1

كان المسرح الأول للأحداث في ولاية فيرجينيا وفي العام1880، هو حفل زفاف بين رجل وسيم قليل الموارد المالية وفتاة شابة ثرية. حالة حبّ من النظرة الأولى، زواج مُتسرّع اعترض عليه والد الفتاة الأرمل.

يعقوب فولر العريس شاب في السادسة والعشرين من العمر، ينحدر من عائلة عريقة، ولكن لم تكن لتلك العائلة أية مكانة اجتماعية، نظراً لأنها كانت قد هاجرت قسريّاً من سيدغيمور. وبذلك قال الجميع، البعض منهم بخبث، والباقون لاعتقادهم ذلك فعلاً،  بأن ذلك كان بسبب الملك جيمس.

أما العروس فهي فتاة جميلة في التاسعة عشر، قويّة الشخصية، من مستوى رفيع، فخورة إلى حدّ كبير بأصلها النبيل، إلا أنها كانت بذات الوقت عاطفية جداً مما جعلها تهيم بحب زوجها الشاب. كانت الفتاة قد تحدّت لأجله استياء والدها، احتملت توبيخه لها، واستمعت إلى تحذيراته وتوقعاته لمساوئ ذلك الزواج دون أن يتزعزع إيمانها بالشخص الذي أحبته.، وكانت قد غادرت منزله دون أن تحصل على بركته، وهي فخورة وسعيدة بما كانت تُدليه من براهين حول طبيعة العاطفة التي جعلت ذلك الرجل يحتل تلك المكانة في قلبها.

 

ولكن وفي صباح اليوم التالي لزواجها منه، كانت بانتظارها مفاجأة مُحزنة. كان زوجها قد وضع جانباً تلك المغازلات اللطيفة وقال لها:

 

- اجلسي! لدي ما أعلمك به. لقد أحببتك ولكن ذلك كان قبل أن أطلب من والدك تزويجك لي. لم يكن رفضه لي ما كدّرني، كان بإمكاني أن احتمل ذلك، ولكن الأشياء التي رواها لك عني،  أمر آخر ومختلف تماماً . لا حاجة لأن تقولي شيئاً، فأنا أعرف جيداً ما قاله. عرفت ذلك من مصادر موثوقة. كان من بين الأشياء التي رواها لك عني أن قال لك بأن شخصيتي تبدو على سِمات وجهي. وبأنني لست سوى شخص مُخادع، مُتصنع، مُرائي، جبان، ليس لديه أدنى إحساس بالشفقة أو بالتعاطف.، وكان قد أطلق علي أيضاً عبارة " العلامة التجارية لنبات الحَلفاء" وعبارة: "علامة الكمّ الأبيض".

ثم قال:

- أي رجل آخر في مكاني كان سيذهب إلى منزله، لكي يُطلق عليه النار ويُرديه قتيلاً كالكلب. كنت قد رغبت القيام بذلك، بل كنت أعتزم القيام به، ولكن خطرت ببالي فكرة أفضل: وهي بأن ألحق به العار!.. وبأن أحطم قلبه وأن أقتله بالتدريج... كيف سأفعل ذلك ؟ سوف يكون من خلال تعاملي معك، أنت محبوبته ! وبأن أتزوجك وبعد ذلك...كوني صبورة. فسوف ترين!..

 

وكانت الزوجة الشابة منذ تلك اللحظة، ولمدة ثلاثة أشهر، قد عانت من جميع أشكال الإذلال والإهانات والبؤس التي كان بإمكان الذهن المُبدع  والمتّقد بالحقد لذلك الزوج أن يبتدعها، وهذا أيضاً ماعدا جميع أنواع الأذيّات البدنية. إلا أن كبرياءها كان نصيراً لها، وبذلك كانت قد احتفظت لنفسها فقط بسرّ ما تُعانيه من المتاعب.

كان زوجها يقول لها من حين لآخر:

- لم لا تذهبي إلى والدك لكي تشتكي إليه؟

 

ثم يبتدع المزيد من الأساليب الجديدة لتعذيبها., وكان بعد أن يُوقع بها تلك الأساليب, يسألها من جديد عن سبب عدم شكواها لوالدها، لكنها كانت دوماً تجيبه:

- لن يعرف أبي ذلك مني أبداً. ثم كانت تسخر من أصله بأن تقول له بأنها أصبحت الآن الجارية الشرعية لمن هو من سلالة العبيد، لذا عليها أن تُطيعه، وسوف تفعل ذلك. وأن بإمكانه أن يقتلها  لو رغب بذلك، لكنه لن يتمكن من تحطيمها وبأن أصل " سيدغيمور" لن يجعله يفعل ذلك.

 

بعد مضي ثلاثة أشهر على زواجهما قال لها زوجها ذات يوم بأسلوب غامض:

- كنت قد جربت معك جميع الأساليب ماعدا أسلوب واحد. وانتظر أن تُجيبه...

قالت وهي تلوي شفتيها باستهزاء:

- لتجرب ذلك!

 

وفي تلك الليلة كان زوجها قد نهض من فراشه في منتصف الليل ثم قال لها بعد أن ارتدى ملابسه:

- انهضي وارتدي ملابسك!

 

امتثلت لأمره ـ كعادتها. ثم كان أن اصطحبها بعد ذلك إلى مسافة تبعد حوالي الميل عن المنزل، وبدأ يشدّ وثاقها  إلى شجرة بجانب الطريق، وهي  تصرخ وتحاول التخلّص منه. وكان بعد انتهى أخيراً من ذلك، قد كمّ فمها وضربها على وجهها بسوطه الجلدي، ثم قام بتسليط كلابه البوليسية عليها. وبعد أن مزّقت الكلاب ثيابها إلى أن أصبحت عارية تماماً نادى كلابه وقال لها:

- سوف يعثر عليك المارون من هنا. سوف يمرون بعد حوالي ثلاث ساعات من الآن، وسوف ينشرون الأنباء ـ هل تسمعين؟ وداعاً، ها قد رأيت آخر ما لدي! ثم ذهب في طريقه...

 

أخذت تتأوّه وتُحدث نفسها:

- سوف ألد له طفلاً، وأرجو الله أن يكون ذلك الطفل صبياً.

 

ثم كان المزارعون الذين مروا من هناك بعد وقت قصير قد حرّروها من قيودها., وكان من الطبيعي أن ينشروا الأنباء حول ذلك. ثم بحثوا عنه في جميع أنحاء البلدة بنيّة إعدامه حتى دون محاكمته قانونياً، لكن العصفور كان قد طار...

 

بعد ذلك, كانت الزوجة الشابة قد حبست نفسها في منزل والدها.، وكان والدها أيضاً قد حبس نفسه معها، ولم يعد يقابل أحداً., كان ما حدث لابنته قد حطم قلبه وأهان كبرياءه., وبذلك بدأت صحته تتراجع يوماً بعد يوم، مما جعل حتى ابنته تشعر بالفرح عندما أسعفه الموت بالراحة الأبدية...

قامت الزوجة الشابة بعد ذلك ببيع كل ما لديها من الممتلكات واختفت.

 

 

 

2

 

في العام 1886، كانت امرأة شابة تعيش في بيت متواضع  بجانب قرية نيو إنكلاند المنعزلة دون أية رفقة سوى طفل صغير في حوالي الثامنة من عمره. كانت تقوم بجميع أعمالها بنفسها، وكانت تبتعد عن جميع العلاقات الاجتماعية. وبذلك لم يكن لا لدى اللحام أوالخباز أوغيرهم ممن كانوا يقدمون لها الخدمات، ما يقولونه عنها للقرويين، سوى أن اسم عائلتها "ستيلمان" وبأن لديها طفل اسمه آرشي. كما لم يكن بإمكانهم أن يعرفوا من أين أتت، لكنهم كانوا يقولون بأنها تتحدث بلهجة سكان الجنوب. كما لم يكن لذلك الطفل أيضاً أي رفاق أو أصدقاء أو حتى من يقوم بتدريسه سوى والدته.

 

كانت والدته قد تولّت تدريسه بكل مثابرة وذكاء وكانت سعيدة بما حققته من نتائج, حتى أنها كانت فخورة بذلك بعض الشيء.

وذات يوم، قال لها آرشي:

- أمي، هل أختلف عن باقي الأطفال؟

أجابت:

- حسناً، لا أعتقد ذلك. لماذا؟

- كانت قد مرّت بجانبي منذ قليل طفلة صغيرة وسألتني فيما إذا كان ساعي البريد هنا., وأجبتها بنعم، ثم سألتني منذ متى كنت قد رأيته؟  وقلت لها بأنني لم أره على الإطلاق. ثم قالت لي:  فإذن كيف بإمكانك أن تقول بأنه كان هنا؟  أجبتها : ذلك لأنني شممت أثره إلى جانب الطريق، وكان أن هزأت بي وقالت لي بأنني لست سوى شخص مخبول. أمي، لِم فعلت تلك الطفلة ذلك ؟

 

شحب وجه المرأة الشابة  وحدثت نفسها: " هذه علامة خَلقية! لابد أن لديه هبة "حاسة شمّ الكلب البوليسي".

ثم ضمت الأم طفلها إلى صدرها بقوّة وعانقته بكل محبة وهي تقول "ها قد رسم لك الله الطريق".

 

ثم لمعت في عينيها نظرة ضارية، وأخذت أنفاسها تتلاحق وتتسارع لشدة الانفعال وحدثت نفسها:

- ها قد تمّ حلّ اللغز.، كان الأمر بالنسبة إلي أحجية لأكثر من مرّة، فلم يكن بإمكاني تفسير تلك الأشياء المستحيلة التي كان الطفل يقوم بها في الظلام، لكن جميع الأمور قد أصبحت واضحة أمامي الآن.

ثم وضعت الطفل في كرسيه الصغير وقالت:

- حبيبي, انتظر قليلاًً ريثما أعود إليك، وسوف نتحدث عن هذا الأمر بعد ذلك.

ثم صعدت إلى غرفتها. تناولت من طاولة الزينة عدّة أشياء صغيرة  وقامت بإخفائها في أماكن مختلفة : وضعت علبة الأظافر تحت السرير، ووضعت زوج المِقصات تحت المكتب، ووضعت فتّاحة الأوراق العاجية تحت خزانة الملابس. ثم عادت إليه وقالت:

-  تركت في الأعلى بعض الأشياء التي كان عليّ أن أجلبها إلى الأسفل. وبعد أن قامت بتسمية تلك الأشياء قالت له: - فلتصعد إلى الأعلى وتجلبها لي".

 

ركض الطفل لأداء مهمته ثم عاد  بسرعة ومعه جميع تلك الأشياء.

سألته والدته :

- هل وجدت صعوبة في العثور عليها ؟"

أجاب الطفل

- لا، أمي كل ما فعلته هو أنني قمت بجلبها من المكان الذي كانت فيه.

 

وكانت والدته أثناء غيابه، قد توجهت إلى المكتبة., تناولت عدّة كتب من الرفّ العلوي، وبعد أن فتحت كل منها على إحدى الصفحات، مرّرت يدها على تلك الصفحات وأعادتها إلى أمكنتها بعد أن احتفظت في ذاكرتها بأرقامها. ثم قالت لطفها:

" آرشي، كنت أقوم هنا بشيء ما بعد ذهابك، هل تعتقد بأن بإمكانك أن تعرف ما هو ؟"

توجه الصبي على الفور نحو المكتبة وجلب الكتب التي كانت قد فتحتها، ثم فتح الصفحات التي كانت قد مرّرت يدها عليها...

 

حينئذ حضنته والدته وقالت:

- والآن حبيبي، سوف أجيب على أسئلتك. لقد اكتشفت بطريقة ما، بأنك تختلف تماماً عن الآخرين، وبأن بإمكانك أن ترى في الظلام، كما  بإمكانك أن تشمّ الروائح التي ليس بإمكان الآخرين أن يشمّوها، لأن لديك حواس الكلب البوليسي. يُعتبر هذا من الأمور الجيدة والقيّمة، ولكن عليك أن تترك هذا الأمر سراً., فلو اكتشف الآخرون ذلك، سوف يقولون بأنك طفل شاذ  غريب الأطوار، وسوف ينعتونك بمختلف الصفات،  كما قد يُسيء باقي الأولاد إليك. على المرء في هذا العالم أن يكون مثل الآخرين، إن لم يكن يرغب في إثارة حسدهم وغيرتهم وازدرائهم. من الجيّد أن تكون قد ولدت ولديك هذه الهبة العظيمة والمميّزة. أنا سعيدة بذلك.، لكنك ستحتفظ بذلك سراً كما طلبت منك ولأجل والدتك.أليس كذلك ؟

وكان الطفل قد وعدها بذلك دون أن يفهم شيئاً مما قالته.

 

ثم كان ذهن والدته قد شُغل طوال ذلك اليوم بالتفكير بالكثير من الأمور المثيرة: خطط، مشاريع ومخططات، كل منها وجميعها غريبة، مروعة وغامضة. كانت تلك الأفكار، بما تضمنته من نيران مبهمة من جحيم، تنعكس على وجهها وتُسقط عليه ضياؤها. كانت محمومة لشدة الاضطراب، ولم تكن تتمكن من الجلوس،أومن الوقوف أومن القراءة., وكانت طوال الوقت تُحدث نفسها بينما يجول ذهنها في الماضي:

- كان قد حطم قلب والدي،  وكنت طوال السنوات الماضية أفكر ليلاً نهاراً بطريقة أحطم بها قلبه ولكن دون جدوى. وها قد وجدتها الآن. وجدتها الآن..."

 

ثم استمرت في إجراء اختباراتها إلى أن حلّ الليل وكان شيطان القلق لازال يُسيطر عليها. كانت تتجول في أنحاء البيت وبيدها شمعة من العليّة إلى القبو. تقوم بإخفاء الدبابيس والكشاتبين  ومِكبات الخيوط ، تحت الوسائد وتحت البسط، وفي شقوق الجدران وتحت صناديق الفحم، ثم ترسل الصغير لكي يعثر عليها في الظلمة. وكانت كلما فعل ذلك، تشعر بالمزيد من السعادة والفخر ثم تُطري عليه وتغمره بقبلاتها.

 

ومنذ ذلك الوقت كانت حياتها قد أخذت مظهراً جديداً، وكانت تُحدث نفسها دوماً وتقول:

" تم الآن ضمان المستقبل. بإمكاني الآن أن أنتظر وأن أستمتع بالانتظار".

 

وتوقّدت من جديد جميع اهتماماتها السابقة . عادت إلى الاهتمام بجميع مباهج أيام بكورتها (ما قبل زواجها)  وهي الاهتمامات التي كانت قد تخلّت عنها لمدة طويلة، من موسيقى  ولغات ورسم وغير ذلك., وأصبحت تشعر من جديد بالسعادة وبنكهة الحياة. كانت ترقب تطور ونمو ولدها مع مرور السنوات، وتشعر بالرضى بذلك، ولكن ليس تماماً، وليس في جميع الأمور وإنما على وجه التقريب. ذلك لأن الجانب الطيّب في نفسه كان أقوى من الجانب الآخر. كان ذلك في نظرها عيبه الوحيد، لكنها اعتبرت أن محبته لها وولعه الشديد بها  لابدّ وأن يسوّي الأمور بالنسبة إليه. كان من النوع الذي يحمل الضغائن وهذا أمر جيّد ! لكن السؤال كان فيما إذا كان ذلك مَدعاة لأن تكون أسباب أحقاده من النوع العنيف والثابت، كما هو الوضع بالنسبة إلى مشاعره الوديّة، لأن ذلك لن يكون من الجيّد تماماً.

 

ومع مرور السنوات كان آرشي قد أصبح فتى وسيم الشكل، جميل الطلعة، كما كان رياضياً،  دمث التصرف، نبيلاً، حلو المعشر، لطيفاً في تعامله. كما أنه عندما أصبح في السادسة عشر كان قد أصبح  يبدو أكبر قليلاً من سنه الحقيقي.

 

وذات مساء كانت والدته قد أعلمته بأن لديها ما ستُعلمه به وبأن ما ستقوله من الأمور التي تعتبر في غاية الأهمية والخطورة., فقد أصبح الآن في السن الذي تسمح له بسماع ما سوف تقوله, وبأنها السن المناسبة لاطّلاعه على ما سوف ترويه له., وبأن لديه ما يكفي من الصفات الخُلقية والاتزان، مما سوف يؤهله لتنفيذ خطّة قاسية كانت تُخطط وتعدّ لها بتروٍ منذ عدة سنوات. ثم روت له قصتها المريرة بكل ما فيها من  شناعة...

 

ظلّ الفتى مشدوهاً لبعض الوقت ثم قال :

- أنا أفهم ما تفكرين به. فنحن من الجنوب، وبحسب تقاليدكم  وطبيعتكم ليس هناك  سوى طريقة واحدة للتكفيرعن الأمر (للتعويض). سوف أبحث عنه وأقتله.

-  تقتله ! لا ! الموت خلاص، وعتق، وهو حظوة ومِنّة وفضل، فهل أدين له بذلك ؟ لا، يجب ألا تمسّ شعرة واحدة من رأسه.

 

وكان الفتى قد استغرق للحظة في أفكاره ثم قال:

- أنت كل من لدي في هذا العالم, و رغبتك بمثابة القانون بالنسبة إلي, وسوف يسرني تنفيذها. اطلبي مني ما تريدين أن أفعله، وسوف أفعل ذلك.

 

لمعت عينا والدته رضاً وقالت:

 

-  سوف تذهب لكي تعثر عليه. استطعت أن أعرف الآن المكان الذي يختبئ فيه منذ أحد عشرعاماً. كنت قد احتجت إلى خمس سنوات من البحث وللكثير من المال لمعرفة مكانه. هو الآن صاحب منجم معادن في كولورادو وأموره على ما يرام وهو يعيش في دينفر واسمه يعقوب فولر. هذا هو الموضوع ـ وهذه هي المرّة الأولى التي أنطق بها باسمه منذ تلك الليلة التي لايمكن أن تُنسى. هل تتصوّر بأن هذا الاسم كان سيصبح اسمك ما لم أقم بإنقاذك من العار بأن منحتك اسماً نظيفاً!.

 

سوف توصله إلى الحدّ الذي سوف يجعله يترك ذلك المكان. سوف تتبعه إليه وتطرده منه مرّة أخرى. ثم مرّة أخرى، ومّرة أخرى، ومرّة أخرى باستمرار ودون هوادة. سوف تُسمّم حياته وسوف تملأها بالمخاوف الغامضة. سوف تشحنها بالمتاعب  وبالبؤس إلى أن تقوده إلى أن يتمنى الموت. وإلى أن تصبح لديه شجاعة الانتحار. سوف تحوّله إلى " يهودي تائه "، ولن يعرف الراحة بعد الآن، لا راحة النفس، ولا النوم الهادئ. سوف تتبّعه كظلّه وستلتصق به وتضطهده إلى أن تُحطم قلبه كما كان قد حطم قلب والدي وكما كان قد حطم قلبي.

 

- سوف أطيعك, أمي !

- أنا أصدقك، ولدي !

 

ثم قالت - قمت بإعداد كافة التحضيرات لذلك.، وأصبح كل شيء جاهزاً الآن. هذه بطاقة اعتماد باسمك.، بإمكانك أن تُنفق المال بحرّية  فنحن لا ينقصنا المال. وقد تحتاج في بعض الأحيان إلى التنكّر.، لذا قمت بتأمين ما يلزمك لذلك، هذا بالإضافة إلى بعض وسائل الراحة الأخرى.

 

ثم أخرجت من درج طاولة المكتب عدة قصاصات من الورق طُبعت على كل منها الكلمات التالية:

 

 

جائزة 10,000 دولار

 

نُمي إلينا بأن أحد الرجال المطلوبين للعدالة في إحدى ولايات المنطقة الشرقية يُقيم هنا. كان هذا الرجل ذات ليلة من العام 1880، قد ربط زوجته الشابة على شجرة بجانب الطريق العام, ثم قام بتجريح وجهها بسوطه، وجعل كلابه تُمزق ثيابها., ثم تركها عارية تماماً هناك وهرب من البلدة. يقوم أحد أقربائها الآن بالبحث عنه منذ سبعة عشرعاماً. سوف  يتم دفع المكافأة المشار إليها أعلاه نقداً لمن سيقوم بالإعلام عن عنوان الشخص الذي يتم البحث عنه، وذلك أثناء مقابلة شخصية.

العنوان.............. صندوق بريد.........

 

- عندما ستعثر عليه وتتعرف على أثره، سوف تذهب ليلاً وتقوم بإلصاق أحد هذه الإعلانات على المبنى الذي يشغله، كما ستُلصق نسخة ثانية من الإعلان على جدار مكتب البريد،  أو في غير ذلك من الأماكن البارزة  في البلدة. وبذلك سوف يصبح مداراً لحديث المنطقة.عليك في بادئ الأمر أن تمنحه بضعة أيام سيُجبر خلالها على بيع ممتلكاته بما يقارب قيمتها الحقيقية. ثم ستعمل على أن تقوده تقريباً إلى الإفلاس ولكن بالتدريج. علينا ألا نقوم بإفقاره على الفور، لأن ذلك سوف يقوده إلى اليأس وسوف يضر بصحته وقد يتسبب في موته.

 

ثم تناولت من الدرج ثلاثة أو أربعة من تلك الأوراق المطبوعة - مع بعض النسخ المطابقة للأصل وقرأت إحداها:

 

إلى يعقوب فولر:

 

لديك مهلة 18 يوماً لتصفية أعمالك. لن تتم مضايقتك خلال هذه الفترة التي سوف تنتهي في صباح  يوم..... من العام.....  سوف يكون عليك بعد ذلك أن تُغادر المكان. ولو مكثت في هذا المكان بعد الساعة المحددة، فسوف أعلن مرّة أخرى على الجدران كل تفاصيل جريمتك بعد أن أضيف إليها المعلومات المتعلقة بالتاريخ والمكان وبجميع أسماء أصحاب العلاقة، وهذا بالإضافة إلى اسمك. لا تخف من الأذيّة الجسدية  فلن يتم إيقاعها بك تحت أية ظروف. كنت قد تسببت في تعاسة رجل عجوز، دمرت حياته وحطمت قلبه. وعليك الآن أن تُعاني ماعاناه بسببك.

 

لن تضيف إليها أي توقيع. يجب أن يستلم هذه الرسالة قبل أن يأخذ علماً بإلصاق الإعلان عن المكافأة - وقبل أن يستيقظ في الصباح ـ ما لم يفقد عقله ويفرّ من المكان بعد أن يُفلس.

- لن أنسى.

- سوف تحتاج إلى استخدام هذه النسخ في البداية فقط وقد تكفيك نسخة واحدة منها. أما بعد ذلك، وعندما سيصبح على استعداد للاختفاء من مكان تواجده، فيجب أن تعمل على أن يستلم نسخة من هذا النموذج الذي كتب فيه ما يلي فقط:

 

"غادر المكان. لديك..... أيام فقط "

 

وسوف يمتثل للأمر. وهذا مؤكد.

 

3

 

مقتطفات من الرسائل الموجهة من الفتى إلى والدته :

 

دينفر 31 نيسان( أبريل)1897

 

أنا أقيم حالياً ومنذ عدة أيام في ذات الفندق الذي يقيم فيه يعقوب فيلر. لدي الآن رائحته. وبإمكاني أن أميّزه وأن أعثر عليه بين عشرة رجال. كنت في كثير من الأحيان بالقرب منه وكنت أسمعه يتحدث.  يمتلك فيلر منجماً يدرّ عليه دخلاً جيداً لكنه ليس ثرياً . كان قد تعلم التنقيب عن المعادن بشكل جيّد عندما عمل  في هذا المجال لكسب عيشه. هو مخلوق مرح، لكنه لا يبدو في الثلاثة والأربعين، وإنما أصغر سناُ ـ لنقل في السادسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين، لم يتزوج  ثانية ـ  وهو يُعرّف عن نفسه كرجل أرمل. كما أنه يعيش بشكل جّيد، وهو محبوب ولديه العديد من الأصدقاء وحتى أن له أيضاً بعض الشعبية., وحتى أنني بدأت أشعر أيضا ببعض الانجذاب إليه ـ وكأن صِلة الدم الأبوية تناديني ! كم هي عمياء وغير عقلانية واعتباطية بعض قوانين الطبيعة ؟ والحقيقة أن غالبيتها كذلك !. أصبحت مهمتي بذلك عسيرة الآن ـ أتدركين ذلك أمي؟ أتفهمينني وتلتمسين لي الأعذار؟  لقد خمدت تلك النار التي كانت في داخلي أكثر مما أودّ الاعتراف به لك وحتى للاعتراف بذلك لنفسي، لكنني سأستمر في مهمتي، رغم أن رغبتي في القيام بذلك  قد تضاءلت، فيبقى أمامي الواجب، ولن أصفح عنه !

 

وما يُساعدني على ذلك هو الاستياء الذي يتصاعد في نفسي عندما أفكّر بأن الشخص الذي اقترف تلك الجريمة الشائنة هو الشخص الوحيد الذي لم يكن قد عانى منها. لابد أن الدرس الذي تلقّاه منها كان قد أصلح شخصيته بشكل ملحوظ وهو ولابد يشعر الآن بالسعادة بذلك التغيير.

هو الطرف المذنب، في مَعزل من كل معاناة، أما أنت الطرف البريء،  فقد تحملت كل ذلك ولكن لتشعري بالعزاء أمي، فسوف يأخذ حصته من ذلك.

 

 

سيلفر غلوش 19 أيار (مايو)

 

قمت بإلصاق الإعلان رقم (1) في منتصف ليلة الثالث من نيسان (إبريل). كما قمت بعد مرور ساعة واحدة  بدسّ النموذج الثاني تحت غرفته، وهو النصّ الذي أطالبه فيه بمغادرة دينفر في الساعة 11.30 ليلاً من يوم 4 نيسان  (إبريل).

 

كما أن أحد المراسلين الصحفيين قام في وقت مُتأخر من الليل، بانتزاع الإعلان الذي ألصقته، ثم بحث في كل أنحاء البلدة إلى أن عثر على النسخة الثانية من الإعلان وسرقها أيضاً. وكان بتلك الطريقة قد أنجز ما يسمى في لغة المهنة " بالسَبق الصحفي" ـ هذا هو الأمر. فهو بذلك قد حصل على مادة صحفية قيّمة، بأن عَمل على ألا تحصل عليها أية صحيفة أخرى. وفي اليوم التالي قامت صحيفته ـ وهي الصحيفة الرئيسية  في البلدة ـ  بنشرها بشكل ظاهر على الصفحة الرئيسية. كما ألحقتها ضمن عمود طويل، بتعليق لاذع عن ذلك الحقير، مع تخصيصها من ميزانيتها لجائزة بقيمة ألف دولار، بالإضافة إلى الجائزة التي كنا قد حددناها لقاء تسليمه!...  الصحف هنا تعرف جيداً كيف تقوم بعمل نبيل ـ عندما يكون في ذلك ما يُحقق لها مصلحة تجارية.

 

وكنت أثناء تناولي الإفطار قد جلست في مكاني المعتاد الذي  اخترته  بحيث يكون بإمكاني أن أشاهد منه وجه أبي فولر، كما بإمكاني بقربه مني بهذا الشكل، أن أستمع إلى الحديث الذي  كان يدور على المائدة. كان في الغرفة ما يقارب الخمسة وسبعين أو المائة شخص., وكان الجميع يتحدثون عن ذلك المقال ويقولون بأنهم يأملون بأن يتمكن الشخص الذي يبحث عن ذلك السافل من العثور عليه لكي يُطهّر البلدة  من الدَنس الذي يتسبب به وجود مثله فيها ـ وليكن ذلك بواسطة قضيب حديدي أو برصاصة أو بأي شيء آخر.

 

وعندما دخل فولر كان يحمل بإحدى يديه نسخة الإنذار بالمغادرة ويحمل باليد الأخرى الصحيفة. وقد شعرت لدى رؤيته هكذا بأكثر من نصف غصّة ألم . فقد زال عنه مظهر البهجة وكان يبدو مُسناً، متألماً وذابلاً. والآن، أمي!  فلتفكري فقط بكل الأشياء التي كان عليه أن يُصغي إليها ! لقد سمع العديد ممن لم يكونوا يشتبهون به بالطبع، يصفونه بأسوأ الألقاب و بأحطّ الصفات وبتلك العبارات التي يمكن أن تتضمنها القواميس والكتب عن أحقر الشياطين. وكان عليه فوق ذلك، أن يوافق على تلك الأحكام  وأن يؤيدها. كان لذلك التأييد طعم المرارة في فمه، لكن ذلك لم يكن ليَخفى علي. كان من الجليّ بأن شهيته للطعام قد تبدّدت، فكل ما كان يفعله هو أنه كان يقضم الطعام دون أن يأكله. ثم قال أحد الرجال آخر الأمر:

 

- من المحتمل جداً أن يكون قريب ذلك الرجل في هذه الغرفة وبأنه يستمع الآن إلى رأي هذه البلدة بذلك النذل الذي لا مثيل له، وأنا آمل ذلك.

 

آه، يا عزيزتي، لو تعلمي مقدار فزعه! كانت الطريقة التي نظر بها حوله بفزع مثيرة للشفقة ! ولم يعد بإمكانه الاحتمال أكثر من ذلك وبذلك نهض وغادر المكان.

 

وخلال بضعة أيام، كان قد أعلن بأنه اشترى منجماً في مكسيكو، وبأنه يرغب ببيع كل شيء وبالذهاب إلى هناك بأسرع وقت لكي يُشرف بنفسه على أملاكه. وهكذا كان قد لعب بأوراقه بشكل جيّد.، ثم قال بأنه سيبيع منجمه بمبلغ 40.000 دولار، على أن يتم سداد ربع المبلغ نقداً، وأن يتم سداد المتبقي بموجب سندات أمانة، ولكن نظراً لحاجته الكبيرة إلى المال بسبب الصفقة الجديدة التي تعاقد عليها، فسوف يُخفَض شروطه المتعلقة بالدفع النقدي لكامل المبلغ، وسيبيع بمبلغ 30.000 دولار... وما ظنك أمي بما فعله بعد ذلك؟ لقد طلب سندات ورقية  وقبل بها، وقال بأن الرجل الذي اشترى منه المنجم في مكسيكو هو من نيوإنغلاند وبأنه غريب الأطوار، لذا فهو يفضّل الحصول إما على السندات أوعلى الذهب أو على الحوالات.

 

وكان جميع من حوله قد وجدوا بأن ذلك يبدو غريباً مادامت هناك إمكانية للتحويل المالي إلى نيويورك بالعملة الورقية وبكل سهولة. كان الحديث قد دار بينهم حول هذا الأمر الغريب ولكن ليوم واحد فقط، فهذا هو الوضع عادة بالنسبة لكل ما قد يحدث في دينفر.

 

كنت طوال الوقت أراقبه، حيث قمت على الفور من انتهاء عملية البيع  ودفع المال، الذي كان قد تم في (11)،  باقتفاء أثر فولر دون أن أضيع  لحظة واحدة.

وكنت في تلك الليلة - لا، بل في الليلة (12) لأن الساعة كانت قد تجاوزت منتصف الليل بقليل, قد تتبعته إلى غرفته التي كانت على بعد أربع غرف من مكان غرفتي وفي ذات الممر. ثم عدت إلى غرفتي.  لبست الثياب التنكرية، وجعلت بشرتي تبدو داكنة  ثم جلست في الظلام، ومعي حقيبة يدّ تحتوي على غيار واحد، وتركت باب غرفتي موارباً، لأنني كنت أشك بأن الطائر سوف يطير في ذلك الوقت.

وبعد نصف ساعة، مرّت من أمامي سيدة مُسنة تحمل بيدها حقيبة:  ولفت انتباهي رائحة أعرفها، لذا كنت قد تبعتها. ذلك لأن تلك المرأة كانت فولر الذي كان قد غادر الفندق من مدخل جانبي، ثم كان في أحد المنعطفات قد توجّه إلى شارع خالٍ من المارّة، وبدأ يمشي في الظلام الدامس وتحت المطر الخفيف إلى أن قطع مسافة ثلاثة أزقّة. ثم دخل بعد ذلك إلى عربة يجرّها حصانان كانت بانتظاره بموجب موعد سابق. أما أنا فكنت قد أخذت مكاني (دون دعوة) على حافة الصندوق الخلفي من تلك العربة وأسرعنا بالانطلاق. وبعد أن سرنا لمسافة عشرة أميال، توقفت العربة في محطة على الطريق فارغة تماماً من المسافرين. نزل فولر من العربة وجلس على مقعد تحت المظلة، وفي أبعد ما مكان ممكن عن الضوء.، بينما ذهبت إلى الداخل وبدأت أرقب مكتب حجز البطاقات. لم يقم فولر بشراء أية بطاقة سفر، ولم أقم أنا أيضاً بشراء بطاقة سفر. وكان القطار قد وصل في ذلك الوقت.، صعد فولر إلى إحدى العربات، وصعدت إلى ذات العربة ولكن من الناحية الأخرى، ثم مشيت إلى الجناح الذي كان فيه، وجلست  في مقعد خلفه. وعندما دفع قيمة بطاقة السفر للسائق، وأشار إلى الوجهة التي يقصدها وكان السائق يُبدّل له الورقة المالية ., انتقلت إلى بضع مقاعد تبعد من مكان جلوسه., وعندما وصل إليّ السائق دفعت له أنا أيضاً ثمن البطاقة إلى ذات المكان, والذي كان على بُعد حوالي المائة ميلٍ من ناحية الشرق.

 

ومنذ ذلك الوقت ولمدة أسبوع، كان فولر يقودني من مكان لآخر., ويسافر من هنا إلى هناك ثم إلى مكان أبعد ـ  ولكن دوماً باتجاه الشرق. إلا أنه, بعد مرور اليوم الأول, لم يعد يتنكر بزيّ امرأة، وإنما تنكّر مثلي في هيئة عامل،  وبلحية مستعارة كثيفة. كان زيّه متقناً، بحيث كان بإمكانه أن يتنكر بتلك الشخصية حتى دون أن يفكر في ذلك، ودون أن يتمكن حتى أقرب أصدقائه من التعرّف عليه، وذلك لأنه كان قد عمل سابقاً في مثل هذه المهنة لكسب عيشه. استقر أخيراً هنا في مونتانا وفي أصغر وأكثر المخيمات احتجاباً. وهو يُقيم في كوخ وهو يخرج طوال اليوم للاستطلاع، لكنه يتجنب الاجتماع بأحد. أما أنا فأقيم حالياً في نَزل لعمال المناجم، وهو مكان شنيع من ناحية المبيت والطعام والأوساخ وفي كل شيء. وقد مرّ الآن على وجودنا هنا أربعة أسابيع، لم أره خلالها سوى مرة واحدة, لكنني أتتبّعه كل ليلة وأتخذ مكاني هناك. كما كنت قد ذهبت على الفور من استئجاره كوخاً هنا، إلى مسافة تبعد حوالي الخمسين ميلاً، وأرسلت برقية إلى فندق دينفر لكي يحتفظوا لي بأمتعتي لديهم إلى حين عودتي، فأنا لست في حاجة هنا سوى لبعض القمصان  وقد جلبت ما يلزمني منها معي.

 

 

سيلفر غولش  12 حزيران (يونيو)

 

أعتقد أن حادثة دينفر لم تجد طريقها إلى هنا على الإطلاق.  فقد تعرفت على أكثر الرجال هنا في هذا المخيم, ولم يقم أي منهم مع ذلك بالإشارة إلى الأمر، وهذا على الأقل حسبما وصل إلى أسماعي. لابد أن فولر يشعر هنا بالأمان في مثل هذه الظروف.، لأنه تقدم بطلب للعمل في منطقة جبلية تقع على بعد ميلين خارج هذه المنطقة., والأمر يسير جيداً وهو يتابعه بمثابرة. ولكن، كم هو ذلك التغيير الذي طرأ عليه!  فهو لم يعد يبتسم على الإطلاق،  كما أنه يبقى دوماً بمفرده ولا ينسجم مع أحد ـ  وقد رأيت ذلك الرجل الذي كان يحب الصحبة إلى حد كبير، والذي كان منذ شهرين فقط دائم المرح، رأيته مؤخراً يمرّ بجانبي عدة مرات ـ بوجه يُثير الشفقة، يبدو عليه اليأس والبؤس، وقد غادر عنفوان الشباب مشيته. كما أنه أطلق على نفسه اسم دافيد ويلسون.

 

أعتقد أنه سيبقى هنا إلى أن نقوم بتعكير مزاجه. وبما أنك تًصرين على ذلك، فسوف أنفيه من جديد. وإن كنت لا أدري كيف سيكون أتعس مما هو عليه الآن. سوف أعود إلى دينفر لكي أمنح نفسي بعض الوقت للراحة، ولكي أحصل على طعام يؤكل، وعلى سرير معقول وعلى بعض اللياقة البدنية.، وبجلب أمتعتي، ثم سوف أقوم بعد عودتي وبإنذار أبي المسكين "ويلسون" بالانتقال من جديد.

 

 

 

دينفر 19 حزيران (يونيو)

 

يفتقده الجميع هنا أمي، ويأمل الجميع بأن تكون أعماله قد ازدهرت في مكسيكو. وهم لا يقولون ذلك بأفواههم فقط، وإنما من صميم قلوبهم. أنت تعلمين بأن بإمكان المرء دوماً أن يشعر بذلك. أنا أتسكع هنا منذ فترة طويلة، ويجب أن أعترف بذلك., لكنك لو كنت مكاني فسوف تشعرين بالعطف عليه. نعم، أما أعلم بما ستقولينه، وأنت على حق، فلو كنت أنا مكانك, وكنت أحمل مثل تلك الذكريات المؤلمة في قلبي...

سوف أعود  في قطار ليلة الغد.

 

 

 

دينفر 20 حزيران (يونيو)

 

أمي ! فليسامحنا الله ، كنا نُلاحق الرجل الخطأ !... لم أتمكن من النوم طوال الليلة الماضية، وأنا الآن أنتظر بزوغ الفجر لكي أستقلّ قطار الصباح ـ كم تمر الدقائق ببطء ! كم تمر ببطء!

يعقوب فولر هذا، هو ابن عم المذنب الحقيقي. كم كنا حمقى لأننا لم نفكر بأن المذنب لن يحتفظ أبداً باسمه الحقيقي بعد فعلته الوحشية تلك ! فولر الذي في دينفر هو أصغر بأربعة أعوام من الشخص الآخر، وهو أرمل جاء إلى هنا عام 79  في سن الواحد والعشرين ـ أي قبل زواجكما بعام، وهناك العديد من الوثائق التي تثبت ذلك. كنت قد تحدثت الليلة الماضية مع بعض أصدقائه المقربين ممن عرفوه منذ وصوله إلى تلك البلدة. لم أقل شيئاً، لكني خلال بضعة أيام سوف أعيده من جديد إلى مدينته، وسوف أقوم بتعويضه على خسارته لمنجمه. وسوف تكون في استقباله هناك مأدبة و مسيرة مع المشاعل، ولن يتحمّل أحد سواي النفقات. هل ستسمّين هذا "إسرافاً " أنا لست سوى صبي كما تعرفين، وهذا هو ما أتميّز به، لكنني بعد الآن وخلال هذه الفترة لن أبقى صبياً كما كنت...

 

 

 

سيلفرغولش  3 تموز (يوليو)

 

أمي، لقد رحل ! غادر، رحل دون أن يترك أي اثر! كما كان أثره قد اختفى عندما وصلت. وهذا هو اليوم الأول الذي أنهض فيه من الفراش منذ ذلك الحين. أتمنى لو لم أكن سوى صبي, بحيث قد يكون بإمكاني أن أحتمل الصدمات بشكل أفضل. يعتقد الجميع هنا بأنه توجّه إلى الغرب. سوف أنطلق الليلة في عربة وفي مسيرة لمدة ساعتين أو ثلاث أستقّل بعدها القطار. لست أدري إلى أين علي أن أتوجّه، ولكن يجب أن أتابع مسيرتي فلو حاولت أن أبقى هادئاً هكذا فسوف يتسبب لي هذا بالكثير من المعاناة.

 

لابد أنه اتخذ لنفسه اسماً جديداً وأنه قد تنكّر. وهذا يعني بأالموضوع،علي أن أبحث في كامل الكرة الأرضية لكي أعثر عليه. وهذا ما أتوقعه بالفعل!... أترين أمي؟ هذا يعني بأنني أنا الذي أصبحت أشبه "باليهودي التائه". الأمر مدعاة للسخرية، لأن هذا ما كنا قد خططناه للشخص الآخر.

 

تصوّري مقدار ما أواجهه  من صعوبات ! لن يكون هناك من قد أستفسر منه عنه، ومع ذلك، فلو وجدت أية طريقة لكي أفعل ذلك،  فلن يجعلني ذلك أخشى شيئاً...

 

لم أتمكن من إيجاد أية طريقة لذلك. كنت قد حاولت إلى أن تشوّش ذهني, ومع ذلك فلو وجدت أية طريقة لكي أفعل ذلك فلن أخشى شيئاً. هذا لو كان بإمكان الشخص الذي كان مؤخراً قد اشترى منه ذلك المنجم في مكسيكو، أو لو كان بإمكان الشخص الذي باع له المنجم في دينفر، أن يزودني بعنوانه...(ولكن لمن أمي ؟).

 

سوف أشرح له الموضوع ، وسأعلمه بأن كل ما جرى كان عن طريق الخطأ، وبأنني سأطلب منه السماح ، كما سوف أقوم كذلك بتعويضه عن جميع الخسائر التي نجمت عن هذا الأمر. هل تُدركين ذلك ؟ لكن ذلك الشخص قد يعتقد بأن ما أفعله عبارة عن شرك للإيقاع بالرجل... حسناً، لابد أن يظن ذلك وهذا بالطبع لأن أي شخص مكانه سوف يعتقد ذلك!.. ولو قلت لهم بأن الحقيقة كانت قد اكتشفت مؤخراً، وبأنه ليس بالشخص المطلوب، وإنما هو رجل آخر يحمل ذات الاسم،  كان قد غيّر اسمه لأسباب ذات أهميّة. فهل سيكفي ذلك؟  لكن الناس في دينفر سوف يتنبهون ويقولون أووه..!  وسوف يتذكرون السندات المشكوك بها، وسوف يتساءلون عن سبب هروبه إن لم يكن هو الرجل المطلوب؟  الموضوع  دقيق جداً.  كما أنني لو فشلت في العثور عليه فسوف يُفلس هناك. أما هنا فلا توجد عليه أية وصمة في الوقت الحاضر - هذه الحجة واهية.  ساعديني أمي، لأن بإمكانك التفكير بطريقة أفضل مني!

هناك مفتاح واحد لحلّ اللغز، هناك حلّ واحد، وهو أن أتعرّف على خطّه, هذا إن كان قد كتب اسمه المزيف في سجل الفندق، دون أن يقوم بتزوير خطّه بشكل متقن, وأعتقد بأن هذا ما سوف يفيدني لو صادف وعثرت عليه.

 

 

 

سان فرانسيسكو 28 حزيران  يونيو 1898

 

أنت الآن تعرفين جيداً مقدار ما قمت به من جهد في البحث عنه في جميع الولايات من كولا رادو إلى الباسيفيك، وكم من مرّة كنت على وشك العثور عليه. حسناً، لكنني فقدته من جديد. كنت قد عثرت بالأمس على أثره هنا في أحد شوارع سان فرانسيسكو., وبذلك تتبعته بسرعة إلى مكان إقامته الذي كان في فندق رخيص. لكنها كانت غلطة كلفتني غالياً., فلو أنني كنت بالفعل أحد الكلاب البوليسية لكنت قد توجهّت في اتجاه آخر، لكني لست سوى شبه كلب، لذا فأنا عندما أنفعل أصبح إنسانياً بأسلوب غبي. أنا الآن أعرف على وجه التقريب بأنه, ومنذ الستة أو الثمانية أشهر الماضية، لم يعد يمكث في أي مكان لفترة طويلة وبأنه غير مستقر وبأنه يتنقّل باستمرار. كما أعلم تماماً ما يشعر به، وأعلم ما هو نوع الإحساس الذي يشعر به "جيمس ويكلر" فهذا هو الاسم الذي كان له عندما كنت على وشك الإمساك به منذ تسعة أشهر. اسم جيمس ويكلر هو بلا شك الاسم الذي اتخذه لنفسه عندما هرب من "سيلفرغولش"  فهو رجل غير مُدعٍ لا يحب الألقاب الكبيرة...

عرفت الآن الخط بسهولة رغم ما فيه من تزييف بسيط، فهو رجل مستقيم لا يجيد التزييف والادعاء, لكنهم أعلموني بأنه غادر الفندق لتوّه في رحلة وبأنه لم يترك أي عنوان.، كما لم يذكر المكان الذي سوف يتوجّه إليه., وبأنه كان يبدو مذعوراً عندما طُلب منه أن يترك عنوانه. وبأنه لم يكن يحمل معه أية أمتعة ماعدا حقيبة رخيصة.، وبأنه غادر الفندق سيراً على الأقدام، وبأنه عجوز بخيل وبذلك فهم لا يُعتبرون مغادرته المكان خسارة كبيرة...أهو عجوز؟... أعتقد أنه قد أصبح كذلك الآن.

ولم أكد أسمع ما ـ يبدوإلا كنت بعد أن مكثت لفترة قصيرة, قد أسرعت في تعقبّ أثره الذي قادني إلى رصيف لتحميل السفن. إلا أنني عندما وصلت إلى هناك كان دخان المركب الشراعي الذي استقلّه قد اختفى في الأفق. كان بإمكاني أن اختصر نصف ساعة من الوقت لو أنني سلكت منذ البداية الاتجاه الصحيح، ولو كان بإمكاني أن أمسك بحبال الزورق بسرعة. لكنت سأجد الفرصة للحاق بذلك المركب الذي توجّه إلى ميلبورن!

 

هوب كانون كاليفورنيا 3 تشرين الأول أكتوبر 1900

لك الحق في التذمّر أمي. رسالة واحدة في العام ! هذه نِدرة، وأنا أعترف بذلك بمحض إرادتي. ولكن كيف بإمكان المرء أن يكتب إن لم يكن لديه ما يكتب عنه سوى خيبات الأمل؟ ليس بإمكان أحد أن يحتمل ذلك وهذا من شأنه أن يُحطم قلب أي إنسان.

سبق وقلت لك ذلك ـ  يبدو وكأن عصور قد مرّت الآن على ذلك. فأنا منذ حدث وأضعته في ميلبورن  قد اقتفيت أثره لأشهر في جميع أنحاء أستراليا. كما تتبعته بعد ذلك إلى الهند، وكنت على وشك العثور عليه في بومباي.، ثم بحثت عن أثر له في كل مكان ـ في بارودا، راولندي، لوكنو، كامبور، ألاهاباد، كالكوتا، ماداراس ـ وفي كل مكان، أسبوع بعد أسبوع، شهر بعد شهر.  بحثت عنه أثناء الطقس المُغبر، وأثناء الحرّ الشديد- وكنت في كل مرّة أكاد أعثر عليه، أو أكون أحياناً بالقرب منه،  لكنني مع ذلك لم أتمكن مع ذلك من الإمساك به... توجهت إلى سيلون  ثم  إلى لاباس الخ... وسوف أكتب إليك عن كل ذلك بالتفصيل.

تتبعته من جديد إلى كاليفورنيا ثم إلى مكسيكو  ثم عدت من جديد إلى كاليفورنيا. وأنا منذ ذلك الحين أتتبعه في كل أنحاء الدولة وهذا منذ بداية شهر كانون الثاني (يناير) وحتى الشهر الماضي. وأنا الآن تقريباً على يقين بأنه ليس في مكان بعيد عن "هوب كانون".، تتبعته إلى نقطة تبعد ثلاثين ميلاً من هنا، ثم فقدت أثره هناك من جديد، لأن أحدهم كان قد اصطحبه معه في عربته على ما أعتقد...

 

أمي ! أنا في الوقت الحاضر آخذ قسطاً من الراحة ـ كما أنني قمت بتعديل خطة البحث عن آخر أثر له. كنت متعباً إلى درجة الممعه وأنح معنوية كئيبة، حتى أنني كنت أشعر أحياناً بالضيق وبأنني على وشك فقدان الأمل.، إلا أن عمال المنجم في ذلك المخيم الصغير من الأشخاص الطيبين. وبذلك اعتدت على طباعهم . وعلى مرحهم، الذي من شأنه أن يُنعش قلب المرء ويُنسيه متاعبه. أنا هنا منذ شهر، وأقيم مع شاب يدعى: "سامي هيلير" هو في حوالي الخامسة والعشرين وهو مثلي الولد الوحيد لوالدته , كما أنه يحب والدته جداً ويكتب إليها كل أسبوع ـ وهذا ما يشبهني بعض الشيء. هو فتى خجول، أما من ناحية الذكاء ـ حسناً، فليس بإمكان المرء أن يعتمد عليه حتى في إشعال النار. ولكن لا بأس، فهو من الأشخاص المُحبّبين إلى النفس لأنه طيب ولطيف، ومن المفيد والمريح أن يرافقه المرء وأن يجلس للتحدث معه  وأن يكون لي من جديد بعض الصحبة. أتمنى أن يحصل "جيمس ويكلر" على الصحبة. كان لديه أصدقاء وكان يحبّ الصحبة..هذا ما يُعيد صورته إلي عندما رأيته للمرة الأولى. وهذا هو الأمر الذي يثير الشفقة بالفعل ! يا لذلك البائس! ... يتوارد إلى ذهني في كثير من الأحيان كيف كنت أحاول في ذلك الوقت أن أطوّق (أسكت) ضميري لكي أستطيع الاستمرار من جديد بتلك المهمة!.

قلب هيلير أطيب من قلبي، وأطيب من قلب أي شخص بين المجموعة، وأنا أعتقد ذلك لأنه صديق لرجل أسود هنا في المخيم  يُدعى ـ فلينت بوكنرـ  وهيلير هو الرجل الوحيد الذي يتحدث معه بوكنر، أو بالأحرى هو الرجل الوحيد الذي يسمح له بوكنر بالتحدث معه... هو يقول بأنه يعرف قصة حياة فلينت، وبأن ما جعله يبدو بهذا الشكل هي معاناته الطويلة، وبأن على المرء بذلك أن يتعاطف معه قدر الإمكان . أمي , ليس بإمكان أي شخص ما عدا صاحب قلب كبير مثل قلب هيلير أن يؤوي شخصاً مثل فلينت بوكنر، وهذا لما سمعته عنه من الخارج...أعتقد أن هذه التفاصيل الصغيرة بإمكانها أن تزودك بشكل أفضل بفكرة عن طباع  سامي هيلير، وبأكثر من أي وصف دقيق آخر قد يكون بإمكاني أن أزودك به. كان سامي قد قال لي أثناء إحدى محادثاتنا هذه الكلمات:

"فلينت أحد أقاربي، وهو يُفضي إلي بكل متاعبه , وهو بذلك يُفرغ  مافي قلبه من وقت لآخر, وأنا أعتقد بأنه إن لم يفعل ذلك لكان سينفجر... لايمكن أن يكون من هو أتعس من هذا الرجل. كانت حياته عبارة عن بؤس, كما أنه ليس بالرجل المُسن كما قد يبدو عليه ذلك.، لكنه فقد الشعور بالراحة والسلام منذ سنوات، سنوات طويلة., وهو لا يعرف معنى السعادة، كما لم يكن يوماً من ذوي الحظ السعيد. وهو يقول فيالمخيم منلأحيان بأنه يتمنى لو كان في جحيم آخر لأن تعب من الجحيم الذي يعيش فيه.

 

 

4

 

ليس بإمكان أي رجل محترم بالفعل أن يعترف بالحقيقة العارية بحضور السيدات.

كان ذلك في صباح يوم قارص شديد البرودة من شهر تشرين الأول (أكتوبر) حيث كانت زهور الزنبق، وزهور شفّة القوقعة التي تُضيئها شعلة مجد الخريف، تتدلى وتُومض في الهواء، أشبه بجسر تمنحه الطبيعة للأشياء البريّة التي ليس لها أجنحة، والتي اتخذت موطنها في قمم الأشجار، والتي تتزاور معاً. كانت أشجار الصنوبر والرمان تتوهّج على امتداد منحدرات الغابة  بلون أرجواني ولون أصفر على شكل ذرّات كبيرة لامعة.  وكان أريج الزهور يتصاعد  ويعبق عالياً  وبعيداً في الجو في غشاوة السماء. وفي مكان بعيد من فراغ السماء  حيث يكمن سكون وصفاء وسلام الله , نام الأيسوفاكوس على جناح واحد دون حراك...

 

 

كان ذلك قد حدث في اليوم الأول من شهر (أكتوبر) من العام 1900، وفي مخيم للتنقيب عن الفضة  في هوب كانون، الذي يقع في منطقة إزمارالدا. وهي منقطة منعزلة، مرتفعة ونائية تم اسكتشافها حديثاً، يعتقد قاطنوها بأنها غنية بالمعادن، ولكن استكشاف الأمر سوف يحتاج لمدة سنة أو سنتين من التنقيب. يتألف سكان المخيم  من حوالي المائتين من عمال المناجم، ومن سيدة واحدة من البيض معها طفل، ومن خمسة هنود حمر، ومجموعة من المتشردين الهنود بملابسهم المصنوعة من جلود الأرانب , وقبعاتهم وعقودهم المصنوعة من الصفائح المعدنية الرقيقة. لا توجد  في تلك المنطقة البعيدة حتى الآن أية طواحين أو القرية، صحف، لأن المخيم كان قد أنشئ من سنتين فقط , وبذلك لم يكن قد أحدث بعد جلبة كبيرة, وكان العالم بأكمله يجهل حتى اسمه كما يجهل حتى وجوده ...

وتحيط بتلك المنطقة من الطرفين سلسلة من الجبال أشبه بجدار بارتفاع الثلاثة أقدام على وجه التقريب, وبذلك لم تكن السلسلة اللولبية الطويلة من الأكواخ التائهة التي تقع على مسافة بعيدة عن بعضها البعض في ذلك العمق الضيق من الوادي ، ترى الشمس سوى مرة واحدة في اليوم ، وفي ما بعد وقت الظهيرة , أي عندما تكون الشمس على وشك الرحيل...

كانت الحانة هي المكان الوحيد الذي له شكل المسكن في تلك القرية ، أو كما يقال هي السكن الوحيد فيها . فهي تحتل موقعاً له أهميته في القرية لأنها الملاذ الليلي للسكان. فهم يتناولون فيها المشروبات ويلعبون بأحجار الدومينو, ويلعبون البيلياردو على طاولة  تقتطعها أماكن ممزقة تم إصلاحها بواسطة ورق لاصق, عليها بعض عصي البيلياردو وبعض الكرات التي لم تكن  مصنوعة من الجلود، وإنما هي عبارة عن كرات مُنجّرة من الخشب لذا فهي تُصدر أثناء جريانها صوت قعقعة ,كما أنها تتوقف فجأة وليس بالتدريج . كما كانت في تلك الحانة بعض المربعات من الطباشير ذات نتوءات من حجر الصوان، وكان الرجل الذي يتمكن من تسجيل ستة منها بضربة واحدة , يفوز بمشروب على حساب الحانة.

كان كوخ فلينت بوكنر آخر كوخ في تلك القرية, وهو يقع باتجاه الجنوب، بينما يقع منجم الفضة  الخاص به  نحو الشمال في الطرف الآخر من القرية وعلى مسافة  تبعد قليلاً عن آخر كوخ فيها.

 

فلينت بوكنر شخص غير اجتماعي، نَكد الطباع ، ليست لديه أية صدقات، وحتى أن الأشخاص الذين حاولوا التعرّف عليه كانوا قد ندموا وعدلوا عن ذلك. لم يكن هناك من يعرف شيئاً عن تاريخ حياته ., وكان البعض يعتقدون بأن سامي هيلير يعرف ذلك. بينما كان البعض الآخر يقولون بأنه لا يعرف شيئاً عنه. ولو سُؤل سامي هيلير عن ذلك فسوف يجيب أيضاً بالنفي.

 

يعمل مع فلينت  بوكنر فتى انكليزي خنوع  في السادسة أو السابعة عشر. كان بوكنر يعامل ذلك الفتى بأسلوب خشن سواء أكان ذلك على انفراد أو أمام الناس. وكان بعضهم بالطبع يحاول الحصول من ذلك الفتى على معلومات عن بوكنر ولكن دون جدوى... فكل ما كان يقوله "فيتلوك جونس" ـ وهذا هو اسم ذلك الفتى ـ  بأن فلينت كان قد عثر عليه أثناء رحلة تنقيب، ونظراً لأنه لم يكن لدى الفتى بيت أو أي أصدقاء في أمريكا , فقد وجد بأن من الحكمة أن يبقى مع فلينت رغم تلك المعاملة السيئة لكي يحصل على أجر- علماً بأن ذلك الأجر لم يكن سوى وجبة من الفاصوليا ومن اللحم المُقدد -  ولم يكن بإمكان فلينت أن يُزودهم  بأكثر من تلك البيانات عنه.

كان قد مرّ على عبودية فيتلوك ما يُقارب الشهر., كان فيتلوك خلال تلك الفترة، وراء ذلك المظهر الخارجي الخنوع الذي يبدو عليه،  قد بدأ في داخله يتحول تدريجياً إلى بركان, أمام إهانات وإذلال سيده., لأن ذلك الفتى الوديع كان يعاني من تلك الإهانات ربما بمرارة أكثر مما بإمكان أكثر الأشخاص رجولة أن يحتمله. فبإمكان الرجال عندما تصل بهم المعاناة إلى أبعد مداها، أن يلقوا راحتهم بكيل السباب لبوكنر أو بصفعه، لكنه لم يكن يجرؤ على ذلك.

 

كما كان كل من هم حول فيتلوك من الأشخاص الطيبين يرغبون بانتشاله من تلك المعاناة، ويحاولون إقناعه بترك بوكنر. لكن الفتى كان يُظهر الهلع لمجرد طرح الفكرة عليه ويقول بأنه لن يفعل ذلك أبداً.

 

كان" بات ريلي" قد قال له مرّة لكي يحثّه على أن القيام بذلك:

- فلتترك ذلك الحقير اللعين  ولتأتِ معي. لا تخف فسوف أعتني بك.

 

لكن الفتى كان قد شكره وهو يرتجف والدموع في عينيه، وقال بأنه لا يستطيع المجازفة بذلك، وبأن فلينت سوف يقبض عليه في وقت ما، أثناء النهار أو أثناء الليل، وبأنه سوف يقوم بعد ذلك ب...  ثم قال " أنا أشعر بالدوار لمجرد التفكير بذلك ",

 

وكان آخرون قد قالوا له:

- اهرب منه  وسوف نُساندك، بإمكانك أن تهرب إلى الشاطئ ذات ليلة.

 

إلا أن جميع المقترحات كانت قد أخفقت، وكان الفتى يقول دوماً بأن فلينت سيُطارده وبأنه سيُعيده من جديد حتى لو كان ذلك لمجرد النذالة. لم يكن بإمكان الرجال أن يتفهموا ذلك، وفي ذلك الوقت كانت معاناة ذلك الفتى تستمر أسبوعاً بعد أسبوع . ولكن... ربما كان بإمكانهم أن يُدركوا حقيقة الأمر لوعرفوا كيف كان ذلك الفتى يُمضي أوقات فراغه.

 

كان الفتى ينام في حجرة خارجية بالقرب من كوخ فلينت., وكان يمضي الليالي هناك بمحاولة معالجة آلامه و باحتضان ما يتعرض إليه من إذلال، بأن يفكّر ويفكّر في أمر واحد وهو كيف سوف يكون بإمكانه أن يقتل فلينت دون أن يتم اكتشاف فعلته... كانت تلك هي البهجة الوحيدة في حياته، كما كانت تلك الساعات هي الساعات الوحيدة من بين الأربع والعشرين ساعة التي كان فيتلوك يتطلع إليها بحماس والتي كان يُمضيها في سعادة.

 

كان قد فكرّ بالسمّ. ولكن لا. هذا لايخدم الموضوع. فسوف يكشف التحقيق من أين تم جلب السمّ وبذلك سوف يكشف أيضاً عن من جلبه. ثم فكّر بضربة في الظهر في منتصف الليل وفي مكان مُنعزل في الساعة التي يتوجّه فيها فلينت عادة في طريق عودته إلى المنزل. كما فكرّ بطعنه أثناء نومه ولكن لا... لا.., فقد يضربه ضربة غير قاضية وبذلك سيتمكن فلينت من الإمساك به. كان الفتى  قد استعرض مئات الأساليب، ولكن لم يجد في أي منها ما هو مجدٍ، فحتى في أكثر الأساليب خفاء وسرّية، هناك إمكانية لوقوعه في الخطأ المُميت، وهناك دوماً فرصة وإمكانية لأن يتم اكتشاف الأمر، ولن يلجأ لأي منها.

 

لكن ذلك الفتى كان يتصف بالحُلم، حُلم لا نهاية له، وكان يقول لنفسه " لا داعِ للاستعجال" وبأنه لن يترك فلينت أبداً قبل أن يجعله جثة هامدة. وبأنه سوف يجد طريقة ما. لابد أن يجد الطريقة. لابد أن هناك طريقة في مكان ما.  وبأنه سوف يحتمل العار والألم والبؤس إلى أن يجدها. نعم، لابد وأن تكون هناك طريقة ما.، طريقة آمنة لن تترك أي دليل على القاتل. وليس هناك أية ضرورة للاستعجال... لا.. لا داعي للاستعجال...سوف يجد الطريقة. وحينئذ، آه !.. حينئذ فقط سوف يكون من الجيّد أن يكون على قيد الحياة !. أما أثناء ذلك فسوف يُثابر على الحفاظ على سمعة الشخص المُستكين الخنوع.

 

كما أنه وكعادته، لن يسمح إطلاقاً لأي شخص بأن يسمعه يقول أي شيء من شأنه أن يُسيء إلى فلينت أو بما يُشير إلى أنه يشعر بالامتعاض من ذلك الشخص الذي يقوم باضطهاده.

 

كان ذلك في صباح اليوم المشار إليه وفي شهر تشرين الأول ( أكتوبر)، كان فلينت قد اشترى بعض الأشياء، ونقلها هو وفيتلوك إلى كوخه. كانت تلك الأشياء عبارة عن:  صندوق من الشموع وضعاها في الزاوية, وعلبة صغيرة من مسحوق البارود تم وضعها فوق صندوق الشموع, وبرميل صغير من مسحوق البارود تم وضعه تحت سرير فلينت، وفتيل كبير للفرقعة تم تعليقه على المشجب. وكان فيتلوك قد أدرك حينئذ بأن عمليات التنقيب التي يقوم بها فلينت قد وصلت إلى ذروتها، وبأن التفجير سوف يتم في ذلك الوقت.، كان فيتلوك قد شاهد سابقاً عملية التفجير وبذلك كانت لديه فكرة عن تلك العملية، إلا أنه لم يكن قد ساعد في تنفيذها. كان حدسه صحيحاًُ ـ كان موعد التفجير قد حلّ بالفعل.

 

كانا في الصباح قد حملا معاً فتيل الفرقعة والمثقاب وعلبة مسحوق التفجير وتوجها إلى مكان المنجم. كان خندق التفجير بعمق الثمانية أقدام يتم النزول إليه والخروج منه بواسطة سلم قصير. نزلا معاً إلى الخندق، وقام فيتلوك حسب الأوامر بالإمساك بالحفارة ـ لكنه لم يكن قد تلقّى التعليمات حول الطريقة الصحيحة للإمساك بها – ثم بدأ فلينت بعد ذلك باختراق الأرض بواسطة الحفارة،  واستمر بالطرق على الحفارة.  وبعد أن نزلت الحفارة إلى الأسفل كانت قد أفلتت فجأة من يد فيتلوك وبذلك وكنتيجة طبيعية لذلك كانت قد قفزت للأعلى . حينئذ قال له فيتلوك:

 

- أنت أيها الزنجي الأجرب، أليست هناك طريقة أخرى للإمساك بالحفارة؟ ارفعها إلى الأعلى!  أوقفها هكذا، أمسك بها بشدّة، أنت أيها... سوف أعلمّك كيف...!

 

وبعد مرور ساعة كانت عملية الحفر قد انتهت. قال له فلينت بعد ذلك:

- قم الآن بتعبئة الحفرة ". قام الفتى بسكب مسحوق التفجير.

- أيها الأبله !

ثم كان الفتى على إثر ذلك وبضأولاً،فة بفك الكماشة، قد رُمي في الخارج.

- انهض، لايمكن أن تستلقي هكذا وأنت تتباكى! والآن أمسك بالسلك بشكل جيّد أولاً ،  ثم اسكب المسحوق. أمسك جيداً، أمسك جيّداً أيها المُخنّث، هل ستملأ كامل الحفرة ؟ أيها الأبله، اسكب بعض الحصى ! احشوها في الحفرة. أمسك، أمسك ! أيها الاسكتلندي ابتعد عن الطريق !

وانتزع فيتلوك السلك منه، وبدأ يقوم بعملية الحشو بنفسه، وهو يسبّ ويلعن كالشيطان. ثم قال له:

- أشعل السلك!

ثم صعد إلى خارج حفرة المنجم، وركض إلى بعد خمسين ياردة  يتبعه فيتلوك . وقفا هناك معاً ينتظران لعدة دقائق. تصاعدت في الهواء كميّة كبيرة من الدخان ومن الحجارة  ثم حدث انفجار مُرعد أدى إلى انهمار وابل من الحجارة،  ثم عاد كل شيء من جديد إلى الهدوء.

 

حينئذ قال له سيده :

- كنت أتمنى أن تكون بداخلها.

 

نزلا بعد ذلك إلى داخل فتحة المنجم. وبعد أن قاما بتنظيفه حفرا فتحة أخرى، ووضعا بداخلها عبوة أخرى من المتفجرات.

 

قال فيتلوك للفتى:

- انظر إلى ما فعلته هنا! لقد وضعت فيها كمية كبيرة من المتفجرات. هل تريد أن تُبددها بالكامل ؟ ألا تعرف كيف يتم تحديد كمية المتفجرات؟

- لا، سيدي.

- لا تعرف ذلك!  حسناً، هذا لأنك لا تنتبه إطلاقا لما أقوم به!  ثم صعد من الخندق  وتحدث إليه من الأعلى:

 

- حسناً،  أيها الأبله، سوف تبقى هنا طوال اليوم، والآن اقطع فتيل المفرقعات وأشعله !

بدأ ذلك المخلوق يرتجف ويقول:

 

- سيدي، أرجوك أنا...أنا..."

- أنت الآن تعترض علي كلامي؟ نفذ ما أقوله, اقطعه وأشعله !

 

قطع الفتى الفتيل وأشعله.

- جيّد أيها الاسكتلندي ! فتيل الدقيقة! كنت أتمنى لو كنت أنت بداخل الفتيل.

 

ثم قام فلينت وهو في غاية الغضب بانتزاع السلم  من الحفرة وركض بعيداً.

شعر الفتى حينئذ بذعر شديد وبدأ يتوسل:

- ياإلهي، ما الذي بإمكاني أن أفعله؟ ما الذي بإمكاني أن أفعله؟  ياإلهي! ساعدني! ساعدني!  أنقذني!.

ثم التصق بالجدار بقدر ما بإمكانه من عزم. كانت فرقعة الفتيل قد جعلته يفقد صوته وجعلت نفَسه يتوقف. وقف يُحدق به وقد فقد قدرته على الحركة و الكلام. فما سوف يحدث هو أنه خلال ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ سوف يطير نحو السماء وقد تمزُق جسده إلى أجزاء صغيرة. ثم خطرت بباله فكرة: قفز بسرعة إلى الفتيل وفصل القسم المتبقي منه على الأرض، وكان بذلك قد نجا من الموت !...  استلقى الفتى بعد ذلك مشلول الحركة،  نصف حيّ لشدة الفزع، وقد خارت قواه لكنه تمتم بفرح عميق:

 

" لقد علّمني!  كنت أعلم بأنني لو انتظرت فسوف أجد الطريقة..."

 

بعد فترة خمس دقائق كان بوكنر قد اقترب من خندق المنجم، تبدو عليه علامات القلق والارتباك, ولكن الضيق الذي كان فيه ازداد بعد أن أمعن النظر بالفتى واطلع على الموقف وشاهد ما حدث... ثم أنزل إليه السلم.

 

جرجر الفتى نفسه بضعف إلى الأعلى. كان شاحباً للغاية مما أدى إلى زاد من الضيق التي كان فيها بوكنر، بحيث قال أخيراً وهو يُبدي أسفه وتعاطفه بارتباك، فلم يكن قد سبق له القيام بذلك لعدم اعتياده على الاعتذار:

 

-  أتعلم، كانت مجرد حادثة مفاجئة. لا داعي لأن تتحدّث عن ذلك للآخرين. عملت اليوم بما فيه الكفاية. اذهب إلى كوخي لكي تتناول ما ترغب به من طعام ولكي تأخذ قسطاً من الراحة، كانت تلك حادثة سبّبها ما كنت فيه من توتر.

قال الفتى وهو يغادر المكان:

- كان ما حدث قد أفزعني، لكنني تعلمّت شيئاً جديداً، لذا فلست أهتم بذلك.

 

وكان بوكنر وهو يتابعه بنظره، قد حدّث نفسه بالقول:

- يبدو أن من السهل جداً إرضائه، وأنا أتساءل فيما إذا كان سيُحدث للآخرين عن ذلك؟ تُرى هل سيفعل ذلك؟ أتمنى لو كنت قد قتلته.

 

لكن الفتى لم يكن قد استفاد من فترة الراحة تلك، وإنما كان قد استخدم الوقت لكي يعمل بحماس وبكل سعادة وهو شبه محموم.

 

كان هناك شقّ عميق يمتدّ من طرف الجبل إلى كوخ فلينت., كانت غالبية أعمال فيتلوك تتم في تلك المنقطة الصلبة المظلمة، لكن باقي الأعمال كانت تتم في كوخه الخاص. وبعد أن أنهى الفتى ما كان يقوم به وكان كل شيء قد أصبح كل شيء جاهزاً حدّث نفسه:

 

- لو كانت لديه أية شكوك بأنني قد أقوم بإعلام الآخرين بما جرى، فلن يطول هذا الأمر به كثيراً., وسوف أثبت له غداً طوال اليوم، ليلاً نهاراً وكذلك في اليوم الذي يليه، بأنني لازلت ذات الفتى المُخنث الذي كنته على الدوام., وسوف تكون نهايته بعد الغد ليلاً... لن يتمكن أحد أبداً من معرفة الكيفية التي تمت بها نهايته.كان قد أوحى إلي بنفسه بهذه الفكرة، وهذا غريب بالفعل !".

 

5

حلّ اليوم التالي وانتهى.

 

كان الوقت حوالي منتصف الليل، وكان الصباح الجديد على وشك أن يحلّ بعد خمس دقائق...

المشهد الآن في الحانة وفي غرفة البيلياردو، حيث تجمّع  بعض الرجال الخشني الملامح، بملابسهم الخشنة  وقبعاتهم المهترئة وبناطيلهم القصيرة المدسوسة داخل الجزمات. كان البعض منهم فقط يرتدي الصديري، ولم يكن أي منهم  يرتدي المعاطف. تجمّع الحشد أمام المدفأة الحديدية  بوجوه مُتوردة. وكانت طابات البيلياردو تُطقطق  بحيث لم يكن بالإمكان سماع أية أصوات أخرى ما عدا ذلك الأنين المتقطع للرياح . كانت تبدو على الرجال علامات الضجر، وكذلك الترقب لما قد يحدث. وكان بين أولئك الرجال أحد عمال المناجم، رجل في منتصف العمر ضخم القامة عريض الأكتاف له شارب كثيف، تكسو وجهه غير المألوف نظرة غير وديّة. نهض الرجل., دسّ تحت ذراعه سلكاً ملفوفاً، ثم جَمع بعض الأشياء الشخصية الأخرى، وغادر المكان دون أن يتكلم كلمة واحدة، وحتى دون أن يُلقي التحيّة على أي من الموجودين. كان ذلك الرجل هو فلينت بوكنر.

 

وعلى الفور من إغلاقه باب الغرفة وراءه، انطلق حديث ما يُشبه الدوي. حيث قال الحداد جاك باركر:

- لا مثيل لهذا الرجل في الانتظام، فبإمكان المرء عندما يراه يخرج أن يعلم بأن الساعة هي الثانية عشرة حتى دون الحاجة لأن ينظر إلى ساعته.

وقال عامل المنجم بيتر هاوس:

- وهذه هي فضيلته الوحيدة على ما أعلم.

ثم قال فيرغسون :

- لو كنت أنا الشخص الذي يتولى إدارة هذا المكان، لكنت سأرغمه على أن يقول شيئاً من وقت لآخر، أوأن يرحل من المكان.

كان قد قال ذلك وهو يُلقي نظرة ذات مغزى إلى مدير الحانة الذي تظاهر بعدم الالتفات إليه والذي حدّث نفسه:

- لا أهمية لذلك مادام الرجل الذي يدور حوله الحديث من الزبائن الجيّدين، وبما أنه يعود كل ليلة إلى كوخه, بعد تناوله المشروبات في الحانة وهو في حالة جيّدة.

وقال عامل المنجم هام ساندويتش:

- أعلموني، هل سمعه أحدكم قطّ  يطلب مشروباً للآخرين؟

- من؟ هو؟ فلينت بوكنر، سيطلب مشروباً؟

 

كانت تلك المداخلة في الحديث قد تسببت باندفاع الحشد بالكلام بشكل وبآخر. ثم قال أحد عمال المناجم بعد فترة قصيرة من الصمت:

- بوكنرهو الظاهرة الغريبة رقم 15، وذلك الفتى هو الظاهرة الغريبة الأخرى. ليس بإمكاني أن أفهم مثل هذا الأمر.

قال هام ساندويتش:

- كما ليس بإمكان أحد غيرك أن يفهم ذلك. فلو كانا هما الظاهرة الغريبة رقم 15، فكيف سيكون بإمكانكم أن تُصنّفوا تلك الظاهرة الأخرى؟ فعندما يصل الأمر إلى ( آ ) فتلك أحجية غامضة تتجاوز كليهما بسهولة, أليس كذلك ؟ هل تراهن على ذلك؟

 

أيدّ الجميع كلامه، الجميع، ما عدا رجل واحد. وكان ذلك الرجل هو قادم جديد يدعى بيترسون. كان ذلك الرجل قد طلب المشروبات  للجميع ثم سأل عمن يكون الرجل رقم (3)  وأجابه الجميع هو" آرشي ستيلمان "

سأل بيترسون " هل هو لغز؟ "

قال فيركسون رجل فاركو:

- أتسأل فيما إذا كان يعتبر كذلك ؟ لِم لا؟  فالمقاييس الأربعة للجنون تنطبق عليه.

أراد بيترسون أن يعرف كل شيء عنه.

 

حسناً ، بدأ الجميع بإعلامه بذلك وبدأ الجميع يتحدثون معاً، لكن بيلي ستيفنس صاحب الحانة طلب من الحاضرين التزام النظام، وقال لهم بأن من الأفضل أن يتكلم كل شخص بمفرده، ثم قام بتوزيع المشروبات على الجميع، وكلف فيركسون بالبدء في الكلام.

 

قال فيركسون:

- حسناً، كل ما نعرفه عنه أنه فتى بإمكانك أن تحاول استخلاص أي شيء منه. ولكن لا فائدة من ذلك. لن تحصل منه على أي شيء. فقد تحاول على الأقل أن تعرف ما هي نواياه أو ما هو نوع عمله، أو من أين أتى ؟ أو ما هو وراءه، أو أية  أمور مماثلة ولكن دون فائدة. أما بالنسبة إلى التوصل إلى معرفة طباعه أو التوصل إلى اللغز الكبير الذي يَكمن وراءه، فإن كل ما يفعله هو أنه سوف يقوم بتغيير الموضوع، وهذا كل شيء ! بإمكانك أن تحاول التخمين إلى أن تتعب، فهذا من حقك، ولكن لنفترض أنك قمت بذلك  فإلى أين ستصل؟  لن تصل إلى أبعد مما أستطيع ذلك.

سأل بيترسون:

- ما هو الشيء الذي يُميّزه؟

- ربما كانت حدّة النظر، أو ربما السمع أو ربما كانت الغريزة أو السحر، لك اختيار ما تريده من ذلك. سوف أعلمك الآن بما بإمكانه أن يقوم به : بإمكانك أن تقف هنا أوأن تختفي، وبإمكانك أن تذهب وتختفي في أي مكان تريده،  فهو لا يأبه بالمكان الذي ستكون فيه، ولا بمدى بُعد هذا المكان، لأنه سوف يتوجه على الفور ويُشير إليك بإصبعه.

- لابد أنك لا تقصد ذلك!

- بل أقصده بالفعل. الطقس، لا يعني الطقس شيئاً بالنسبة إليه، العناصر الأساسية، لا تعني له شيئاً أيضاً، فهو لا يُعيرها أي اهتمام.

- ألهذه الدرجة ؟ ألا يتأثر لا بالظلام، ولا بالمطر ولا بالثلج؟

- جميعها سِيان بالنسبة إليه, فهو لا يُعيرها أي اهتمام.

- أعلمني، أهذا أيضاً بالنسبة إلى الضباب؟

- الضباب! لديه عين كالرصاص بإمكانها أن تخترق الضباب.

- والآن أيها الرجال، ما الذي يعنيه كل ذلك؟

 

صرخ الجميع: - إنها الحقيقة.

استمر فارغو:

- حسناً سيدي، بإمكانك أن تتركه هنا وهو يتحاور مع الرجال، وأن تتسلّل إلى أي كوخ في المخيم، وأن تفتح كتاباً. نعم سيدي، حتى دزّينة من الكتب، وأن تفتح أية صفحة فيها وتحتفظ بأرقامها في ذاكرتك، فسوف يتوجّه آرشي إلى ذلك الكوخ مباشرة، وسوف يفتح جميع تلك الكتب وعلى ذات الصفحات ودون أن يخطئ في أي منها.

 

- لابد أنه الشيطان.

- يعتقد أكثر من شخص ذلك... سوف أروي لك الآن أروع ما قام به ليلة أمس...

 

فجأة وصلت إلى الحانة من الخارج همهمة كبيرة من الأصوات.،  ثم فُتح الباب على مصراعيه ودخل جَمع من الأشخاص هم في حالة من الاضطراب الشديد تتقدمهم المرأة البيضاء الوحيدة في المخيم.  وكانت تصرخ:

- طفلتي ! طفلتي ! ضاعت طفلتي، رحلت طفلتي!  بحقّ الله , ساعدوني في العثور على آرشي ستيلمان، بحثنا عنه في كل مكان ولم نجده.

 

وقال صاحب الحانة:

- اجلسي، اجلسي سيدة هوغان، لا تقلقي. كان آرشي منذ ثلاث ساعات  قد طلب مني غرفة. كان يشعر بالإرهاق من تتبعه الآثار كما يفعل على الدوام، ثم صعد إلى الأعلى.

-هام ساندويتش،  اصعد إلى الأعلى وقمّ بإيقاظه. هو في الغرفة رقم  (14).

 

كان الفتى في الأسفل خلال دقائق وعلى أتم الاستعداد. سأل السيدة هوغان عن أية تفاصيل لديها.

قالت السيدة هوغان:

- ليباركك الله عزيزي، ليست لدي أية تفاصيل. كنت أتمنى لو كان لدي أية تفاصيل. كل ما في الأمر أنني كنت قد وضعتها في سريرها في الساعة السابعة مساء، وعندما عدت منذ ساعة لكي أنام أنا أيضاً لم أجدها هناك. ركضت إلى كوخك لكنك لم تكن هناك. وأنا منذ ذلك الوقت أبحث عنك في جميع الأكواخ وفي الوادي. ثم جئت إلى هنا. أنا الآن الإنسانة الأكثر ضياعاً وفزعاً  في هذا العالم . أنا الإنسانة المحطمة الفؤاد، ولكن شكراً لله، ها قد وجدتك أخيراً، سوف تجدها يا ولدي  تعال، تعال بسرعة !

 

- سيدتي,  لننطلق في الحال، أنا معك, لنذهب أولاً إلى بيتك.

 

هبّ جميع الموجودين للبحث معهما. مائة من الرجال الأقوياء، كما كان بانتظارهم في الخارج حشد غير معروف ممن يحملون المصابيح المتلألئة. ثم كان الحشد بعد ذلك قد انقسم إلى ثلاث أو أربع مجموعات لكي تتسع لهم الطريق الضيقة، ثم كانوا قد انطلقوا بسرعة خلف قياداتهم وعلى طول خط الجنوب., وكانوا خلال دقائق، قد وصلوا إلى كوخ هوغان.

 

حيث قالت السيدة هوغان:

- هذا هو سريرها، كانت هنا، كنت قد وضعتها هنا في الساعة السابعة مساء، لكن الله وحده هو الذي يعلم أين هي الآن.

 

ثم قال آرشي:

- ناولوني مصباحاً. وبغد أن وضع المصباح على الأرضية القاسية، ركع بجانبه وكأنه يتفحّص الأرضية عن قرب.، تلمّس الأرضية بأصابعه هنا وهناك وإلى أبعد من ذلك ثم قال:

- هذا هو أثرها، هل ترون ذلك؟ .

 

ركع بعض الرجال إلى جانبه وبذلوا كل ما بإمكانهم  لمشاهدة  ذلك الأثر. وكان واحد أو اثنان منهم قد اعتقد بأنهم استطاع تمييز ما يشبه الأثر لقدم، بينما هزّ الآخرون رؤوسهم وأقرّوا بأن نظرهم ليس بالحدّة التي تُمكنهم من أن يلحظوا أية آثار للأقدام على الأرضية القاسية المَلسة.

 

وقال أحدهم:

- قد تترك قدم طفل أثرها على الأرضية لكنني لا أفهم كيف يكون ذلك.

 

خرج ستيلمان بعد ذلك، وجّه المصباح نحو الأرض، ثم استدار إلى جهة الشمال، وبعد أن خطى ثلاث خطوات، وهو يتفحص المكان عن قرب قال:

- تمكنت من تحديد الاتجاه،  تعالي معي سيدة هوغان وليُمسك أحدكم بالمصباح.

 

ثم بدأ يمشي  بسرعة إلى جهة الجنوب وتبعه الرتل. كان يميل وينحني إلى الداخل وإلى الخارج باتجاه المُنعطفات العميقة للممر الضيق، إلى أن قطع مسافة تقارب الميل، وكان بذلك قد وصل إلى بداية الممر، حينئذ طلب منهم التوقف وقال:

- لا يجوز أن نبدأ السير في الطريق الخطأ، علينا أن نبحث عن الاتجاه من جديد.

 

ثم تناول أحد المصابيح وبدأ بتفحص الأرضية على مسافة تُقارب العشرين ياردة وقال:

- تعالوا. لا بأس.

 

ثم أعاد المصباح إليهم من جديد ومشى باتجاه اليمين لمسافة تُقارب الربع ميل داخل وخارج الغابة. ثم عاد وتوجه إلى اتجاه جديد وبعد أن قام بنصف دورة أخرى، كان قد غيّر اتجاهه للمرّة الثانية وتوجّه نحو الشرق لمسافة ربع ميل ثم توقف وقال:

- هذا هو المكان الذي استسلمت فيه الصغيرة المسكينة لشدة التعب.، أمسكوا بالمصباح.ها أنتم ترون المكان الذي جلست فيه.

 

لكن الأثر الذي أشار إليه كان في مكان مَلس كأنه مَطلي بالفولاذ، لذا كان من العسير على أي شخص في المجموعة أن يقول بأنه شاهد بعينيه مثل ذلك الأثر. حينئذ كانت الأم قد سقطت على ركبتيها وبدأت تُقبّل تلك النقطة وتتأوه.

 

قال أحدهم:

- ولكن أين هي؟  لم تمكث هنا ,بإمكاننا أن نتبيّن ذلك على كل حال.

 

دار ستيلمان حول المكان  وبيده المصباح وكأنه يتتبع الآثار.

ثم قال بلهجة تنم عن الضيق:

-حسناً، لست أفهم ذلك. ثم تفحص المكان من جديد وقال:

- لا فائدة، كانت هنا ـ هذا مؤكد، لم تبتعد عن هنا أبداً، هذا مؤكد، هذا لغز. ليس بإمكاني بعد أن أجد له الحلّ.

 

كان قلب الأم حينذاك قد انفطر وقالت:

-  ياإلهي،  لابد أن أحد الوحوش الكاسرة قد أمسك بها، ولن أراها ثانية بعد الآن!..

 

قال آرشي:

- لا تيأسي سيتي فسوف نجدها، لا تيأسي!

 

تناولت يده وقبلتها وقالت:

- ليباركك الله على هذه الكلمات المطمئنة.

 

همس بيترسون القادم الجديد في أذن فيرغسون بسخرية:

- هذا إنجاز رائع سوف يمكنّا من معرفة المكان أليس كذلك؟ لا يستحق الأمر المجيء إلى كل هذه المسافة البعيدة، رغم أن أي افتراض لمكان آخر سوف يؤدي إلى ذات النتيجة ؟

 

لم يشعر فيرغسون بالسرور لدى سماعه ذلك الكلام المُبطّن  وقال بشيء من الحدّة:

- هل تريد أن تُلمّح إلى أن الطفلة لم تكن قد مرّت من هنا ؟ أؤكد لك بأن الطفلة كانت هنا! لو أردت أن تعرّض نفسك لشجار صغير مثل...

حينئذ قال ستيلمان:

- لا بأس  تعالوا جميعاً وانظروا إلى هذا!  كان أمام أعيننا طوال الوقت ولم نكن قد التفتنا إلى ذلك.

اندفع الجميع بسرعة إلى المكان الذي يُفترض أن تكون الطفلة قد ارتاحت فيه. حاول الكثيرون منهم أن يشاهدوا الشيء الذي كان آرشي يُشير إليه بعينيه. ثم سادت فترة صمت،  وصدرت عنهم عدة تنهدات مكتومة تنم عن خيبة الأمل. وقال هام ساندويتش وبات ريلي معاً:

- ما هذا آرشي؟ لا يوجد أي شيء هنا.

- لاشيء؟  هل تُسمّي هذا لا شيء؟ ، ثم حدّد  بإصبعه شكلاً على الأرض  وقال:

- هنا ألم تتعرفون عليه ؟ هذه آثار قدمي إنجين بيلي , هو الشخص الذي أخذ الطفلة.

 

قالت الأم: - الحمد لله.

وقال آرشي: - أبعدوا المصباح واتبعوني فقد عرفت الاتجاه!.

ثم بدأ يركض وهو يبحث بين نباتات الميرمُية وعلى مسافة ثلاثمائة ياردة، إلى أن اختفى فوق أمواج الرمال بينما كان الآخرون يحاولون اللحاق به . ثم عثروا عليه أخيراً ووجدوه بانتظارهم على بعد عشر خطوات في كوخ صغير مُعتم عديم الشكل، مصنوع من الأسمال البالية ومن جلود الخيول القديمة.

 

قال الفتى:

- تقدمي سيدة هوغان، فمن حقك أن تكوني أول من يدخل.

ركض الجميع وراءها، وشاهدوا معها ذلك المشهد المؤثر الذي كان أمامهم. كان إنجين جالساً على الأرض وكانت الطفلة نائمة بجانبه. حضنتها الأم بعناق عاصف وحضنت كذلك آرشي ستيلمان، دموع الامتنان تسيل على وجهها، وبدأت تغمرها بصوت مخنوق مُنكسر بذلك السيل الغني من كلمات المحبة التي لا مثيل لها سوى في قلب ايرلندي...

 

علّل بيلي الأمر بالقول:

- وجدتها في الساعة العاشرة تقريباً، كانت نائمة في الخارج، متعبة جداً وكان وجهها مُبللاً بالدموع., وكنت قد أحضرتها إلى هنا. كانت جائعة جداً وبذلك أطعمتها، ثم نامت على الفور".

 

ثم كانت تلك الأم بذلك الفيض من الشعور بالامتنان، قد أخذت تعانقه ثم تعود وتتركه من جديد لكي تعود لعناقه، وهي تطلق عليه اسم "ملاك الله في هيئة تنكريّة".

 

ثم توجه موكب الحشد من جديد إلى القرية في الساعة الواحدة صباحاً. كان الجميع يُنشدون ويلوّحون بالمصابيح ويتناولون المشروبات التي كانوا قد حملوها معهم طوال مسيرتهم, إلى أن تمركزوا في الحانة. وكانت تلك الليلة بذلك من الليالي التي استمرت حتى الصباح.

 

 

6

 

وبعد ظهر اليوم التالي ,كانت القرية بأكملها قد اهتاجت بنبأ مثير. وصل إلى الفندق  شخص غريب وقور وجليل، ذو مشية مُميّزة وشكل مُميّز، ودوّن الاسم الرائع التالي في سجل الحانة:

 

شيرلوك هولمز

دوّى النبأ من كوخ لآخر ومن صاحب دعوى لصاحب دعوى. كان كل من في القرية قد ألقوا ما بأيديهم من أدوات واندفعوا نحو مركز الاهتمام. ثم نادى أحد الرجال "بات ريلي" وهو الشخص الذي كان ادعائه يلي ادعاء فلينت بوكنر.

 

أما فيتلوك جونس فكان يبدو في ذلك الوقت وكأنه أصيب بمرض مفاجئ حيث  تمتم لنفسه:

- العم شيرلوك! يا لسوء الحظ! وأن يصل في الوقت الذي...ثم استغرق في أحلامه وحدث نفسه:

- ولكن ما فائدة شعوري بالخوف من وجوده ؟ أي شخص قد يعرفه كما أعرفه أنا، يعلم بأن ليس بإمكانه أن يكتشف الجريمة ما لم يكن قد خطط  لكل شيء مُسبقاً،  وبأن يكون قد وضع لها الدلائل ثم قام  بتكليف أحد الأشخاص بارتكابها وفق تعليماته!... ولكن لن تكون لديه هذه المرة أية دلائل., وبذلك فما هو الاستعراض الذي سوف يحصل عليه؟  لاشيء على الإطلاق!. لا سيدي! أصبح كل شيء جاهزاً الآن... ولو كنت سأجازف بتأجيله...لا، لا, لن أعرّض نفسي لمثل هذه المجازفة، وسوف يخرج فلينت بوكنر من هذا العالم  وبالتأكيد هذه الليلة.

 

ثم تبيّن له بأن هناك مشكلة أخرى وحدّث نفسه:

- سوف يرغب العم هولمز بالتحدث معي هذه الليلة عن بعض الأمور العائلية،  ولكن كيف سأتمكن من التخلّص منه ؟ علي أن أتواجد في حجرتي قبل دقيقة أو دقيقتين من الساعة الثامنة. كان ذلك من الأمور المُربكة التي تطلّبت منه للتفكير ملياً.

 

لكنه كان مع ذلك قد وجد الطريقة لتجاوز تلك العقبة وقال:

- حسناً، سوف نذهب في نزهة، سأتركه في الطريق لدقيقة، وبذلك لن يشاهد ما سأفعله. وعلى كافة الأحوال، الطريقة الأفضل لإبعاد التحرّي عن طريقك، هي بأن يكون ذلك التحرّي برفقتك عندما تستعد لتنفيذ الأمر. نعم، هذه هي الطريقة الأسلم. سوف أصطحبه معي...

كان الطريق المقابل للحانة في ذلك الوقت قد ازدحم بالقرويين الذين كانوا ينتظرون ويأملون إلقاء نظرة على ذلك الرجل العظيم. لكنه لم يكن قد ظهر للعيان، وبذلك لم يحالف الحظ أي منهم ما عدا فيرغسون وجاك باركر الحداد وهام ساندويتش الذين كانوا من المعجبين جداً بذلك الرجل التحرّي العلمي العظيم, والذين كانوا لشدة حماسهم قد قاموا باستئجار غرفة المستودع في الحانة وهي الغرفة التي تُطل على غرفة التحرّي عبر الممر وهي باتساع عشرة أو اثنا عشر قدماً فقط , ثم كَمِنوا فيها وقاموا بشقّ بعض الفتحات في ستائر النوافذ.

 

كان السيد هولمز قد أرخى الستائر، لكنه كان يرفعها من حين لآخر، وهذا ما جعل شعر رأس أولائك الجواسيس يرتفع، إلا أن ذلك كان بذات الوقت قد منحهم رعشة ممتعة، وهم يجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام ذلك الرجل الخارق، الذي انتشرت شهرة أعماله الأكثر من بشرية في جميع أنحاء العالم... كان جالساً هناك إنسان حيّ وليس أسطورة، ولا ظلّ إنسان، تركيبة حقيقية من المواد ، وبأن يكون هكذا على مسافة قريبة من لمسة أيديهم...

 

قال فيرغسون بصوت تملأه الرهبة:

- بالله عليك أهذا رأس؟

 

قال الحداد  بجدّية:

- رجل ألمعي أليس كذلك! انظر إلى هذا الأنف! انظر إلى هاتين العينين!  ذكاء مُتوقّد؟ يبدو وكأن بداخله بطارية!

 

وقال هام ساندويتش:

- وهذا الشحوب الذي لابد وأنه ناجم عن التفكير. نعم، هذا ما نجم عنه ! يا للجحيم؟ الأغبياء مثلنا لا يعرفون ماهو التفكير.

قال فيرغسون:

- ليسسيدي،عرفه نحن، فما نعتبره نحن من التفكير ليس سوى عبارة عن بدانة واسترخاء.

- أنت على حق، انظر إلى تقطيبة الجبين تلك، هذه دلالة على عمق التفكير، التفكير العميق، التفكير الذي يثبر أغوار الذهن، لابد أنه يقوم بتعقب أحد الأمور.

- تماماً، هذا ما يقوم به بالفعل. لا تنس ذلك. انظر إلى هذا الوقار المخيف، انظر إلى هذا الشحوب المَهيب الذي لا تُشبهه أية جثة.

- لا سيدي ، ليس هذا بسبب الدولارات! وليس أيضاً بموجب قوانين الوراثة. كان قد مات سابقاً أربع مرات، وله تاريخ في ذلك. كان موته ثلاث مرات لأسباب طبيعة، وكان قد مات مرة أخرى نتيجة حادثة. نُمي إليّ أنه كان خامداً وبارداً كالقبر وبأنه...

- اصمت! ارقبه! يقوم الآن بوضع إبهامه على نتوء بجانب زاوية جبينه  وبوضع سبابته على الطرف الخلفي. لابد أن ذهنه يعمل بجهدّ، أتراهن على قميصك الثاني؟

- اتفقنا. هو يُحدّق الآن نحو السماء، ويُمرّّّر أصابعه على شاربه ببطء  و...

- نهض الآن ووقف، وهو الآن يستجمع أفكاره معاً، ويُحصي الدلائل على أصابعه اليسرى بإصبعه اليمنى.انظر إليه هو الآن يلمس سبابته، هو الآن يلمس إصبعه الأوسط،  والآن بنصره...

- انظر إليه, إنه يعبس الآن، يبدو وكأنه لم يتمكن من استخراج تلك الفكرة من ذهنه وبذلك هو...

- انظر إليه هو يبتسم الآن أشبه بنمر...هو الآن يُطبق على الأصابع الأخرى! ها قد حصل عليها (الفكرة) أيها الرفاق.  حصل عليها بالتأكيد!...

- تماماً، أستطيع أن أقول بأنني أكره أن أكون مكان الرجل الذي يُلاحقه.

 

ثم سحب السيد هولمز طاولة إلى جانب النافذة، وجلس وظهره إلى الجواسيس واستمر بالكتابة. حينئذ  أدار الجواسيس أعينهم عن الشقوق وأشعلوا الغلايين واستعدوا لتبادل الأحاديث  وللتدخين بهدوء.

 

قال فيرغسون باقتناع:

- أيها الرفاق, هذا الرجل أعجوبة، إنه معجزة، وتبدو عليه كل العلامات التي تُشير إلى ذلك.

 

وقال جاك باركر:

- لم تقل يوماً كلمة أكثر صِحّة من هذه، ويلس فارغو، لو أنه كان هنا يوم أمس، لكان ذلك ضرباً من الجنون.

 

قال فيرغسون:

- كنا سنشاهد عملاً علمياً ثقافياً، عمل علمي مَحض، وفوق مستويات الدون كيشوتية. آرشي بالطبع جيّد، ولا يحق لأي شخص أن يُقلّل من قدره، أستطيع أن أقول لك ذلك. لكن موهبته تَكمُن في نظرته الثاقبة التي تُشبه البوم , كما بإمكاني أن أصفها. هي موهبة كبيرة ذات طبيعة حيوانية، لا أكثر ولا أقلّ... وهي موهبة جيّدة، لكنها ليست من الذكاء. أما من ناحية الروعة فإن ما يفعله لايمكن أن يُقارن بما يفعله هذا الرجل . دعني أقول لك بما كان سيفعله:

 

- سوف يتوجه نحو منزل هوغان ويُلقي عليه نظرة إلى المباني،  نظرة فقط هذا كل شيء وهذا يكفي وسوف يرى كل شيء؟  نعم سيدي، سوف يرى أدقّ التفاصيل، وسيقوم بإعلامنا عن ذلك المكان بتفاصيل أكثر مما كان بإمكان السيدة هوغان أن تعرفه خلال سبع سنوات. وكان سيجلس بعد ذلك  بكل هدوء على السرير، ويقول للسيدة هوغان:

 

- سوف أوجّه إليك بعض الأسئلة وعليك أن تجيبيني عليها.

- حسناً، فلتبدأ.

- من فضلك سيدتي ـ انتبهي! ولا تدعي أفكارك تتشتت،  والآن ما هو جنس الطفل؟

- أنثى سيدي.

- هم... أنثى. جيّد جداً،  جيّد جداً، والسن؟

- بدأت بالسادسة سيدي.

- هم... صغيرة، ضعيفة... ميلان (3,5كم)، سوف تنهار بالطبع  وبذلك سوف تستغرق بالنوم. سوف نبحث عنها على بعد ميلين أو أقل. وما هو عدد الأسنان؟

- خمسة، سيدي، والسادس قيد النمو.

- جيّد جداً، جيّد جداً، جّيد جداً بالفعل. أترين؟ يعرف الصبية عادة الطريق عندما يشاهدونه، بينما قد لا يعني ذلك شيئاً بالنسبة إلى أي شخص آخر. الجوارب والحذاء  سيدتي؟

- نعم سيدي , الاثنين.

- من الغزل أو ربما من الجلد المراكشي الفاخر؟

- من الغزل والجلد، سيدي.

- هم... من الجلد, هذا يُعقد الأمور، ومع ذلك لندع هذا جانباً ـ فسوف نتدبر الأمر. الديانة ؟

- كاثوليكية، سيدي.

- جيّد جداً، أعطني من فضلك قُصاصة من ملاءة السرير. شكراً. جزء مجدول من الصوف ـ مصنوع في الخارج.  جيّد جداً، أعطني أيضا قُصاصة من ملابس الطفلة. شكراً  لك. من القطن، هذا دليل ممتاز، ممتاز... لو سمحت، أعطني بعض القش من أوساخ الأرضية. شكراً،  شكراً جزيلاً، هذا رائع، رائع!

 

- أيها الرجال! بإمكاننا الآن أن نُحدد موقعنا. أعتقد بأننا نكون بذلك قد حصلنا على جميع الدلائل التي نحتاج إليها. ولم نعد في حاجة إلى أي شيء آخر...

والآن، ما الذي سيفعله ذلك الرجل الاستثنائي؟ سوف يضع تلك القصاصات والأوساخ على الطاولة وسوف يضع مرفقيه عليها ث وينحني عليها لكي يفرزها. وسيضع كل منها بجانب الأخرى، لكي يدرسها.

وسوف يُتمتم لنفسه: " أنثى". سوف يقوم بتغيير أمكنتها مرّة أخرى، ويُتمتم " في السادسة من العمر"، ثم يقوم بتغيير أمكنتها من جديد ويتمتم "خمسة أسنان وسنّ أخرى قيد النمو"، كاثوليكية، صوف، قطن، جلد - اللعنة على هذا الجلد. ثم يشدّ قامته وينظر نحو السماء، وهو يُمرّر أصابعه في شعره, ويعود ويمرّرها ويمرّرها وهو يتمتم "اللعنة على ذلك الجلد". ثم سيقف ويقطب جبينه  ويبدأ بتعداد الأدلّة على أصابع يده. سوف يتردد عندما يصل إلى البنصر، ولكن ذلك لدقيقة فقط، ثم يُشرق وجهه بالكامل بابتسامة أشبه بشعلة, وبعد أن يشّد قامته ثانية بشكل مَهيب سوف يقول للحشد:

-  فليأخذ مجموعة منكم المصباح، ولننطلق إلى إنغوين بيلي لنبحث عن الطفلة، وليذهب الباقون إلى أسرّتهم، "عِمتم مساء أيها السادة" ., ثم ينحني وكأن الأمر قد أنجز وينسحب لكي يذهب إلى الحانة. هذا هو أسلوبه، وهذا هو الأسلوب الوحيد العلمي والدقيق. وسوف يكون بذلك قد أنهى كل شيء خلال خمسة عشر دقيقة. ولا حاجة لأن يتفحّص الأمكنة بواسطة فرشاة ناعمة لمدة ساعة ونصف، أو لأن يرافقه حشد من الناس. أيها الرفاق, هل تُصغون إلي, أيها الرفاق؟

قال هام ساندويتش:

- هذا شيء عظيم، جعلت منه رجلاً لا نظير له على الإطلاق، جعلته رجلاً لايمكن حتى للكتب أن تصفه. كأن بإمكاني الآن أن أراه يفعل ذلك. ألا تستطيعون ذلك، أيها الرفاق؟

- أتراهن على ذلك؟ هذه مجرد صورة عنه وهذا هو الواقع.

 

شعر فيرغسون بالسرور العميق وبالامتنان لنجاحه. جلس لفترة بصمت وهو يتمتع بسعادته، ثم همس بصوت تملأه الرهبة:

 

- أتساءل فيما إذا كان هذا الرجل من مخلوقات الله؟

 

وللحظة، لم يُجبه أحد، ثم قال هام ساندويتش بجديّة:

- أظن أن ذلك لا يحدث دوماً.

 

 

 

7

 

وفي الساعة الثامنة من مساء تلك الليلة، كان شخصان يتلمّسان طريقهما في الظلام  إلى أبعد من كوخ فلينت بوكنر. كانا شيرلوك هولمز العم وابن شقيقه فيتلوك.

 

قال فيتلوك:

- عمي، توقف قليلاً في الطريق، ريثما أذهب إلى حجرتي, ولن أتأخر أكثر من دقيقة.

 

ثم طلب منه شيئاً ـ وأعطاه عمه ما طلبه ـ ثم اختفى في الظلام. وكان قد عاد بسرعة.

 

كانت نزهة المحادثة قد انتهت في الساعة التاسعة مساءً وبذلك عادا معاً إلى الحانة. شقا طريقهما إلى غرفة البيلياردو حيث كان حشد من الناس قد تجمّعوا، بأمل إلقاء نظرة على ذلك الرجل الاستثنائي. ارتفعت الهتافات له بتحيّة ملكية، وعبّر السيد هولمز عن شكره  بسلسلة من انحناءات المجاملة، وبينما كان في طريقه للخروج  قال ابن شقيقه  للحشد:

 

- أيها السادة، لدى عمي هولمز بعض الأعمال التي ستشغله حتى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة، لكنه سيعود من جديد، وقد يعود في وقت أبكر لو تمكن من ذلك. وهو يأمل في أن يتمكن بعضكم من تناول المشروب برفقته.

 

صاح فيرغسون:

- بحق الله، أليس هذا الرجل دوقاً أيها الرفاق؟ ثلاثة هتافات لأجل شيرلوك هولمز، أعظم رجل خُلق في هذا العالم!

 

علت الهتافات وهزّت المبنى: "هورا.. هورار.. هورا..  النمر! " كانت تلك الهتافات تصدر من صميم قلوبهم وبصوت أعلى فأعلى.

 

كان العم وهم في الأعلى قد أنّب ابن شقيقه بلطف بأن قال:

- حسناً، لم ربطتني بهذا الموعد؟

-عمي ! لا أعتقد بأنك لا تودّ أن تكون لك أية شعبية. ألست ترغب بذلك بالفعل ؟ حسناً، إن كنت لا تالتقدير،كون لك مثل هذا التقدير ، فسوف يكون هذا لكي يكون لك على الأقلّ بعض التميّز في مخيم التنقيب ؟ هذا كل شيء. الرجال معجبون بك, ولو كنت ستغادر دون أن تتناول الشراب معهم فسوف يعتبرونك متكبّراً، كما أنك بالإضافة إلى ذلك , كنت قد أعلمتني بأن لديك من الأحاديث ما سوف يجعلنا نبقى مستيقظين حتى منتصف الليل.

 

كان الفتى بذلك على حق, وكان العمّ قد أقرّ بذلك. كما أن الفتى كان حكيماً في أمر آخر لم يكن قد يشير إليه ـ سوى إلى نفسه حيث قال:

- سوف أستفيد من عمي ومن الآخرين بأسلوب وضع المسمار في المكان الذي يمكن أن يُستفاد منه، وهو ما يعني وما يدّل على " وجود المتهم في مكان آخر وقت وقوع الجريمة "

ثم تحدثا هو وعمه لمدة ثلاث ساعات ودون توقف. وكان فيتلوك قد غاأغنيات ونوادرذلك في حوالي منتصف الليل، ووقف ينتظر في الظلمة وعلى بعد اثنتي عشرة خطوة منها.

وبعد خمس دقائق كان فلينت بوكنر قد خرج من الحانة وهو يتأرجح في مشيته، حتى أنه كاد يلامس فيتلوك وهو يمر بجانبه. تمتم الفتى حينئذ:

"ها قد هزمته! واستمر في التحدث مع نفسه بالقول :

- وداعاً فلينت بوكنر وداعاً، وإلى الأبد ... كنت قد شتمت والدتي لا بأس، لا بأس، ها أنت الآن يا صديقي تمشي للمرة الأخيرة.

 

ثم عاد إلى الحانة وهو مستغرق في تفكيره:

لاتزال لدي ساعة من الآن حتى الساعة الواحدة، سوف أمضيها مع الرجال، فهذا جيّد بالنسبة لتبرير مكان تواجدي.

 

ثم رافق عمه شيرلوك هولمز إلى غرفة البيلياردو، التي كانت مزدحمة بعمال المناجم المُتلهفين للقائه وبالمعجبين به, وبعد أن أطلّ الضيف,. كان قد تم توزيع المشروبات على الجميع ثم بدأ اللهو. كان الجميع سعداء وكان الجميع مُجاملين. ذاب الثلج بسرعة، أغنيات  ونوادر، ثم المزيد من المشروبات. وهكذا مرّت تلك الدقائق الحافلة.  ثم... وقبل ست دقائق من الواحدة، وبينما كان المرح في ذروته ـ بوووم ! (سُمع صوت انفجار).

 

ساد الصمت على الفور. في الوقت الذي كان فيه ذلك الصوت القوي لايزال يهدر ويقعقع في المضيق من قمة إلى قمة إلى خمد نهائياً...

وبعد أن انقضت فترة الذهول، كان الجميع قد ركضوا إلى الباب وهم يرددون:

- انفجار! انفجار! لابد أن شيئاً ما قد انفجر.

 

ثم سُمع من خارج الخانة ,صوت في الظلام يقول:

- حدث الانفجار في المضيق بعيداً عن هنا, كنت قد شاهدت الوميض عن بعد.

 

اندفع الجميع معاً إلى الوادي: هولمز، فيتلوك، آرشي ستيلمان والجميع, وكانوا قد قطعوا مسافة الميل خلال بضع دقائق. وهناك,  وعلى ضوء المصباح، وجدوا بأنه لم يكن قد تبقى من الأرضية المَلسة المتينة القذرة لكوخ فلينت بوكنر أي شيء، ولا حتى  ذرّة واحدة... ولا حتى قطعة قماش صغيرة... ولا حتى كِسرة واحدة... ولا حتى أي أثر لفلينت. بحث الجميع هنا وهناك  وإلى مسافة أبعد  ثم صرخ أحدهم:

- ها هو!

 

كان ذلك صحيحاً. كانوا قد عثروا عليه على بعد خمسين متراً وفي أسفل الوادي ولكن ما عثروا عليه كان عبارة عن كتلة مُمزقة لا حياة فيها تُمثل فلينت بوكنر. وكان فيتلوك جونز أيضاً قد أسرع  إلى هناك برفقة الآخرين ونظر إليه....

 

وكان التحقيق بعد ذلك عبارة عن قضية لم تستغرق سوى خمس عشرة دقيقة. قام هام ساندويتش كبير المحلفين بتقديم المطالعة القانونية التي كان قد ألقاها بأسلوب أدبي لبق، ثم اختتمت الجلسة بحكم المحلفين الذي كان:

 

" حدثت الوفاة بفعل المتوفى أو بفعل شخص آخر، أو بفعل بعض الأشخاص الذين لم تتمكن هيئة المحلفين من معرفتهم، لأنهم  لم يتركوا خلفهم أية قرائن سوى ذلك الكوخ الذي انفجر بكامله، وليرحم الله روحه. آمين".

 

ثم انضمت هيئة المحلفين النافذة الصبر بعد ذلك إلى الحشد ذلك لأن مركز الاهتمام شيرلوك هولمز كان متواجداً هناك.

 

وفي الوقت الذي تجمع فيه العاملون في المنجم بصمت ووقار على شكل نصف دائرة تُطوّق المساحة الفارغة التي كانت الواجهة الأمامية لمكان المبنى السابق الوجود., كان الرجل الاستثنائي يتجوّل في تلك الساحة، يساعده في ذلك ابن شقيقه الذي رافقه وهو يحمل المصباح. أخذ الرجل الاستثنائي مقياس موقع الكوخ بواسطة شريط.,  ثم قاس ارتفاع حواف المسافة ما بين جدار المضيق والطريق, ثم علو المضيق وغير ذلك من مختلف المقاييس. - سوف قطعة قماش من هنا، وشظية من هناك, وجمع حفنة تراب من هنا ثم من هناك ثم من مكان أبعد واحتفظ بها بعد أن تفحّصها بإمعان. ثم أخذ موقع المكان بواسطة الفرجار، وسجّل الوقت بحسب ساعته بعد أن قام بتعييرها حسب التوقيت المحلي., وحسب سرعة السير بين الكوخ والجثة وقام بتصحيحها بالاستناد لاختلاف المدّ والجزر. كما دوّن وضع الجثة بواسطة البارومتر، وسجّل الحرارة بواسطة مقياس الحرارة(الترمومتر). وقال أخيراً وهو ينحني بوقار:

 

- ها قد انتهينا. ألن نعود أيها السادة ؟

 

ثم توجّه نحو الحانة بينما بقي الحشد بجانب جثة الميت، وهم يتحاورون باهتمام، ويُبدون إعجابهم  بذلك الرجل الاستثنائي، ويوردون مختلف التخمينات حول مصدر المأساة  وحول من قد يكون الفاعل.

 

قال فيرغسون:

- أيها الرفاق، أليس من حسن الحظ أن يكون هذا الرجل هنا؟

 

وقال الحداد  جاك باركر:

-  سوف يُدوّي هذا الحدث في كل المخيم أليس كذلك فارغو؟

قال فارغو:

- حسناً، بما أنك تسألني عن رأيي، ولو كان هناك ما يشير إلى كيفية رؤيتي للحادث، فبإمكاني أن أقول لك هذا:  كنت يوم أمس أطلب بالقدم الواحدة من الأرض دولارين، وأنا أتساءل الآن فيما إذا كان بإمكان أي رجل أن يحصل عليها اليوم بستة عشر دولاراً.

- أنت على حق فارغو، هذه أكبر ضربة حظ بالنسبة لموقع تنقيب جديد.

ثم قال:

- أرأيت كيف كان يجمع النفايات والقصاصات ومختلف الأشياء؟ ما هذه القوة في الملاحظة؟ لا يمكن أن يتغاضى عن أية دلائل.

- الأمر بالفعل كذلك. قد لا تعني تلك الأشياء شيئاً بالنسبة لأي شخص آخر. هناك كتاب حول مثل هذه الدلائل, وهو مؤلف ضخم جداً.

- هذا مؤكّد، فتلك النثريات لها سرّها الصغير القديم ، وهم يعتقدون بأنه ليس بإمكان أي شخص آخر أن يستخلصه منها. ولكن لا تنسوا أيها الرفاق بأنه عندما سوف يستحوذ عليها ، فما على الآخرين إلاّ أن يصرخوا!...

- أيها الرفاق، أنا لست آسفاً في الوقت الحاضر لأنه لم يكن هنا لكي يعثر على تلك الطفلة. فهذا الأمر بنظري أكثر بعداً وهو أكثر أهمية. نعم سيدي، وهو أيضاً أكثر تعقيداً  فهو أمر علمي ويحتاج إلى ذكاء.

- أظن بأننا جميعاً قد سررنا لأن الأمور تمت بهذا الشكل. سررنا ؟ يا إلهي، لا يوجد أي تعبير يصف ذلك. بإمكان على دون كيشوت آرشي أن يتعلم منه، هذا لو كان لديه بعض الإدراك، عليه أن يقف بجانبه  ويلاحظ الأسلوب الذي يتّبعه هذا الرجل في عمله. ولكن لا،  فكل ما فعله كان بأن تسكع  داخل المضيق، وبذلك أضاع فرصة الاطلاع على كل ما جرى.

- هذا صحيح، وكأنه الشخص الذي لا يخطئ، شاهدت ذلك بنفسي. حسناً، آرشي لازال شاباً، وسوف يُدرك الأمور بشكل أفضل ذات يوم.

- والآن أيها الرفاق،  برأيكم من هو الشخص الذي قام بذلك؟

 

كان ذلك هو السؤال الذي تصعب الإجابة عليه، وكانت قد نجمت عنه العديد من التخمينات غير المُرضية. تم استعراض أسماء العديد من الرجال الذين يُحتمل أن يكونوا قد فعلوا ذلك., ثم تم استبعادهم الواحد تلو الآخر لعدم أهليتهم للقيام بذلك.,  فلم يكن من بينهم من هو على علاقة وثيقة  بفلينت بوكنر سوى ذلك الشاب هيلير. كما لم يسبق أن تشاجر مع فلينت أحد فعلياً، فهو من كان يتحدّى كل من كان يحاول ذلك، حتى لو لم تسئ إليه إلى الدرجة التي تتطلب إراقة الدماء. لكن الحقيقة أن اسماً واحداً كان على طرف لسان كل منهم، لكنه كان آخر اسم تم النطق به  وهو اسم " فيتلوك جونس"  وكان بات ريلي هو الشخص الذي أورد اسمه.

 

قال الرجال :

- أووه، حسناً، هذا ما خطر ببالنا جميعاً بالطبع، فلديه مليون سبب قد يجعله يقتل فلينت بوكنر لأجله، وببساطة لأن من واجبه أن يقوم بذلك، ولكن هناك أمران  ليس بإمكاننا أن نُغفلهما مع ذلك، الأول لأنه ليس لدى فيتلوك أية مواد متفجّرة، والأمر الآخر لأنه لم يكن بالقرب من المكان عندما وقع الحادث.

 

قال بت:

- أعلم هذا، لأن فيتلوك كان معنا في غرفة البيلياردو عندما وقع الحادث.

- نعم، كما كان طوال الوقت هناك  قبل حدوث الانفجار.

- هذا هو الواقع، وهذا أيضاً من حسن حظه لأن الشكوك كانت ستتجه إليه، لو لم يكن الأمر كذلك.

 

 

 

8

 

 

أخليت غرفة الطعام في المفروشات ما عدا كرسي واحد و طاولة بطول ستة أقدام مصنوعة من خشب الصنوبر. كانت الطاولة في نهاية أحد أطراف الغرفة وكان الكرسي عليها. جلس شيرلوك هولمز على ذلك الكرسي بجلال مَهيب ومؤثّر., في الوقت الذي وقف فيه الحشد بالانتظار. كانت الغرفة تعبق بدخان السجائر وقد ساد فيها سكون عميق.

 

رفع الرجل الاستثنائي يده مُطالباً بالمزيد من الصمت. تركها في الهواء للحظات., ثم بدأ يوجّه السؤال تلو الآخر ويدوّن الإجابات وهو يُهمهم  ويهزّ رأسه. وكان بهذه الطريقة قد حصل من جميع الأشخاص على كل ما بإمكانهم أن يُزودونه به من معلومات عن فلينت بوكنر، شخصيته، تصرفه  وعاداته. وهذا ما جعل ذلك الرجل الاستثنائي يعرف بأن ابن أخيه هو الشخص الوحيد في ذلك المنجم الذي لديه الدافع لقتل فلينت بوكنر!

 

ابتسم هولمز بتعاطف للشهود وسأل بفتور:

- هل لدى أي منكم إمكانية تحديد مكان تواجد فيتلوك جونس أثناء وقوع الانفجار؟

تلا ذلك إجابة عاصفة:

- كان في غرفة البيلياردو في الحانة!

- وهل كان قد وصل لتوه إلى هناك ؟

- لا، كانت قد مرّت ساعة على وجوده هناك!

- أي أن هذا كان حوالي..الضحك ممزوجةاً، كم يبعُد ذلك عن موقع الانفجار؟

- حوالي الميل الواحد.

- قد لا يُعتبر مثل هذا الأمر دليلاً كافياً على تواجده بعيداً عن موقع الحادث، هذا صحيح ما لم يكن فيتلوك أشبه بسرعة البرق!..

انفجر الجميع بعاصفة من الضحك  ممزوجة بالهتاف:

- وأنت ساندي، ألست تأسف الآن لما قلته؟ توقف الآن عن الإدلاء بباقي الإفادة.

وكان هذا ما جعل وجه الشاهد يصطبغ  بحمرة الخجل والأسف.

استمر المحقق :

- هذا ما يستبعد إلى حدّ ما تلك الصلة البعيدة للفتى جونس بهذه القضية (ضحك الموجودون)  لذا دعونا الآن نعود إلى أدوات إثبات للمأساة لكي نستمع لما ستشير إليها.

 

ثم أخرج القطع الصغيرة التي كان قد جمعها كأدوات للإثبات، وقام بتنضيدها على ركبتيه فوق قطعة من الكرتون.

 

حبس جميع من في المنزل أنفاسهم  وبدؤوا يرتقبون ما سيحدث. قال هولمز:

- لدينا هنا خطّي الطول والعرض بعد أن تم تصحيحهما,  وهذا ما سيسمح لنا بتحديد الموقع الدقيق للمأساة. كما لدينا خطّ العرض وكذلك درجتي الحرارة والرطوبة التي كانت سائدة وقت وقوع المأساة، وهذا ما سوف يُمكنّنا من التقدير الصحيح لدرجة تأثير ذلك على مزاج وعلى وضع القاتل في ذلك الوقت من الليل.

 

علت موجة من دوي الأصوات التي تعبّرعن الإعجاب، ثم تلا ذلك غمغمة بعبارة:

- ياالله، ما هذا العمق؟ .

أشار هولمز بعد ذلك  إلى أدوات الإثبات التي كانت أمامه وقال:

- والآن، لنترك هذه الدلائل تتحدث إلينا.

- لدينا هنا كيس قطني فارغ من الطلقات، فما الذي يشير إليه ؟ يُشير إلى ما يلي: الهدف من القتل هو السرقة وليس الانتقام. وما الذي يُشير إليه بالإضافة إلى ذلك؟  يُشير إلى أن القاتل ليس على مستوى رفيع من الذكاء،  أو لنقل بأن القاتل هو شخص قليل الفطنة أو ما يشابه ذلك. وكيف أدركنا ذلك؟  ذلك لأن الشخص الذي يتمتع بمحاكمة عقلانية  صحيحة لن يفكر بسرقة بوكنر الذي لم يكن يوماً يمتلك الكثير من المال.  لذا قد يكون القاتل من الغرباء؟  والآن لنترك الأدلّة تتحدث عن نفسها:

 

- سوف أبدأ بهذه الأداة، هذه قطعة من الصّوان، وهو أمر غريب. تفحّصوها من فضلكم ـ أنت ـ وأنت! أعيدوها إلي الآن. يوجد مثل هذا النوع من المعادن على بعد ميلين من هنا على وجه التقريب وبذلك فهذا المعدن برأيي يقع على بعد مسافة يوم من هنا، وهو معدن ذو شهرة عالمية، ولدى المائتي شخص الذين يمتلكونه ثروات تفوق التصور. أعلموني بعرق هذا النوع من المعدن من فضلكم!

 

كانت الإجابة السريعة:

- البيرق المسيحي الموحدّ و ماري آن!

تلا ذلك هتاف عالي، وكان كل رجل منهم قد أمسك بيدّ الرجل الذي بجانبه وأخذ يعتصرها والدموع في عينيه. وهتف ويلس فارغكسون:

- يوجد على المعدن نقش واضح، وهذا النوع من المعدن يقع على بعد مائة وخمسين قدماً من هنا.

 

وعندما ساد الهدوء، تابع السيد هولمز:

وهكذا نكون قد أقمنا ثلاث وقائع جعلتنا نفطن إلى ما يلي:

-  القاتل من النوع القليل الفطنة.

- وبأنه ليس من الغرباء.

- وبأن هدفه كان السرقة وليس الانتقام.

 

ولنتابع الآن. أنا أمسك بيدي قطعة صغيرة من الفتيل المُفرقع الذي لا تزال رائحة الاشتعال الأخير فيه، فما هي الدلالة على ذلك؟ لو جمعنا هذه مع دليل الإثبات المتعلّق  بقطعة معدن كوارتز( الصوان)  فسوف يكون في هذا ما يكشف على أن القاتل من عمال المناجم. وما الذي  يدلّ عليه هذا؟  يدّل على أن عملية القتل تمت بواسطة مواد متفجرة. وما الذي يُشير إليه هذا أيضاً ؟ يُشير إلى أن المادة المتفجرة كانت موضوعة بجانب الكوخ في الجهة الأمامية التي تقع إلى جانب الطريق  وعلى بعد ستة أقدام من المكان الذي وجد فيه بوكنر...

 

- أحمل هنا في يدي عود ثقاب مُحترق من النوع المصنوع في السويد ـ وهو النوع الذي يُشعله المرء من علبة لها صمام أمان - كنت قد عثرت عليه في الطريق، وفي نقطة تقع على بعد ستمائة واثنين وعشرين قدم من الكوخ المدمّر. فما الذي يُشير إليه ؟ هذا يعني بأن إشعال ذيل الفتيل قد تم من تلك النقطة. وما الذي يُشير إليه أيضاً ؟ يُشير إلى أن القاتل كان أشولاً.  وكيف كان بإمكاني أن أعلم بذلك؟  أيها السادة، لن يكون بإمكاني، أن أشرح لكم كيف علمت بذلك، بما أن الدلائل كانت مُضلّلة بحيث يحتاج المرء إلى خبرة طويلة وإلى دراسة عميقة  لكي يتمكن من اكتشافها. ولكن الدلائل هنا، ويُعزّزها الواقع, ولابد أنكم كثيراً ما اطلعتم عليها في القصص البوليسية الرائعة:

"جميع القتلة من ذوي الأيادي الشولاء".

قال هام ساندويتش وهو يضرب بيده على فخذه:

- بحق الله، فإذن هذا هو الأمر! أشعر بالندم لأنني لم أفكر بذلك من قبل.

وصاح العديد من الموجودين:

-ولا أنا، ولا أنا، لا يمكن أن يغفل هذا الأمر عن أي أمر، انظر إلى عينيه !

 

استأنف هولمز حديثه:

- سادتي، على الرغم من أن القاتل كان على مسافة من الضحية المنكوبة، فهو لم يكن أيضاً قد نجا تماماً من الإصابة بأذية., وقد أصابته هذه الكسرة من الخشب التي أعرضها عليكم الآن وجعلته ينزف، وهو يحمل العلامة التي تعتبر الدليل القاطع على ذلك., كنت قد التقطتها من المكان الذي كان يقف فيه عندما قام بإشعال الفتيل.

نظر إلى الموجودين من أعلى المقعد وبدأت ملامحه تكفهر، ثم رفع يده ببطء وأشار قائلاً:

- ها هو القاتل، القاتل يقف هناك!

 

كان كل من في المنزل قد أصيبوا لوهلة بشبه شلل لشدة الدهشة، ثم علت أصوات ما لا يقل عن العشرين منهم بعبارة:

-  سامي هيلير؟ لا، لا, ليس هو؟ هذا جنون مُحقّق.

 

قال هولمز:

- احترسوا أيها السادة ـ لا تتسرعوا، لاحظوا آثار الدم تلك على جبينه.

 

شحب وجه هيلير لشدة الخوف، وكان على وشك الانفجار بالبكاء. تغيّرت ملامحه وبدأ ينقل بصره من وجه لآخر وكأنه يناشد الموجودين التعاطف والعون، ثم مدّ يديه نحو هولمز وبدأ يدافع عن نفسه:
- لا تقل هذا،لا تقل هذا، لم أفعل هذا على الإطلاق، أنا أؤكد لك، لم أفعل ذلك على الإطلاق. والطريقة التي أصبت بها بهذا الجرح على جبيني كانت...

 

صاح هولمز:

- أيها الشرطي، اقبض عليه وسوف أقسم على ذلك أمام الضابط.

تحرك الشرطي إلى الأمام على مضض، ثم تردد وتوقف.

اندفع هيلير ثانية مدافعاً عن نفسه وقال:

- أرجوك آرشي، لا تدعهم يفعلوا هذا بي، سوف يقضي هذا على والدتي! أنت تعلم كيف أصبت بهذا الجرح، أعلمهم بذلك وأنقذني, آرشي أنقذني!

 

كان ستيلمان قد شقّ  حينئذ طريقه إلى الأمام وقال:

- نعم، لا تخف، سوف أنقذك.

 

ثم قال للموجودين:

- لا تلتفتوا إلى ذلك الجرح، فليس لذلك أية علاقة بهذه القضية، وهو ليست نتيجة حتمية له.

- ليباركك الله آرشي ،أنت صديق حقيقي.

 

صاح الموجودون تفاخراً بوجود مثل تلك الموهبة لديهم، وقد تصاعد في قلوبهم فجأة الشعور بالوفاء:

- فليحيا آرشي! هيا أيها الفتى فلتوجّه لكليهما ضربة هدف تُفزعهما بها.

كان في ذلك ما أدى إلى تغيير الموقف بكامله.

 

انتظر ستيلمان إلى أن توقفت تلك الجلبة  ثم قال:

- سوف أطلب من توم جيفرز الوقوف بجانب ذلك الباب هناك،  ومن كونيتابل هاريس الوقوف بجانب الباب الآخر لكي لا يسمحا لأحد بمغادرة الغرفة.

 

قال الجميع:

- ليكن ما طلبت، استمر أيها الرجل!

ثم قال:

- أعتقد أن المجرم هنا ولن أتأخر في تسميته لكم، هذا لو كانت توقعاتي صحيحة. سوف أطلعكم الآن على كل ما يتعلق بهذه المأساة من بدايتها إلى نهايتها:

- لم يكن القصد من القتل السرقة وإنما كان الانتقام. ولم يكن المجرم قليل الفطنة، كما لم يكن يقف على بعد ستمائة واثني وعشرين قدم. كما لم يكن قد أصيب بقطعة خشبية، ولم يكن قد وضع المتفجرات المصباح بواسطة ولم يكن قد جلب معه أية طلقات نارية، كما لم يكن أشولاً وباستثناء هذه الأخطاء في التقدير فإن ما بيّنه الضيف الموقر عن القضية هو من الناحية الجوهرية صحيحاً.

 

سَرت بين المتواجدين موجة من الضحك تعبيراً عن غبطتهم. وأومأ الصديق للصديق كما لو أنه يقول: "هذا ما يُسمى بالكلام المُبطن ، هو فتى طيّب  فهو لا يحطّ من مقدار الرجل"!

 

لم يعكر ذلك هدوء مزاج الضيف، وتابع ستيلمان:

- لدي أنا أيضاً بعض الإثباتات، وسوف أعلمكم كيف سيكون بإمكانكم العثور على عدد أكثر من الإثباتات.

 

ثم رفع أمام أنظارهم قطعة من سلك متين. مدّ الرجال أعناقهم لكي يشاهدونه. ثم قال:

 

- يوجد على هذا السلك بعض الطلاء الذائب، كما توجد هنا شمعة احترق نصفها، وتوجد على المتبقي منها بعض آثار القَطع بحوالي الإينتش. وسوف أعلمكم لاحقاً عن المكان الذي وجدت فيه هذه الأشياء. سوف أضع جانباً جميع التخمينات والاستنتاجات والربط الانفعالي بين تلك الدلائل النثرية، وغير ذلك من المظاهر المسرحية المُذوّقة لمهنة التحرّي، وسوف أعلمكم بأسلوب مُبسّط  ومباشر كيف جرت تلك المأساة.

 

توقف لحظة لكي يُحدث التأثير المطلوب عليهم، ولكي يُتيح المجال للصمت وللمزيد من التشويق ومن تركيز الاهتمام ثم استمر في حديثه:

 

- كان القاتل قد بذل الكثير من الجهد  في دراسة خطته.  وهي خطّة جيّدة وعبقرية جداً مما يدلّ على ذهن ذكي، وليس على ذهن ضعيف, كما أنها خطّة مُحكمة تم التخطيط لها جيداً، بحيث يتمكن القاتل بموجبها من تفادي كل الشبهات التي قد تحوم حوله. وكان ما قام به القاتل في تنفيذ عملية التفجير هو التالي:

 

قام القاتل بتعيير الشمعة في الحيّز المكاني على بعد إنتش واحد ثم أشعلها وحدّد التوقيت لها، فوجد بأن الوقت الذي تستغرقه  لكي تشتعل بكاملها هو ثلاث ساعات. وكنت منذ قليل قد أجريت هذه التجربة بنفسي هنا في الأعلى ولمدة نصف ساعة، في الوقت الذي كانت فيه التحقيقات تتم في هذه الغرفة حول شخصية وطباع  فلينت بوكنر، و توصلت بهذه الطريقة إلى معرفة معدّل الاشتعال الكامل للشمعة عندما لا تكون في مهب الريح. وبذلك كان القاتل عندما تحقّّق من معدّل احتراق الشمعة عندما تكون في معزل عن الريح، قد أطفأها - وكنت قد عرضتها عليكم ـ  بعد أن قام بوضع إشارة بذلك على شمعة جديدة.

 

قام القاتل بعد ذلك بوضع شمعة جديدة داخل مصباح صغير، وثقب المصباح  بواسطة سلك على معيار الخمس ساعات، وقد أطلعتكم على السلك وعليه آثار الشحم المتفحّم عليه ـ وهو الشحم الذي كان قد ذاب وبرّد.

 

ثم قام بجهد، ويجب أن أقول، وبكثير من الجهد، بتوصيل السلك عبر المضيق الذي يقع بجانب كوخ فلينت بوكنر، وربطه بمتانة  ببرميل فارغ  وضعه في مكان آمن جداً، ووضع المصباح في أسفله. ثم قام بقصّ حوالي الخمسة وثلاثين قدماً من الفتيل ـ وهي المسافة من البرميل إلى الكوخ-  وقام بإحداث ثقب في جانب البرميل، وهذا هو المثقاب الضخم الذي استخدمه في ثقب البرميل، وكان قد أنجز عمله بالكامل بأن وضع أحد أطراف الفتيل في منزل بوكنر  ووضع الطرف الثاني في شقّ  ثلم يسمح بتسريب المسحوق من ثقب المصباح  بعد أن قام بتعييره لكي ينفجر المكان حوالي الساعة الواحدة  صباحاً  على أن يتم إشعال الشمعة حوالي الساعة الثامنة من مساء الأمس ـ وهذا ما أراهن عليه ـ وعلى أن يكون هناك انفجار في الكوخ يرتبط بنهاية الفتيل - وهذا ما أراهن عليه أيضاً- رغم أنه ليس بإمكاني أن أثبت ذلك...

أيها الرجال، لازال البرميل في المضيق، ولا تزال بقايا الشمعة فيه، ولايزال أحد طرفي الفتيل المحترق في فتحة المثقب كما أن الطرف الآخر من الفتيل في أسفل الهضبة الذي كان فيها الكوخ. كنت قد عثرت عليهم منذ ساعة عندما كان الأستاذ يأخذ المقاييس في الأماكن الفارغة التي ليس لها أية علاقة بالموضوع، وفي الوقت الذي كان فيه جمع البقايا التي لا علاقة لها أيضاً بهذه القضية.

 

ثم توقف للحظة. قام الجميع بسحب نفس عميق طويل ثم انطلقوا بالهتافات. قال هام ساندويتش:

 

- لذا كان ذلك اللعين يحوم حول المضيق بدلاً من أن يأخذ الملاحظات.

- أيها الرفاق, ستيلمان ليس بالشخص الأبله.

 

- لا, ليس على الإطلاق، سيدي!

- إنه بالفعل اسكتلندي رائع.

 

وكان ستيلمان قد استأنف حديثه بالقول :

- وعندما كنا بعيداً عن هناك أي قبل ساعة أو ساعتين، كان القاتل قد أخذ المثقاب والشمعة وأخفاهما ـ لكن ذلك لم يكن في مكان جيّد ـ لذا عاد وحملهما إلى مكان آخر اعتبره المكان الأفضل، وهو غابة الصنوبر التي تقع على بعد مائتي متر. كنت قد وجدتهما هناك، ومقياس المثقاب يُطابق تماماً مقياس الثقب والآن...

 

قاطعه الرجل الاستثنائي وقال بلهجة ساخرة :

- أيها السادة، سمعنا للتو قصة خيالية جميلة، جميلة جداً بالفعل. وأنا أرغب الآن في توجيه سؤال أو سؤالين إلى هذا الشاب.

 

جفل بعض الرجال وقال فيرغسون:

- أخشى الآن  أن يتم النيل من آرشي.

كما فقد الآخرون ابتسامتهم وعادوا إلى جديّتهم.

 

ثم قال السيد هولمز:

- دعونا نبدأ الآن بتفحّص تفاصيل هذه القصة الخيالية بأسلوب منهجي، مُتسلسل ـ وبتسلسل علمي - كما يُقال - بأن نربط كل من هذه التفاصيل الواحدة بالأخرى  بأسلوب هادئ  وبتناسق، دون ندم وبدون هجوم عنيف بالاستناد إلى هذه اللعبة المزخرفة بقلعة من الأخطاء والتي هي من نسيج خيال قليل الخبرة. لنبدأ أيها الشاب. أريد أن أسألك الآن ثلاثة أسئلة:

- سمعتك تفترض بأنه قد تم إشعال الشمعة المزعومة حوالي الساعة الثامنة من مساء الأمس؟

- نعم،سيدي في حوالي الثامنة.

- هل بإمكانك أن تُحدّد بأن ذلك قد تم في الساعة الثامنة تماماً؟

- حسناً، ليس بإمكاني ذلك بالتحديد.

- هل تعتقد بأنه لو صادف أن مرّ شخص بجانب ذلك المكان في ذلك الوقت بالتحديد، أليس من المؤكد تقريباً أن يكون قد صادف ذلك القاتل؟

- نعم، أعتقد ذلك.

- شكراً، هذا كل شيء. لنقل أنه كل شيء في الوقت الحاضر.

 

قال فيرغسون:

-عليه اللعنة ! فهو يحاول الآن أن يحاصر آرشي.

قال هام ساندويتش:

هذا هو الأمر، لا يعجبني ذلك.

قال ستيلمان وهو ينظر إلى الضيف:

كنت أمر بجانب المكان في الساعة الثامنة والنصف، لا، حوالي التاسعة.

 

قال شيرلوك هولمز:

- صحيح؟ هذا  يثير الاهتمام، هذا هام جداً فهل كنت قد صادفت القاتل؟

- لا لم أصادف أحداً.

- إذا, لو سمحتم لي بهذه الملاحظة , لست أرى لذلك أية صلة بالموضوع. هل تعتقد بأنه لو صادف أن مرّ شخص بجانب ذلك المكان  في ذلك الوقت بالتحديد، ألم من المؤكد تقريباً أن يكون قد يصادف ذلك القاتل؟

- نعم أنا أعتقد ذلك.

- شكراً، هذا كل شيء في الوقت الحاضر، أو لنقل بأنه كل شيء في الوقت الحاضر.

 

انتظر آرشي قليلاً ثم استمر في حديثه وقال :

- قد لا تكون له صلة بالموضوع في الوقت الحاضر، أقول في الوقت الحاضر فقط.

 

انتظر قليلاً ثم قال:

- صحيح أنني لم أكن قد صادفت القاتل, لكنني عثرت على آثار أقدامه، وأنا متأكد من ذلك وأعتقد أيضاً  بأنه في هذه الغرفة. سوف أطلب منكم الآن المرور أمامي هنا الواحد تلو الآخر في المكان الذي يتوفر فيه القدر الكافي من الضوء , بحيث يكون بإمكاني مشاهدة أقدامكم.

 

علت الأصوات وساد المكان هرج ومرج، ثم بدأت عملية الاستعراض. كان الضيف يرقبها وهو يحاول جاهداً الاحتفاظ بوقاره  لكن تلك المحاولة لم  تُجدِ.

 

وقف ستيلمان، وبعد أن ظلّل عينيه بيديه  بدأ ينظر بتركيز على كل زوج من الأقدام كانت تمر من أمامه. مرّ أمامه خمسون رجلاً برتابة ـ دون أية نتيجة، ثم ستون  ثم سبعون. وبدأ الأمر يبدو مدعاة للسخرية.

 

قال الضيف بسخرية مُبطنة بالدماثة :

- يبدو أن القتلة نادرو الوجود هذه الليلة.

 

لاحظ الموجودون لهجة السخرية التي بدت في كلامه، ودعّموها بضحكات من القلب. ثم مشى أمامه بتثاقل عشرة ثم عشرون آخرون منهم ـ لا، بل كانوا قد تراقصوا بوثبات مرحة ومضحكة جعلت المتواجدون  يهتزّون من شدة الضحك. وفجأة أشارستليمان بيده وقال:

- ها هو القاتل!

 

جأر الجميع: " فيتلوك جونس بحق الله"!

 

انطلق على الفور شبه انفجار صاروخي تعبيراً عن رفع يده والارتباك مما أوحى به ذلك الموقف. ثم كان الضيف في ذروة ذلك الاهتياج الكبير، قد رفع  يده وطلب منهم التزام الهدوء.

 

فرضت هيبة الاسم الكبير والشخصية الشهيرة سلطتها السحرية على الموجودين  وبذلك امتثلوا للأمر... ثم بدأ الضيف يتحدث في ذلك الهدوء المُتلهف حيث قال بوقار وبإحساس:

 

- هذا أمر خطير، وهو يُهدّد حياة شخص بريء،  بريء تماماً، وما فوق الشبهات ! بريء فوق مستوى الشكوك! أصغوا إليّ، فلو حاولتم إثبات ذلك سوف ترون كيف يمكن دحض مثل هذه الكذبة الخرقاء بكل بساطة. أصغوا إلي أيها الأصدقاء: لم يغب هذا الصبي عن ناظري يوم أمس وفي أي وقت!

 

كان لما قاله تأثيره الكبير. بحيث ألقى بعض الرجال إلى ستليمان نظرة تساؤل جدّية.

حينئذ أشرق وجه ستيلمان وقال:

 

- كنت أعلم بوجود شخص آخر معه ! ثم خطا بسرعة وبخفة نحو الطاولة وألقى نظرة إلى قدمي الضيف، وقال بمواجهته:

 

- كنت أنت أيضاً معه ! ولم تكن على مسافة أبعد من خمسين قدماً عنه عندما قام بإشعال الفتيل وعندما فجرّ المسحوق.(وكان أن تسبب كلامه في إثارة الحشد). والأكثر من ذلك فأنت الذي زودته بالكبريت!

 

وبذلك كان الضيف ببساطة  قد صُدم. وكان ذلك قد بدا جلياً للمتواجدين. فتح فمه لكي يتكلم ولكن لم يكن للكلمات أن تخرج من فمه بسهولة، ثم قال: "هذا... هذا جنون... هذا... "

 

ثم قام ستيلمان بالتأكيد على ذلك الإثبات الواضح، بأن أمسك بيده عود ثقاب مُحترق وقال:

- هاهو أحد أعواد الثقاب، كنت قد وجدته في البرميل. يوجد هنا عود ثقاب آخر مماثل له.

استرد الضيف فوراً قدرته على الكلام وقال:

- نعم... وكنت أنت الذي وضعها هنا بنفسك.

 

كانت تلك رمية جيدة.

 

لكن ستيلمان  ردّ على الفور:

- هذا الشمع من نوعية غير معروفة في كل المخيّم، وأنا على استعداد لأن يتم تفتيشي للحصول على علبة الثقاب. فهل أنت على استعداد لذلك؟

 

كان الضيف هذه المرّة  قد صُعق ـ وكان بإمكان أي شخص،حتى لو لم يكن يمتلك حدّة النظر أن يلحظ ذلك. بدأ يعتصر يديه. وتحركت شفتاه مرة أو مرتين، لكن الكلمات لم تخرج منها. انتظر الموجودون بصمت وبحيرة وهم يراقبون الموقف, وكان ذلك السكون قد زاد من تأثير الموقف على الضيف. ثم قال ستيلمان برفق:

 

- نحن بانتظار قرارك.

 

ساد الصمت من جديد لبضع لحظات.، ثم أجاب الضيف بصوت خافت:

- أرفض أن يتم تفتيشي.

 

لم يكن هناك أي تعبير علني عن ردّة الفعل، وإنما همس كل من الموجودين للآخر:

- لقد تم تسوية الأمر! آرشي هو الذي على حق. ولكن ما الذي يجب أن يتم الآن؟

ويبدو بأنه لم يكن هناك من يعلم بما سيحدث. ذلك لأن الموقف كان قد أصبح مربكاً في الوقت الحاضر. وهذا بالطبع  لمجرد أن الأمور كانت قد اتخذت فجأة اتجاهاً لم يكن في الحسبان ولأنها كانت قد وصلت إلى الحدّ الذي جعل عقولهم تتوقف تماماً عن التفكير فلم يكن بإمكان عقولهم التي تعوزها الخبرة أن تتوقع ما حدث، مثلها مثل الساعة التي تتوقّف نتيجة صدمة.

 

لكن الآلة عادت تعمل من جديد، وبدأ كل اثنان أو ثلاثة من الموجودين يضعون رؤوسهم معاً ويتحاورون حول هذا وذاك الاقتراح، إلى أن تم تأييد مقترح واحد فقط هو بأن يتم التصويت على أمرين: فإما أن يتم  توجيه الشكر إلى القاتل لتخليصه لهم من فلينت بوكنر، وبالتالي تركه يرحل. أو أن تتم محاكمته وإيداعه السجن. وكان أصحاب العقول الأكثر اتزاناً قد عارضوا الحلّ الأول، وأشاروا إلى أن أصحاب العقول الحكيمة في الولايات الشرقية سوف يعتبرون ذلك فضيحة، وبأنهم لن يتوقفوا عن إثارة الموضوع. وبذلك كان أصحاب العقول الحكيمة هم الذين فازوا في النهاية. تمت الموافقة بالإجماع على اقتراح الشخص الذي كان يترأسهم، والذي قام بعد ذلك باستدعاء الموجودين  لكي يعرض عليهم اقتراحه ولكي يأمر بتنفيذه وهو:  أن يتم سجن فيتلوك جونس وتقديمه إلى المحاكمة.

ثم تم تبني الاقتراح فلم يكن بالإمكان اتخاذ أي إجراء آخر. كما كان الجميع سعداء من ناحية أخرى لأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الخروج من الحانة والتوجّه إلى موقع المأساة للتأكّد فيما إذا كان البرميل والأشياء الأخرى لا تزال هناك أم لا ـ ولكن لم يتحقق لهم ذلك، فلم تكن المفاجأة  قد انتهت بعد., لأن فيتلوك جونس الذي كان في ذلك الوقت  يبكي بصمت دون أن يلحظه أحد في ذلك الاهتياج الذي تلاحق الواحد تلو الآخر، والذي استمر لبعض الوقت, وعندما تم الإعلان عن قرار توقيفه ومحاكمته , قد انفجر باكياً بيأس وقال:

 

لا، هذا غير ممكن، لا أريد أن أسجن ولا أريد أن أحاكم. كنت قد تعرّضت لما يكفي من التعاسة ومن البؤس. اشنقوني الآن أو لتدعوني أرحل. فعلى جميع الأحوال سوف تنجلي جميع الأمور ولن يكون هناك من بإمكانه أن  ينقذني. فقد روى لكم آرشي كل شيء كأنه كان معي، كأنه كان قد شاهد كل شيء. لست أدري كيف اكتشف كل ذلك. سوف تشاهدون البرميل وجميع الأشياء الأخرى وبذلك لن يكون لدي أية فرصة للنجاة. نعم، لقد قتلته! وكنتم ستفعلون هذا أيضاً لو كان قد عاملكم كالكلاب، ولو لم تكونوا سوى فتى ضعيف وفقير ليس له أي صديق قد يقدم له العون.

 

قاطعه هام ساندويتش بالقول:

-  وكنت أيضاً قد خدمته  بشكل جيّد جداً، أصغوا إلي أيها الرجال...

حينئذ قال الشرطي:

- التزموا النظام أيها السادة، التزموا النظام!

سأله أحدهم:

-هل كان عمك على علم بما كنت تنوي القيام به؟

-  كلا لم يكن يعلم بذلك.

 

وقال آخر:

- وهل كان من أعطاك علبة الثقاب ؟

- نعم.

- أأنت متأكد من ذلك؟

- نعم، كان قد قام بذلك لكنه لم يكن على دراية لِم كنت أحتاج إليها.

- وعندما خرجت للقيام بتلك المغامرة كيف حدث أن قمت بالمجازفة بأن يكون عمك برفقتك وهو من رجال التحرّي كيف ذلك؟

 

تردّد الفتى وبدأ يتحسّس أزرار قميصه بارتباك ثم قال بخجل:

- لأن لدي فكرة عن رجال التحرّي، ولأن بعضهم من أفراد عائلتي, فالأسلوب الأفضل لكي لا تترك لهم المجال لاكتشاف الأمر هو أن يكونوا حولك عندما تقوم بالفعل.

 

إلا أن عاصفة الضحكات التي استقبل بها ذلك الاعتراف الحكيم الساذج، لم تكن قد غيّرت كثيراً من حالة ارتباك ذلك الطفل الصغير المتشرد.

 

9

 

مقتطفات من رسالة موجهة إلى السيدة ستيلمان مؤرخة فقط "الثلاثاء ".

 

تم احتجاز فيتلوك جونس في كوخ خشبي مُقفل وتُرك هناك لكي تتم محاكمته. قام الشرطي هاريس بتزويده بعدد من وجبات الطعام اليومية، وطلب منه الاعتناء بنفسه. كما وعده بتزويده بالمزيد من المؤن فور احتياجه إليها.

 

وكنت في صباح اليوم التالي، قد ذهبت مع هيلير، من باب الصداقة، لمساعدته في مواراة قريبه بوكنر المتوفى غير المأسوف عليه, التراب حيث قمت أنا بمهمة المساعد الأول للحانوتي، وقام هيلير بمهمة الرئيس. وعلى الفور من انتهاءنا من تلك المهمة., جاء إلينا شخص غريب كئيب المظهر, رثّ الثياب يحمل حقيبة قديمة، واستطعت على الفور أن أشم الرائحة. تصوّري أمي!  كان ذلك الرجل هو الرجل الذي لاحقته في كامل الكرة الأرضية! وذا ما أعتبره بمثابة هبة السماء لآمالي التي كانت على وشك التلاشي.

 

كنت خلال لحظة  قد وقفت بجانبه، ووضعت يدي برفق على كتفه، لكنه سقط على الأرض كما لو أن صاعقة من البرق أوهنت قواه. وبينما كان الرجال يتراكضون لمساعدته،  بدأ يحاول النهوض ثم وضع يديه عليّ بتوسل، وقال من فكيه اللذين كانا يرتجفان :

 

- شيرلوك هولمز!  كنت قد طاردتني في جميع أنحاء العالم،  ويشهد الله بأنني لم أتسبب بأي أذى لأي شخص, أتوسل إليك ألا تُعذبني بعد الآن .

 

وبنظرة واحدة إلى عينيه الهائجتين كان قد تبيّن لنا بأنه كان مخبولاً.

- أمي، أترين كان كل ذلك بسبب ما قمت به أنا!... ولو كنت قد سمعت ذات يوم بنبأ وفاتك,  لما كنت سأشعر بمثل تلك التعاسة التي شعرت بها نحوه في تلك اللحظة. ثم التف الجميع حوله بكل تعاطف. قاموا برفعه من على الأرض  وتحدثوا معه بعبارات مؤثرة ورقيقة., ثم طلبوا منه ألا يقلق  وأن يبتهج لأنه أصبح الآن بين الأصدقاء، وأعلموه بأنهم سوف يتولون رعايته.

 

أمي! هؤلاء الرجال الأشداء الذين يعملون في المنجم هم في حنانهم  كالأمهات عندما يقوم المرء بإيقاظ الجانب الإنساني في قلوبهم. كما أنهم يصبحون، عندما يتم إيقاظ العكس فيهم، أشبه بالكثير من الأولاد المتهورين غير العاقلين. وبذلك قاموا بكل قد  يُخيّل إليك لمواساته، لكنهم لم ينجحوا في ذلك إلى أن نجح  ويليس فارغسون في تهدئته، فهو من الرجال الدبلوماسيين الأذكياء بأن قال له:

 

- لو كان شيرلوك هولمز هو الشخص الذي يقلقك فقط ، فليس عليك أن تقلق بعد الآن.

سأله البائس المجذوب باهتمام:

-  لماذا؟

- لأنه مات الآن.

- مات؟ هل مات بالفعل؟  أرجوك, لا تعبث برجل مُحطم بائس ؟ يا إلهي، هل يقول الحقيقة أيها الرجال؟

قال هام ساندويتش:

- هذا صحيح كما هي حقيقة وجودي أمامك الآن.

ثم قام الجميع بتأكيد ما كان قد صرّح به.

وأضاف فيرغسون لكي يحاول تأكيد ما قاله:

- تم شنقه الأسبوع الماضي في بيرنادينو، عندما كان يبحث عنك. كانوا قد اعتقدوا بأنه شخص آخر، ثم أسفوا بعد ذلك ولكن لم يكن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً.

 

قال هام ساندويتش وهو يتظاهر بأنه يعرف ذلك وبأنه كان قد ساهم فيه.

- وهم الآن يقومون بوضع نصب تذكاري له.

 

أطلق جيمس ويكلر تنهيدة عميقة، هي بدون شك تنهيدة الشعور بالراحة , ولم يقل شيئاً. ثم اختفت نظرة القلق من عينيه الهائجتين وأشرقت ملامحه  بشكل واضح، كم استرخت ملامحه المشدودة  بعض الشيء.

 

حسناً، ثم ذهب الجميع بعد ذلك إلى كوخنا. قام الرجال بتحضير أفضل طعام لأجله، بقدر ما أتاحته  لنا المواد الموجودة في المخيم، وبينما كانوا يقومون بذلك، كنا أنا وهيلير قد خلعنا  قبعته وحذائه الجلدي,وكنا قد ألبسناه الملابس الجديدة وبذلك جعلنا منه رجلاً وسيماً محترماً. هو الآن رجل عجوز، هذه هي الكلمة المناسبة،  أصبح الآن رجلاً يثير الشفقة. عجوز, نتيجة لقنوطه وبسبب ذلك الشعر الأبيض الذي يكسو رأسه، وبسبب تلك العلامات التي تركها الحزن والأسى على وجهه، رغم أنه لا يزال في أوجه من ناحية السن.  وبينما كنا نأكل وندخن ونتحاور، وبعد أن كان قد انتهى من تناول الطعام، وجدنا بأن صوته كان قد بدأ يعود إليه من جديد.، وبذلك  بدأ يروي لنا قصة حياته بمحض إرادته. ليس بإمكاني أن أعيد كلماته لكنني سأحاول أن أرويها لك على وجه التقريب.

 

قصة الرجل الخطأ

 

كان الأمر قد حدث هكذا : كنت من سنوات عديدة أعيش في دينفر، أنا أحياناً أذكر عدد تلك السنوات ولا أذكرها في أحيان أخرى , إلا أن هذا ليس الموضوع. ثم كان قد وصلني فجأة إنذار بمغادرة البلدة تحت طائلة محاكمتي على جريمة كانت قد اُرتكبت في المنطقة الشرقية  من زمن بعيد، ومنذ سنوات، سنوات طويلة. كنت قد علمت بتلك الجريمة لكنني لست الشخص الذي ارتكبها، وإنما كان ابن عم لي يحمل ذات الاسم. سألت نفسي حينذاك عن أفضل ما علي أن أفعله؟ كان عقلي مشوشاً تماماًالجبال حيث، ولم أكن أدري بما علي أن أفعله. كان قد سُمح لي بالبقاء لفترة قصيرة جداً ـ مهلة ليوم واحد فقط على ما أذكر- وإلا فسوف يتم تدميري لو تم نشر ذلك، كما كان سيتم إعدامي بدون محاكمة دون أن يُصدق أحد ما كنت سأقوله. فهذا هو الوضع دوماً في حالات الإعدام بدون محاكمة : هم يأسفون عندما يكتشفون بأن الإعدام كان عن طريق الخطأ، ولكن بعد فوات الأوان ـ وهذا ما حدث كما ترون مع السيد هولمز- وبذلك قلت لنفسي سوف أبيع جميع ممتلكاتي لكي أحصل على ما يكفيني من مال للاستمرار في العيش، وسوف أرحل إلى أن ينجلي الموضوع ثم أعود وأتقدم بإثباتاتي .هربت أثناء الليل.  ذهبت إلى مكان بعيد في الجبال  حيث عشت متنكراً وباسم مستعار.

 

ثم بدأ اضطرابي وقلقي يزداد أكثر والبداية يتملك المشاكل قد جعلتني أشاهد الأشباح وأسمع الأصوات، ولم يعد بإمكاني أن أفكر بوضوح  وبطريقة صائبة في أي موضوع من المواضيع.، كنت مضطرباً وكانت الأمور قد تعقدت بالنسبة إلي., وكان الألم قد حطم قلبي.  ثم بدأت حالتي تسوء أكثر وأكثر.، وبدأت تلك الأشباح والأصوات تتزايد. كانت حولي طوال الوقت، كان ذلك في البداية  يتم أثناء الليل فقط ، ثم أصبح يتم أثناء الليل أيضاً. كانت تلك الأشباح تتهامس طوال الوقت حول سريري، وتتآمر علي . كانت تقضّ مضجعي وتتركني في حالة دائمة من الإنهاك ولم أكن أحصل على القسط الكافي من الراحة.

ثم حصل ما هو أسوأ، حيث قالت تلك الهمسات ذات ليلة:

- لن نتمكن من تدبّر الأمر، لذا يجب أن نستدعي شيرلوك هولمز، وسوف يكون هنا خلال اثنا عشر يوماً.

وافق الجميع ورقصوا فرحاً، أما أنا فكان قلبي قد انفطر.، كنت قد قرأت عن ذلك الرجل، وكنت أعلم ما يعنيه أن يكون مثل ذلك الرجل هو الذي سيقتفي أثري، بما لديه من قدرة خارقة ومن طاقات لاتكلّ.

وعندما ذهبت الأشباح للبحث عنه، كنت قد خرجت في منتصف الليل وهربت للتو وأنا لا أحمل معي سوى حقيبة يدي التي يوجد في داخلها  كل ما لدي من مال، ثلاثون ألف دولار فقط، ولازال ثلث المبلغ معي في هذه الحقيبة.

لكن ذلك الرجل كان قد عثر علي أثري بعد أربعين يوماً، وبذلك هربت من جديد، ذلك لأنه كان نتيجة العادة قد كتب اسمه الحقيقي في سجل الحانة ثم شطبه وكتب عوضاً عنه اسم داجيت باركلي. لكن الخوف يمنح المرء عيناً ثاقبة حادة، لذا استطعت قراءة الاسم الحقيقي من خلال التشطيب، وبذلك هربت بسرعة الغزال.

ثم طاردني ذلك الرجل في جميع أنحاء العالم ولمدة ثلاث سنوات ونصف: في ولايات المحيط،  ومن أستراليا إلى الهند وفي كل مكان قد تتوقعونه. وطاردني من جديد في مكسيكو، ثم إلى كاليفورنيا., ولم يكن يترك لي وقتاً للراحة من التجوال. لكن ذلك الاسم في السجل كان ينقذني على الدوام. وها هو ما تبقى مني حياً الآن ، أنا متعب جداً!  كنت قد أمضيت وقتاً مريراً، ومع ذلك أقسم بشرفي بأنني لم أتسبب قطّ بأي أذى له ولا لأي شخص آخر.

كانت تلك هي نهاية القصة. كان ذلك قد جمّد الدم في عروق هؤلاء الرجال، أما بالنسبة إلي فمن المؤكد أن كل كلمة كنت أسمعها كانت تحرق نياط قلبي. ثم قررنا اصطحاب الرجل العجوز معنا  وبأن يكون ضيفاً علي وعلى هيلير.

سوف أحتفظ  برأي هذا لنفسي بالطبع. لقد قررت أن أقوم,  بعد أن يكون العجوز قد حصل على القدر الكافي من الراحة والغذاء، بمرافقة ويكلر إلى دينفر لكي يسترد أمواله.

وبعد أن قام الرجال بمصافحة العجوز بأسلوب زمالة عمال المناجم التي تُحطّم عظم اليدّ، كانوا قد تفرقوا ونشروا الأنباء.

وفي فجر اليوم التالي  نادانا ويلز فارغسن وهام ساندويتش بلطف إلى خارج المخيم، وطلبا التحدث إلينا على انفراد:

- انتشرت الأنباء حول الطريقة التي تم التعامل بها مع هذا الغريب في كل المخيم، وبذلك قَدِم عمال المناجم من جميع الأماكن وتجمّعوا هنا وسوف يقومون بإعدام الأستاذ., وقد أصيب الشرطي هاريس بالذعر الشديد، وقام بالاتصال بعمدة البلدة. تعالا معي!

بدأنا نركض، كان بإمكان الآخرين أن يفكّروا بالطريقة التي يرونها، لكنني كنت في داخلي أتمنى أن يصل العمدة  في الوقت المناسب، فلم أكن أرغب في أن يتم إعدام شيرلوك هولمز بسبب ما ارتكبته أنا من أفعال... وأعتقد بأن بإمكانك أن تصدّقي ذلك بكل سهولة.

كنت قد سمعت الكثير عن العمدة إلا أنني سألتهم مع ذلك لكي أتأكد:

- هل سيكون بإمكانه أن يُوقف تلك الغوغاء؟

قال فارغسن: "أتسأل فيما إذا كان بإمكانه ذلك! ألن يكون بإمكان جاك فيفاكس إيقاف الغوغاء! حسناً، هذا ما يجعلني أبتسم! العمدة شخص متهور بإمكانه أن يسلخ جلد رأس خمسة عشر رجلاً دفعة واحدة. فألن سيكون بإمكانه ذلك؟

قلت: "أووه".

وبينما كنا في طريقنا إلى الوادي، كنا نسمع من بعيد العديد من الأصوات ومن الصرخات التي كانت تنطلق في الهواء الساكن. بدأت تلك الأصوات تُصبح أقوى كلما اقتربنا من المكان. كانت الصرخات تنطلق صرخة بعد صرخة، أقوى فأقوى  وأقرب فأقرب...  وعندما وصلنا آخر الأمر إلى تلك الجماهير المحتشدة في المنطقة المفتوحة أمام الحانة،  كان صوت الجمهور المحتشد قد أصبح صامّاً. كانت جماعة من أولائك الأشرار المتوحشين من منطقة دالي قد أمسكوا بهولمز في قبضتهم، ولكن كان هولمز من أكثر الرجال هدوءاً، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ازدراء، وحتى لو كان في دمه البريطاني ما يعتريه من خوف من الموت، فإن شخصيته الحديدية  كانت ستكبح  ذلك الخوف، ولم يكن ليسمح بظهور ما يشير إلى ذلك.

ثم قال أحد أفراد عصابة شاد بلي هيكنز:

- تعالوا أيها الرجال لكي تُصوّتوا، أسرعوا! هل هو الشنق أم الرمي بالرصاص؟

صاح أحد الرجال:

-لا هذه ولا تلك! سوف يبقى على قيد الحياة لمدة أسبوع، وسوف يكون الحرق هو التخليد الوحيد بالنسبة إليه.

وأعلنت حشود الجماهير القادمة من المخيمات التي تقع حول المنطقة عن موافقتها بصوت يشبه هدير الرعد، ثم اندفع الجميع نحو السجين وهم يتزاحمون وأحاطوا به  وهم يصرخون:

- النار، فلتشعلوا النار!

ثم قاموا بجرّه إلى موقع سارية الخيول,حيث أوثقوه بالسلاسل ووضعوا حوله أكوام من الخشب ومن أعواد الصنوبر حتى علو خصره. لم يشحب ذلك الوجه الحادّ الملامح، وظلت ابتسامة الازدراء تلك مرتسمة على شفتيه.

- أحضروا الثقاب، أحضروا عود ثقاب..!

قام شاد بلي بإشعال عود الثقاب، ظلّله بيده ثم انحنى ووضعه تحت غصن صنوبر بينما خيّم صمت عميق على الحشود.  بدأ الغصن يلتهب وبدأ بصيص ضئيل من اللهب يضطرم للحظة أو للحظتين. وفي ذلك الوقت كان قد خيّل إلي بأنني سمعت من بعيد صوت حوافر حصان ـ ثم بدأ ذلك الصوت يُصبح أكثر فأكثر وضوحاً، وأكثر فأكثر تحديداً، ولكن ذلك لم يكن قد لفت انتباه الحشود التي كانت مستغرقة بما يجري. انطفأ عود الثقاب، وقام الرجل بإشعال عود ثقاب آخر وانحنى، وبدأ اللهب يتصاعد من جديد، لكنه كان هذه المرّة قد بدأ يضطرم وينتشر. أخذ الرجال هنا وهناك يشيحون بوجوههم، أما الجلاد الذي كان يُنفذ الحكم فكان قد وقف يرقب العملية  بين أصابعه عود الثقاب المحترق. وفي تلك اللحظة كان صوت وقع الحوافر قد وصل إلى المنحدر الصخري ثم إلى الأسفل، ثم علت صيحة:

- عمدة البلدة!

وكان العمدة قد وصل في الحال، وهو يعدو بسرعة وسط ذلك الزحام، مما جعل الحصان يقف على قوائمه الخلفية تقريباً ثم صاح:

- ابتعدوا أيها الحمقى!

امتثل الجميع لأمره، ما عدا من كان يترأسهم، وكان قد وقف مكانه ووضع يده على مسدسه. قام العمدة أيضاً بسحب مسدسه بسرعة وقال له:

- أنزل يدك أنت أيها المتهور الأرعن. أطفئ النار وحرّر هذا الغريب من قيوده! وأطاعه الشرير المشار إليه.

ثم كان العمدة بعد أن وضع حصانه بوضعية الراحة، قد ألقى عليهم خطبة دون أن يكون في كلماته أية مِسحة من الغضب أو من الحماسة،  وإنما كان يُلقيها  بكل تروِّ  وبأسلوب مدروس، وبنبرة تتوافق مع طباع  أولئك الأشخاص، مما جعلهم لا يفقدون احترامهم له:

- لاشك بأنكم مجموعة من الأشخاص الجيّدين.  ألستم كذلك ؟ وبأنكم أهلاُ  للمجيء إلى هذا المكان  بصحبة هذا المراوغ "هيغنس" ، هذا الثعبان ذو الفم الكبير الذي يقتل الناس عنوة،  والذي  يُطلق عليه نفسه اسم " ديسبارادو" أي الأرعن المتهوّر.

لو كان هناك ما أزدريه بشكل خاص فهو الإعدام الذي يتم بدون محاكمة قانونية. لم أشهد قطّ من يضع رجلاً بهذا الموقف. يجب أن يتم إثبات ما نسب إليه بمعدل مائة ضد واحد قبل أن يتجرأ المرء على تتبع رواية رجل مريض تم تلفيقها من قبل جماعة من الجبناء،  كما أن من جعلوا هذا الأمر  يتصاعد هم  أيضاً كذلك، وتسع وتسعون من المائة , وسوف يكون العمدة أيضاً أحدهم لو أنه وافق على فعلتهم...

ثم توقف لحظة، لكي يتمعّن ,على ما يبدو, بالفكرة الأخيرة، ولكي يستسيغ معناها ثم استمر بالقول:

- يعتبر العمدة الذي يسمح بأخذ سجين منه من أحقر الجبناء في هذا العالم. وقد ثبت بموجب آخر الدراسات بأن هناك مرض جديد سيتم إيراده في كتب الأطباء تحت اسم ـ مرض العمدة. ثم استمر بالقول، وكأن الفكرة كانت قد راقت له كما كان بإمكان أي شخص أن يلاحظ ذلك.

- سوف يقول الناس ها هو من جديد مرض العمدة،  نعم،  وسوف يصبح هذا اللقب بعد ذلك من الألقاب الجديدة. فعلى سبيل المثال لن يقول الناس: "هذا الرجل هو عمدة مقاطعة راباهو" بل سيقولون: "هذا الرجل هو عمدة منطقة جبناء راباهو" وذلك لمجرد التفكير بأن بإمكان رجل ناضج أن يخاف من مجموعة من الرعاع!

ثم استدار بنظره نحو الأسير وقال:

- من أنت أيها الغريب، وما الذي فعلته؟

- اسمي شيرلوك هولمز، ولم أفعل شيئاً.

كان تأثير ذلك الاسم على العمدة رائعاً، على الرغم من أنه كان قد جاء وهو يعرف ذلك. ثم بدأ بعد ذلك يتحدث بكل انفعال بأن ما يحدث يُعتبر وصمة على جبين الدولة، وذلك بأن يتعرض مثل هذا الرجل، الذي ملأت مآثره الرائعة وشهرته وإبداعاته أنحاء العالم، والذي كانت رواياته قد كسبت قلوب القراء بما فيها من سحر وفطنة ومن مكانة أدبية رفيعة، وأمام الملأ، لمثل هذا الاعتداء المنافي لجميع الأخلاقيات. ثم  اعتذر له  باسمه وباسم كل الأمّة، وانحنى بكل إجلال أمام هولمز، واعتبر نفسه مسؤولاً بشكل شخصي فيما إذا تم التعرض للمضايقة مرة أخرى.

ثم طلب من الشرطي هاريس أن يوصله إلى مكان إقامته، وأن يعتبر نفسه المسؤول عن أي تحرش وعن أي اعتداء قد يقع عليه... واستدار نحو الرعاع وقال:

- اذهبوا إلى جحوركم أيها الحثالة !

وكان هذا ما فعلوه. ثم قال:

- وأنت شادبلي اتبعني، فسوف أهتم بقضيتك بنفسي. لا، احتفظ ببندقيتك، فعندما سيأتي اليوم الذي سوف أخاف فيه منك لو صادف أن رأيتك وراء ظهري وأنت تحمل هذا الشيء،  فسوف يكون ذلك هو الوقت المناسب بالنسبة إلي لأن أنضم إلى المائة والاثنين وثمانين، ثم تابع سيره يتبعه شاد بلي...

وكنا عندما كنا في طريقنا إلى كوخنا، وكان ذلك تقريباً في موعد الغداء، قد أعلمنا بنبأ هروب فيتلوك جونس من السجن أثناء الليل ومغادرته المخيم. لم يأسف أحد لذلك فعلى عمه أن يتولى تتبع أثره لو كان يرغب في ذلك وهذا هو مساره، فلم يكن هناك  في المخيم من يهتم بأمره.

 

 

10

 

 

بعد عشرة أيام كان ستيلمان قد كتب إلى والدته الرسالة التالية:

"جيمس ويلكر بخير الآن من الناحية الجسدية، كما أن وضعه العقلاني قد بدأ يتحسن وسوف أتوجه معه غداّ صباحاّ إلى دينفر".

ثم كتب إليها في الليلة التالية ملاحظة مختصرة كان قد أرسلها من محطّة في الطريق:

 

أمي!  عندما كنا  في طريقنا إلى دينفر صباح اليوم، كان هيلير قد همس لي " لا تُطلع ويكلر على هذه الأنباء إلى أن تتأكد من أنه بأمان، وبأنها لن يتسبب في تشويش ذهنه، وبعد أن تتأكد من تحسّن وضعه. كانت الجريمة القديمة التي تحدث عنها قد ارتكبت بالفعل من قبل ابن عمه كما قال لنا. أما الرجل الذي قمنا أمس بمواراته التراب المدعو "فلينت بوكنر" فهو المجرم الحقيقي ـ أتعس رجل عاش في هذا القرن ـ واسمه الحقيقي هو "يعقوب فولر"!... وهكذا، أمي، ها قد أصبح ذلك الميت, الذي هو زوجك السابق، والذي هو أبي، في قبره بمساعدتي وبشكل غير مقصود، ولندعه الآن يستريح...

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية