أرانب وسيرة ذاتية


حين قرأت نشيد «من أنا» في المرحلة الابتدائية الذي تقول كلماته:
جسمي نحيل ذيلي قصير
ولا أغني ولا أطـــير
وفوق جسمي شعر غزير
فروي جميل مثل الحرير
أقضي حياتي بين الجحور
من ذا أكون قل يا بشير؟
ومع أنني لست بشيرًا ولست أرنبًا إلا أنني أخذت أتساءل السؤال ذاته: صحيح.. من أنا؟! وبعدها أضفت إلى هذا السؤال الكثير من الأسئلة الوجودية الكبرى التي عثرت على إجاباتها فيما بعد في المقررات الدراسية، ومنذ ذلك الحين عرفت أهمية السيرة الذاتية في حياة الإنسان والحيوان على السواء أو أن يعرف المرء من هو تحديدًا!
ولأننا نولد على «الزيرو» فقد عرفت أهمية أن يصنع المرء سيرته الذاتية الحقيقية حتى يستطيع أن يكتبها يومًا ما دون تزييف كما أفعل أنا أحيانًا.
وعرفت أن مشكلتنا المزمنة أننا نهتم كثيرًا بسير آبائنا وأجدادنا حتى الجد الألف وننسى أن نهتم بصناعة سيرنا الذاتية الخاصة بنا نحن مع أننا نردد دائمًا البيت القائل:
إن الفتى من يقول هأنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
إلا أننا حفظناه على ما يبدو من أجل تسميعه في حصص الأناشيد والمحفوظات فقط وكتابته في دفاتر التعبير فحسب.
ولا أدري حقيقة ما سر كثرة الأرانب في كتب القراءة الرشيدة للأطفال وأناشيدهم وحكاياتهم وأشهرها السباق الشهير بين الأرنب والسلحفاة الذي انتهى بفوز السلحفاة ثلاثة صفر، وهي من خرافات (أيسوب)، ولها علاقة وثيقة بالسيرة الذاتية لأن المثابرة والجد والإصرار سبيل إلى النجاح بغض النظر عن القدرات البدنية، أو الأرنب المتعجل في قصة أليس في بلاد العجائب، وقصة الأرنب الذكي والأسد، ولا تنسوا أنشودة أرنب نط جاب لي خط، وأنشودة (هزار) المعروفة:
كان فيه أرنب
جالس يلعب
وأذكر أنني قلت لابني إياد أن يأكل الجزر حتى لا يحتاج إلى تعليق نظارات طبية مثلي فقال لي بكل براءة: (ليه يا بابا..أنا بغس بني؟!) يقصد الأرنب الذي يأكل الجزر في أفلام الكرتون!
والمصيبة أن أحد أصدقائي قال لي ذات مرة معاتبًا: يا رجل.. لقد رأيت بأم عيني الأرانب وهي تتقافز من مقالاتك!
الطريف أنني حين نظرت إلى وجهي لأول مرة في شريحة مرآة محاطة بالجبس على جدار بيتنا الطيني اكتشفت أنني ولدت بدون مزايا أو مواهب على الإطلاق لوالدين أميين متوسطي الحال، فأدركت وعورة الطريق الترابي الذي يجب أن أخوضه بعد (تنسيم) الإطارات الأربعة!
والآن أحمد الله تعالى على أني لم أولد جميلاً لأن من يولد جميلاً يضطر إلى إضاعة وقته للحفاظ على جماله، بينما يبحث الأشخاص العاديون عن الجمال في أماكن أخرى.
بعد كل إجازة صيف يأتي السؤال التقليدي في حصة التعبير: كيف قضيت في إجازة الصيف؟ وبعد كل إجازة ربيع يأتي السؤال التقليدي: كيف قضيت إجازة الربيع؟ مع أنه لا يوجد عندنا ربيع أصلاً!!، أو يأتي الموضوع التقليدي: اكتب رسالة إلى صديق. ولا أذكر في يوم من الأيام أن معلمًا علمنا كيف نكتب سيرة ذاتية أو طلب منا أن نكتب سيرة ذاتية لأنفسنا، وأكثر موضوعاتنا كانت عن الجمل سفينة الصحراء، أو بر الوالدين أو فصل الربيع. وحتى الآن ما زال موضوع الرسالة موجودًا في مقررات التعبير مع أن العالم صار يتراسل عن طريق الإيميل والمسنجر والبالتوك والآي سي كيو وغيرها.
كتبت سيرتي الذاتية عدة مرات مع قليل من الإثارة والتضخيم ورش التوابل الهندية الحراقة، ولكن على رأي المثل المصري: (قالوا الغراب بيعجن في القشطة. قال: كان بان على وشه) وذلك من أجل الحصول على وظائف مسائية أو مناصب إدارية معينة. وفي كل مرة أنتهي من كتابتها أقول لنفسي: معقول؟! هذه سيرتي أنا؟!
أصابتني حرفة الأدب فقررت البحث عن عمل مسائي يدر علي مبلغًا من المال، فوجدت إعلانًا عن إدارة حكومية بحاجة إلى مصحح لغوي بعمل مسائي، فشعرت لوهلة بأن هذه الوظيفة قد قدّت على مقاسي، ولأن من شروط الحصول على الوظيفة كتابة سيرة ذاتية وإرسالها على رقم فاكس معين فقد كتبت سيرة ذاتية أطول من سيرة أبي زيد الهلالي وسيرة الزناتي وسيرة سيف بن ذي يزن بدأتها بإهداء وتمهيد ومقدمة والشكر لجميع من ساعدني في كتابتها، ودعاء الكرب وشيء من أدب الكدية فقت به أبا زيد السروجي وأبا الفتح الإسكندري وختمتها ببعض التوصيات والنتائج ورسائل التوصية، وذكرت فيها أنني عملت مصححًا لغويًا لسنوات طويلة وكنت أعني فقط أنني كنت أصحح دفاتر الطلاب في مادة الإملاء والتعبير، والجماعة فهموا أنني كنت أعمل في قطاع ما مصححًا لغويًا، ومعنى ذلك أنني لم أكن أكذب، ولكنني كنت أتجمل فقط!
نجحت الخطة، وقابلت المسؤول الذي فوجئ بأنني أسكن في حي اسمه الدار البيضاء - لم آت له على ذكر في أثناء كتابة السيرة- يبعد عن مقر العمل ساعة تقريبًا في غير أوقات الذروة، ومع ذلك وافق علي مبدئيًا، رغم الفوارق الطبقية، ووعدني باتصال منه، ولكن بعدها بأيام تغير المسؤول الأكبر في هذه الإدارة ومنذ ذلك الحين لم يتصل أحد!
الغريب أني بعدها بسنوات عملت مصححًا لغويًا في مؤسسة إعلامية مرموقة دون أن أضطر للكذب أثناء كتابة سيرتي الذاتية.
ومادام الحديث عن التصحيح اللغوي فقد عملت (وبالمجان) في تصحيح رسالة الدكتوراه في التفسير لأحد أقاربي بعنوان «............»، وقد كلفتني في حدود مئة «براد» شاي أسود، وعلى اعتبار أن براد الشاي الواحد لا يكاد يكفي لتصحيح عشر صفحات فباستطاعتكم تخمين عدد صفحات الرسالة لأنني فاشل في الحساب مع مرتبة الشرف الأولى.
مشكلة السيرة الذاتية أنك يجب أن تغيرها في كل مرة تطلب فيها عملاً مختلفًا، فمثلاً لو رغبت في العمل في مدرسة ابتدائية أهلية يجب أن تذكر في سيرتك أنك تحب الأطفال، وأما لو كنت راغبًا في العمل في دار للمسنين فيجب أن تذكر أنك تحب المسنين خصوصًا بعد وفاة جدك الذي كنت متعلقًا به تعلقًا شديدًا.
وأما لو كنت ترغب في وظيفة أمين صندوق فمن الجيد أن تذكر أنك بخيل للغاية!
بلا شك عندنا مشكلة في التعريف بأنفسنا رغم أننا مشهورون بحب الحديث والثرثرة (لدرجة أننا أفردنا زاوية كاملة للثرثرة وأسميناها ثرثرة) ومع ذلك ينفض المجلس دون أن نتعرف على بعضنا جيدًا أو نعرف بأنفسنا وشهاداتنا، أو نعرف بأنفسنا في خجل، وحين يغص المجلس بالحضور يبدأ كل منا يسأل جاره: من ذاك الذي يرتدي غترة و«مسوي سكسوكة»؟ ومن ذلك الذي «فاتح خشته» يضحك.. ومن ذلك الذي معه جوال «إن 95»؟ وهكذا، وتنتهي الجلسة ونحن بالكاد نعرف أن هذا اسمه أبو فلان فقط دون أن نعرف اسمه الحقيقي ولا منصبه ولا شهاداته العلمية!
ومشكلتنا أنه حين يعرف الإنسان بنفسه يقال عنه مغرور أو ثرثار، أو «شايف نفسه» و«راز خشيمه»، نصمت طويلاً أمام الغرباء ولكن حين ترتفع الحواجز النفسية بيننا نغدو ثرثارين، وأذكر أن اثنين كانا مسافرين في سيارة لساعات، ولحب كل منهما للاستئثار بالحديث فقد اتفقا على أن يتحدث كل منهما خمس دقائق ليعطي «المايك» للآخر بعدها، بدأ الأول يتحدث بينما الآخر ينظر إلى ساعته كحكم دولي في الوقت بدل الضائع، وحين انتهت الدقائق الخمس ولم ينته صاحبنا من «سالفته» رمى الشماغ والعقال في حجر صاحبه وقال له: طلبتك خمس دقائق أخرى!
اكتشفت أن عددًا كبيرًا من المعلمين يملكون سيرًا ذاتية جميلة ومشرقة وتبشر بخير. أدباء ، وكتاب، وشعراء، وخطباء جوامع، ودعاة، وتجار عقار، ومسوقون، ومصورون تلفزيونيون، وممثلون، ورجال أعمال، وحكام كرة قدم، وألعاب أخرى متنوعة، وأبطال في ألعاب قتالية، وغيرها، ومقدمو برامج، ومع ذلك لا نعرف لا نحن ولا وزارتنا الحبيبة شيئًا عنهم، وكثير من العظماء بدؤوا حياتهم العملية معلمين، وكتبوا ذلك في سيرهم الذاتية وأخص طيب الذكر الحجاج، وسيئ الذكر موسوليني.
وفي المدرسة التي أعمل بها اكتشفت وجود عدد من المعلمين يقرضون الشعر الفصيح والشعبي ويؤلفون المسرحيات التربوية ويكتبون المقالة.
وبدلاً من جمع البيانات عن المعلمين وتحديثها سنويًا لم لا يتم جمع سير المعلمين الذاتية، ونشرها في كتيبات خاصة لمن يرغب على الأقل، بل حتى على مستوى المدرسة ولأن التعلم يتم عن طريق القدوة، فيجب أن يتعرف الطالب على سيرة معلمه الذاتية ويقرأها في لوحة خاصة لأني لاحظت كثيرًا من الطلاب لا يعرفون أسماء معلميهم، وحين يأتي أحدهم ليبحث عن معلم في غرفة المعلمين يقول: «وين أستاد الفيزياء، الطويل، أبو نظارات ،اللي معه كابرس صابونة؟، أو وين أستاد النحو، القصيّر ولا هو بحقران له، أبو نظارات، اللي دقنه إماراتية، ومعه كامري ألفين ذهبية؟».
سيرتي الذاتية بسيطة للغاية وتشبه سيرة الإنسان على هذه الأرض، وسيرة الإنسان رغم ضعفه بدأت منذ سنين طويلة حين تعلم سرقة البيض من تحت الدجاجات، ومص الحليب من ضروع الثدييات، والتقاط الثمار من على الأشجار، والحبوب من النباتات، والجذور من تحت الأرض، ثم انتقل إلى الزراعة، وتربية صغار الحيوانات بعد أن يقتل أمهاتها.
ولأهمية السيرة الذاتية فقد ابتكرت مؤسسات كبرى خدمة صناعة سيرة ذاتية لمن لا يمتلكها، وتستطيع عن طريقهم الحصول على تذاكر سفر وهمية تثبت أنك زرت بلدانًا معينة وأقمت بها للدراسة أو العمل، وتستطيع الحصول على عدد من الصور المفبركة بجوار برج بيزا المائل دون أن تكون خائفًا من أن يسقط على رأسك المليء بالأكاذيب أو بجوار ساعة بيج بن ، أو في الساحة الحمراء وأنت ترتدي لباس البحر!
كثير من الكلمات الطويلة في اللغات الأجنبية يتم ابتكار اختصارات حرفية لها، فالسيرة الذاتية (curriculum vitae) تصبح «سي في»، ودورة المياه تصبح «دبليو سي»، وعملية الإنعاش تصبح «سي بي آر»، ووحدة المعالجة المركزية تصبح «سي بي يو»، والكمبيوتر الشخصي يصبح «بي سي»، والقرص المدمج يصبح سي دي، ومكيف الهواء يصبح «أيه سي»، وهكذا.. وبينما تكاد تخلو اللغة العربية من مثل هذه الاختصارات الحديثة عدا ما ابتكره أجدادنا العلماء القدامى من اختصارات في مصطلح الحديث مثل «ثنا» و«نا» أو الجبر أو غيره من العلوم.
هذه الأيام بدأ كثير من أطفال المدارس في الدول النامية في كتابة سيرهم الذاتية على الكمبيوتر الأخضر المحمول «??» الذي ابتكره المهندس السويسري إيف بيهار، والذي تبلغ تكلفته مئة دولار فقط، تحت إشراف نيكولا نيجروبونتي مؤسس مختبرات ميديا لاب التابعة لمعهد التكنولوجيا في ولاية ماسا شوستس، ونحن في وزارة التربية والتعليم ننتظر بشغف ما يمكن أن تتمخض عنه هذه التجربة الرائدة، وأنا شخصيًا أعجبني شكل هذا الحاسوب الصغير خاصة أن لونه الأخضر والأبيض مناسب جدا لعلم دولتنا الحبيبة، وأتمنى لو حصلت على واحد مثله لأكتب عليه مقالي هذا، لكن «من شافك يا اللي في الظلام تغمز؟!».

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية