتيهما.، حيث قالت الزوجة الشابة فجأة:

 

- أووه،  لوني،  نسيت أن أعلمك بأنني فعلت ما كنت قد أعلمتك بأنني سوف أفعله.

- هل قمت بذلك حبيبتي؟

- نعم، قمت بالفعل بذلك, كما أنني قلت له ذلك أيضاً.

 

كانت مفاجأة ساحرة ! كان يقف وهو يتصبّب عرقاً في لباسه الرسمي الأسود، ينتظر تزويجه، والزئبق يرشح من أعلى مقياس الحرارة (تعبير مجازي عن ارتفاع درجة حرارته إلى حدّ كبير). كان عليك أن ترى نظرته عندما همست ذلك في أذنه. كلفتني شروره الكثير من الأحزان والكثير من الدموع،  لكن تلك الخطة انقلبت عليه، وبذلك كانت تلك الرغبة في الانتقام  قد خرجت من قلبي على الفور، حتى أنني كنت بعد ذلك قد رجوته أن يبقى، وقلت له بأنني غفرت له كل شيء لكنه أجابني بأنه سوف يجعل حياتنا لعنة علينا. لكنه لن يتمكن من ذلك، هل سيكون بإمكانه أن يفعل ذلك عزيزي؟

 

- لا لن يكون بإمكانه ذلك على الإطلاق روزانا.

 

وهكذا عاشت الخالة سوزان والجدّة الأوريكانية والزوجان السعيدان  ووالديهما بكل سعادة. وسوف يبقون هكذا على ما يبدو. وكان للخالة سوزان سعادة اصطحاب العروس من الجزر  ومرافقتها عبر القارة،  وسعادة حضور ذلك اللقاء الجذل بين الزوج المحب وزوجته اللذين لم يكونا قد اجتمعا حتى تلك اللحظة.

 

ويكفي أن نقول كلمة واحدة حول ذلك البائس الحقير بورلي الذي كانت أساليبه الشريرة على وشك إلحاق الأذى بصديقينا الشابين البائسين. كان بورلي أثناء محاولته الإمساك بعامل أعرج من  المعوّقين, اعتقد بأنه أساء إليه إساءة صغيرة، قد سقط  في مرجل لغلي الزيت، وبذلك كان قد لفظ أنفاسه قبل أن يتم إطفائه  أي إنقاذه...

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية