اشتر المذكرات ودع عنك الكتب

أحببت القراءة منذ رأيت أخي يعود من المدرسة يركض حافيًا وهو يكاد «يتشقق» من الفرحة، وقد حمل بجوار «حذيانه» هدية نجاح عبارة عن كرتون «حلاو نظارات»، وأولى الكلمات التي تعلمتها في مادة الهجاء كانت: قرأ، كتب، زرع، حصد..
ولذلك عرفت في سن مبكرة الارتباط الوثيق بين القراءة والكتابة، كما يرتبط الحصاد بالزراعة، فإذا كان من لا يزرع لا يحصد، فبالتالي إذن من لا يقرأ لا يكتب. ولكني قلت في نفسي حينها: «إنا لله.. الحصاد ورانا ورانا حتى في المدرسة؟!».
عرفت قيمة الوقت والقراءة في سن مبكرة، لأن أول هدية حصلت عليها من المدرسة كانت ساعة حائط، ومجموعة قصص للأطفال.
كنت في الصف الأول الابتدائي، وقدمت حفل المدرسة المتواضع الذي أقيم بعد صلاة العصر، قبل أكثر من ثلاثين عامًا (بالأبيض والأسود)، في مدرسة مبنية من الطين ومسقوفة بخشب الأثل وجريد النخل، فأهدتني المدرسة ساعة حائط وسلسلة قصصية. ورغم أنني كنت أتمنى أن تكون هديتي ساعة يد، و«تنكة طحينية» إلا أنني بفضل ساعة الحائط تعلمت قراءة عقارب الساعة التي لم أكن أجيد قراءتها، وبفضل القصص دخلت عالم القراءة من باب مدخل «الرجاجيل»!
الجائزة كانت رسالة واضحة، وأنا فهمت الرسالة، وهي أن الوقت ثمين، ويجب أن تستغله في القراءة.
في السنة التي تليها حصلت على هدية طقم أقلام، ورغم أن أخي الأكبر صادر عليّ الجائزة بحجة أنني مازلت أكتب بقلم الرصاص، إلا أنني فهمت الرسالة: «اقرأ لتكتب»!
بعد أن نجحت من الكفاءة المتوسطة، كانت جائزة نجاحي عبارة عن حقيبة سفر متوسطة الحجم، مملوءة بالكتب، وبعضها مايزال موجودًا عندي حتى الآن: صفوة التفاسير للصابوني، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي، ومباحث في علوم القرآن لمناع قطان، ومجموعة صور من حياة الصحابة، وصور من حياة التابعين لعبدالرحمن رأفت الباشا، وغيرها كثير.
فهمت من هذه الهدية شيئين: لا تسافر إلا ومعك كتب، وحين تسافر ابحث عن الكتب.
وفي إحدى المرات كنت عائدًا من دولة خليجية، ومعي بعض الكتب، وحين سألني رجل الجمارك عنها قلت له: هذه استعمال شخصي! وتعرف باقي القصة.
الآن أكثر الجوائز التي توزع على الطلاب عبارة عن مواعين: طقم أكواب، طقم سفرة، ترمس شاي، طقم كبك وحاملة مفاتيح ومحفظة، وحتى الطلاب أنفسهم يتذمرون بسببها.
ما الرسالة التي يفهمها الطالب من خلال هذه الجوائز؟
إن أهم شيء هو الأكل، والمظهر فقط..
أين اختفى الكتاب؟ لا أدري!
في المدرسة الابتدائية، كان عندنا مكتبة، ولكنها كانت مهجورة، ومغبرة، وليس بها أمين ولا خائن، ولذلك لم تكن تفتح إلا «للشديد القوي»!!
في المتوسطة والثانوية كان عندنا مكتبة ضخمة ومنظمة على تصنيف ديوي العشري، وكان بها أمين منظم، ولكن كان الوقت الوحيد الذي أستطيع زيارتها في هو وقت الفسحة الذي لا يتجاوز نصف ساعة، ولذا كنت أفضل أن أقضيه في الأكل والتسكع. أما حين يصحبنا المعلم إلى المكتبة فقد كان ينتهي وقت الحصة وهو يردد: «اسكت يا ولد..اسكت يا ولد!!».
في المعهد العلمي درسنا كتاب مع الرعيل الأول لمحب الدين الخطيب، وكان المعلم (أو الشيخ كما كنا نسمي جميع المعلمين حينها) أزهريًا محبًا للقراءة، وحين اكتشف أني أشتري الصحيفة يوميًا لمتابعة أخبار الرياضة، وخاصة أخبار النصر (لأني كنت نصراويًا حينها) قال لي: «يا ولد يا سعيد..دع عنك أخبار الرياضة، واقرأ المقال، لأن المقال عصارة مخ الرجال..» وحتى هذه اللحظة كلما قرأت مقالاً لرجل شعرت بأنني أكلت ساندوتش مخ، وربما هذا ما سبب لي ارتفاع الكوليسترول عندي!
أما مقالات النساء فلن أتحدث عنها لأني أخاف أن تغضب مني الحركة النسوية ، ويعلم الله أن بيني وبين عدد من الفلاسفة وقفة نفس بسبب نظرتهم الدونية نحو المرأة، وأخص بالذكر «أفلاطون»، و«ديكارت»، و«كانط»، و«روسو»، و«فرويد»- رائد مدرسة التحليل النفسي.
توقفت عن قراءة صفحات الرياضة، وملاحق الرياضة، ومتابعة المباريات عملاً بنصيحة الشيخ، وتحولت من تشجيع النصر إلى الهلال لأن الهلال كان يفوز دائمًا في تلك الأيام، وإلى هذه اللحظة لا أتابع كرة القدم، ولا أفهم فيها شيئًا، ولا أعرف أسماء اللاعبين، ولا أعرف معنى مباراة «ديربي»، ولا كيف يكون هدف ما نظيفًا وآخر وسخًا، ولا متى يقع التسلل!
أعشق رائحة الحبر، والكتب التي تقدح شرارة الوعي، أو التي تنمي حس الدعابة، لأن «كل كاتب-كما يقول فولتير- يستطيع أن يحزنك، ولكن العبقري وحده هو من يستطيع أن يضحكك»، وأكره التي تمتلئ بالأحزان، وتفوح منها روائح الموت الخانقة. وأوزع عددًا من الكتب في السيارة، والمجلس، وفي غرفة النوم، لتكون أمام نظري في كل وقت.
وجميع كتبي دسمة، ليس لصعوبة مادتها العلمية، ولكن لأني أقرأ فيها على الغداء أو العشاء، وأدسّمها بالشحم واللحم!
وأتبادل الكتب مع عدد من أصدقائي هواة القراءة توفيرًا للنفقات، لأن سعر كتاب واحد يمكن أن يشتري «قطمة رز» أو «نفر مندي» أو كرتون دجاج (مجمد) خوفًا من إنفلونزا الطيور!.
وحين أقرأ كتابًا للمرة الأولى أشعر أني كسبت صديقًا جديدًا، وحين أقرؤه مرة ثانية أشعر أني ألتقي صديقا قديمًا كما يقول «أوليفر سميث».
وذات يوم قال لي أحد الأصدقاء وكان ثريًا، ولكنه يعاني أزمة نسيان تنتابه أحيانًا: «تصدق.. وجدت في أحد الكتب في مكتبتي ثلاثة آلاف ريال كنت قد وضعتها بداخله ونسيتها!!».
ما كذبت خبر، فاستعرت جميع الكتب التي عنده، وقرأتها صفحة صفحة!
في الجامعة كنت أحرص على شراء الكتب التي يطلبها الدكتور منا، وغالبًا ما يكون كتاب الدكتور نفسه. ورغم أن مكافأة الجامعة التي تبلغ ثمانمئة ريال لا تكاد تكفي للأكل و«قطة الشقة» وبنزين السيارة إلا أنني بقيت حريصًا على شراء الكتب، وإلى الآن موجودة عندي وعلى كل واحد رقم السنة والفصل الذي اشتريته فيه هكذا: 1/1 لغة عربية 2/2 لغة عربية، حتى قال لي أحد الزملاء : «إنت صاحي والا مهبول؟ اشتر المذكرات، ودع عنك الكتب».
والغريب أن علماءنا يقولون: «من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه!!».
ما هي إلا سنوات حتى مضى قطار العمر، وعملت معلمًا والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. و«قرافيش الغنم تجي خرفان» كما يقول أجدادنا، فأخذت أشتري الكتب التي لها علاقة بالتربية والتعليم، أو التي لها علاقة بدروسي التي أدرسها لطلابي في المرحلة المتوسطة، مثل: ديوان لشاعر في المقرر، أو كتاب للجاحظ، أو نظرات المنفلوطي، أو كتاب للزيات، وكنت آخذ الكتاب معي إلى المدرسة، وأعرضه عليهم، وأطلب من بعضهم قراءة النص الأصلي كاملاً منه، ولكني أصبت بإحباط شديد حين وجدت أنهم في نهاية كل حصة يسألون السؤال المعتاد ذاته: «يا أستاذ..هذا سيأتي في الاختبار أم لا؟» وحين أجيب بالنفي يقولون: (أشوى!!)
اكتشفت منذ مدة أن دفتر التحضير مثل رخصة القيادة، يظل رجل المرور يسألك عنها قبل أن تحصل عليها، ويسجل عليك مخالفات بسبب عدم وجودها، وحين تحصل عليها لا يسألك عنها.
ولذلك صرت لا أهتم بدفتر التحضير، وأضحي بدرجته التافهة في تقويم الأداء الوظيفي، وأقضي حصص الفراغ والانتظار في القراءة. ولكن يحز في نفسي أن كثيرًا من الزملاء يقولون لي بالمحكية عادة وبلغة الخبير: «يا رجّال.. خل عنك القراية. ترى القراية بتلحس مخك» ويبدو لي أنهم كانوا على حق!!
من الضروري لكل أحد تعلم طريقة القراءة الصحيحة، و«الشخص الذي يقرأ دون أن يعرف كيف يقرأ – كما يقول ويل روجرز- ليس أفضل حالاً من الذي لا يقرأ».
وتعتمد طريقة القراءة المتعمقة على خطوات سهلة تعلمتها، وعلمتها لطلابي، وهي باختصار:
اقرأ فقرة، ابحث عن الجملة المفتاحية فيها، اسأل سؤالاً على الجملة المفتاحية، أجب عن السؤال من ذهنك، انظر إلى الكتاب وقارن بين إجابتك وبين ما في الكتاب.إذا كانت إجابتك خاطئة فأعد قراءة الفقرة، وهكذا. وبفضل هذه الطريقة صار الطلاب يفهمون ما يقرؤون، وصرت أرتاح من الإزعاج في حصة القراءة لأنهم كانوا يقرؤون بصمت!!
أكره الفضوليين الذين «مع أن ما في رأسهم قراءة إلا أنهم يحرصون على قراءة عنوان الكتاب الذي أقرؤه. في طائرة أو مقهى أحتسي بهدوء كوب «كابتشينو» أو في صالة انتظار، وأتعمد إخفاء العنوان عنهم، وأحيانًا أفضل الانزواء بعيدًا عن أنظارهم في أماكن بعيدة حتى العشاق لا يجرؤون على ارتيادها.
وحاليًا يوجد ما يسمى بالكتاب الإلكتروني «e-book»، وهو عبارة عن جهاز بحجم الكتاب متوسط القطع تقريبًا، وواجهته الأمامية كلها شاشة عرض، وتستطيع أن تحمل فيه أي كتاب وتقرؤه، ثم تحمل غيره.
وقبل فترة تعلمت طريقة جيدة للقراءة وهي تحميل مقاطع من أي كتاب بلغة وورد على الجوال، وقرأت بفضلها أجزاء كبيرة من كتاب تاريخ الحضارة لـ«ويل ديورانت». وكان كل من يراني منهمكًا في القراءة يعتقد جازمًا أنني أتفرج على مقاطع بلوتوث خاثرة !
10% من طلابنا مصابون بـ«الديسلكسيا» وهو مرض صعوبة القراءة والكتابة، وكثير من المعلمين مع الأسف لم يسمعوا بهذا المرض مع الأسف، ويظنون أن «تكفيخ» الطالب سيساعده على تعلم القراءة.
وكثير منا مع الأسف مصابون بمرض «البيبليوفوبيا» وهذا المرض هو الخوف من الكتب، وأنا بدأت تظهر علي أعراض هذا المرض حين عملت أمين مكتبة مدرسية.
وأخوف ما أخافه حاليًا هو أن تكون نهايتي تحت أنقاض الكتب كما حدث مع الجاحظ الذي لم يشفع له أنه كتب يومًا: «الكتاب وعاء ملئ علمًا، وظرف حشي ظرفًا، وإناء شحن مزاحًا»!!


عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية