عصر التحضير وسيرة الطباشير
كثير من المعلمين لم يلحقوا بالعصر الطباشيري (أي الكتابة بالطباشير)، وكثير منهم لم يلحقوا بالعصر الحريري (أي كتابة أسئلة الاختبارات على الحرير) أو ما يعرف بالاستنسل، ولكن جميعهم بدون أدنى شك الأحياء منهم والأموات، بل الذين سيلتحقون بالتعليم فيما بعد قد مروا أو سيمرون بالعصر التحضيري (أي عصر دفتر التحضير)!
حقيقة.. لست مع أو ضد دفتر التحضير رغم إيماني بأن الزمن تخطاه بمراحل، وشخصيًا لا أواجه مشكلة أثناء صياغة الأهداف السلوكية، سواء بالطريقة الطولية القديمة، أو بالطريقة العرضية، ويعود الفضل في ذلك لتعلمي هذه الطريقة في دورة تدريبية قدمها الأستاذ جمعان القحطاني في أول سنة لي في التعليم، فله مني جزيل الشكر والامتنان.
في أول سنة لي في العمل معلمًا، استلمت جدولي من المدير الأستاذ الفاضل سليمان الزمريق فكان من نصيبي تدريس مادة النصوص، والقواعد والإملاء.
وفي المساء اتجهت إلى إحدى القرطاسيات، واشتريت ثلاثة دفاتر تحضير (بالمناسبة.. فكلمة تحضير تطلق عادة على استدعاء الجن حمانا الله وإياكم من شرهم، والمسمى التربوي المعتمد حاليًا هو إعداد الدرس).
بدأت بتحضير القواعد في دفتر، والنصوص في دفتر آخر، والإملاء في الدفتر الثالث، ثم سلمتها لمديري في صبيحة اليوم التالي.. فما كان منه إلا أن نظر إلى الدفاتر بتعجب.. ثم نظر إلي باستغراب وابتسامة لم يستطع كتمانها ثم قال: ما هذه الدفاتر يا سعيد؟ فقلت له: هذه دفاتري، لكل مادة دفتر!
فتبسم حتى بدت أضراسه ونواجذه ثم قال: أتمنى أن تجمعها في دفتر واحد.
أومأت له بالإيجاب وخرجت، وأخبرت الزملاء في العمل فضحكوا على تصرفي الغريب.
وفي المساء اتجهت إلى محل لخدمات الطالب (بالمناسبة... أكثر من يستفيد من هذه المحلات هم المعلمون ومع ذلك تسمى مركز خدمات الطالب).
طلبت من العامل في المحل أن يمزق أغلفة جميع الدفاتر ويضعها في غلاف واحد.. فكان لي ما أردت، وسر المدير بهذه النتيجة!
في أحد مواقع منتديات الإنترنت التربوية لاحظت أيقونة رابط مكتوب فيها: حمل تحاضيرك، وارتاح من مديرك، فدخلت الموقع لا ألوي على شيء، فوجدت فيه كل ما لذ وطاب من تحضير لدروس جميع المراحل بطريقة جميلة، وكل ما عليك هو أن تطبعها، وتكتب التاريخ المناسب، وتكتب اسمك الجميل على واجهة الدفتر، ولكن لا تنس أن تكتب قبل اسمك كلمة الأستاذ اللص فلان!
هذا هو حال منتدياتنا التربوية، دفاتر تحضير جاهزة، ونماذج اختبارات جاهزة، بل وحتى توزيع المنهج، والأهداف العامة للمادة. لم يعد المعلم (اللص الإلكتروني) في حاجة لأن يقوم بها بنفسه. والغريب أنه بعد كل موضوع من هذه الموضوعات تقرأ عبارات على شاكلة:
الله يوفقك، ويعطيك على قدر نيتك ولو أعطاه الله على قدر نيته لندم أشد الندم.
أو:
أسأل الله عز وجل أن يجزيك عنا خير الجزاء، وأن يرزقك جنة عرضها السماء والأرض، وأن يثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أو مثل:
أشكرك بعنف، وجزاك الله خيرًا، وتسلم.
وعبارات الثناء تلك لم يكتبها صاحبها حبًا في المشاركة، بل كتبها مرغمًا لأن من شروط التحميل عادة أن تشارك في الموضوع الذي تريد تحميله بمشاركة واحدة على الأقل!
كثير من المشرفين جن جنونهم حين بدؤوا يلاحظون تكرر الأسئلة ذاتها عند عدة مدرسين من مدارس مختلفة، وكلها طبعًا مسروقة من الإنترنت، وعندما يسأل المشرف عن سر هذا التشابه الغريب، يجيبه المعلمون بأن هذا من توارد الخواطر أو التيليباثي، أو أن هذا المعلم يسكن معنا في نفس العزبة، أو أنه من قبيل التناص أو كما أسميه أحيانًا: التلاص، وبعضهم يقول للمشرف بكل صفاقة: يخلق من الشبه أربعين يا حضرة المشرف.
طبعًا كل ما ذكر يشمل أخواتنا المعلمات أيضًا، بل زيادة على ذلك تتنامى لدى المعلمات ظاهرة شراء التحاضير من موزعين معتمدين يبيعونها على سيديهات أو مطبوعة على الورق للمعلمة التي ترغب في مزيد من الراحة والدلال!
ولم يعد مستغربًا أن تشاهد الإعلان التالي في الشارع أو في صحيفة يومية أو على واجهة إحدى القرطاسيات:
قرطاسية..... تقدم جميع الدروس التحضيرية، جميع المواد لكافة المراحل، الشراء من خلال الموقع.
أو الإعلان التالي في النت:
مجانًا.. حمّل.. تحاضير.. توزيع منهج.. خطة دراسية.. مطويات.
ذات يوم ذهبت لشراء دفتر تحضير لي، فلما دخلت المكتبة طلبت من العامل الآسيوي دفتر تحضير. فقال لي بلغة مكسرة: ولد ولا بنت؟
فقلت: وهل هناك فرق بين المعلم والمعلمة يا صديق؟
فقال لي بما معناه: نعم، هناك فرق، المعلم يبحث عن أرخص دفتر? والمعلمة تبحث عن أجمل دفتر مهما كان ثمنه!
أحيانًا أتمنى لو كنت معلم لغة إنجليزية، عندها فقط سأحول دفتر التحضير إلى مدونة شخصية لي «Blog»، ولأن معرفة مديري بالإنجليزية تمامًا مثل معرفتكم بلغة قبيلة الماساي الإفريقية، فسيكون مضطرًا رغمًا عن أنفه أن يوقع على دفتري، ويكتب كعادته منذ ست سنوات عجاف: شوهد أو نظر، أما إذا وجدته كتب يومًا ما: (شوهد مع الشكر) فإنني أزغرد كأرملة عجوز في ليلة زواج ابنتها الوحيدة!
أذكر عندما كنت في الابتدائية، أن كثيرًا من المعلمين يكتبون على دفاترنا إحدى تلك الكلمتين غالبًا، وكنا نفرح كثيرًا بهما، ونقول لزملائنا: انظروا.. الأستاذ أعطاني شوهد (بفتح الشين والهاء) أو نظر (بفتح النون والظاء) وكنا نظن أنها تقدير مرتفع أفضل حتى من ممتاز وجيد جدًا!.
ومن الأسباب التي تجعلني أتمنى أن أكون معلم لغة إنجليزية الاختصارات التي أرى معلمي هذه المادة يكتبونها في دفاتر تحضيرهم، فعند كتابة الهدف السلوكي بدلاً من كتابة العبارة الطويلة:
«Students will be Able to....
Pupils will be abe to....»
ومعناها: أن يكون الطلاب قادرين على...
فهم يكتفون فقط بكتابة الحروف الأولى من كل كلمة كالتالي: «SWBAT» أو «PWBAT».
وقد جربت قبل عدة سنوات أن أقتبس هذه الطريقة كما يقتبس كثير من التربويين أفكارهم وبحوثهم من لغات أخرى (وما فيش حد أحسن من حد)، فأخذت الحرف الأول من كل كلمة من عبارة:
أن يكون الطالب قادرًا على... فأصبح الاختصار على النحو التالي: أ.ي.ط.ق.ع، ولكنني تراجعت عن هذه الفكرة لسبب ربما لا يخفى على كثير منكم!
المعرفة أصبحت مشاعة للجميع، وتستطيع اقتباس الأفكار من كتب أجنبية أو مواقع وزارات التربية والتعليم في جميع دول العالم، أو تسافر إلى تلك الدول فتزداد حمل بعير من الأفكار والنظريات، وهذا بالضبط هو ما فعلته حين زرت مدرسة في إحدى الدول الأوروبية، فلاحظت أن أبواب دورات المياه فيها عبارة عن سبورات سوداء من الداخل، وبجانبها رف للطباشير، ومساحة، ويستطيع الطالب أن يعبر عن شعوره بكتابة قصيدة أو قصة أو الرسم أثناء قضاء الحاجة!
وعندما عدت للوطن كنت متحمسًا لنقل الفكرة إلى مدرستي، ولكن مديري رفضها بحجة أنها ستحتاج إلى ميزانية ضخمة لشراء الطباشير!
وللمعلومية.. فإن حقوق نقل، أو اقتباس، أو ترجمة هذه الفكرة محفوظة لي، وأحذر كل من تسول له نفسه من طائلة الملاحقة القانونية.
وما دمنا في سيرة الطباشير والسبابير (جمع سبورة)، فقد عاد أحد أصدقائي المبتعثين لنيل شهادة الدكتوراه إلى أستراليا من قبل الدولة، وكان يعمل معلمًا، يحمل معه هدية لي، فرحت بالهدية، ولما فتحتها كانت عبارة عن مجسم بقرة سوداء فاقع لونها مصنوعة من الخزف، وترتدي (جزمًا رجالية). وقد علق في رقبتها حبل في نهايته طباشيرة، وليس جرسًا كما هي العادة في أبقار الدنمارك، وقال لي وهو يضحك: هذه البقرة يا أبا إياد تضعها في المطبخ، لتكتب على ظهرها بالطباشير طلبات المنزل حتى لا تنساها كعادتك! فشكرته على الهدية رغم أنه كان يرمز من خلال هذه البقرة ذات الطباشير إلى حاجة في نفس يعقوب، وتمثلت شعرًا بقول توفيق صفوان في قصته المشهورة مع نعمة فزان مع بعض التصرف:
لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته
لكنت أهديتني الدنيا وما فيها
لكن تقبلت هذا الثور معتقدًا
أن الهدايا على مقدار مهديها
فكأنما ألقمته كرتون طباشير ملون!
الطريف في الأمر أن زوجتي كانت تكتب طلبات المنزل على البقرة، ثم أقرؤها، وأخرج إلى السوق لأشتريها، فأنسى نصفها، وأشتري بدلاً من ذلك أشياء لا يحتاجها المنزل، مما جعلني أضطر دائمًا إلى أن أحمل البقرة معي إلى السوق!