إجازة ختان!
- بوصفي أحد منسوبي وزارة التربية والتعليم فقد قررت أن أقضي إجازتي السنوية في اليابان لأطلع عن كثب على التطور العلمي هناك، ولكنني عدلت عن هذا القرار بعد أن شاهدت ما شاهدت وقرأت ما قرأت!
فقد شاهدت في التلفزيون، وقرأت في الصحف عن حمامات «النودلز» في اليابان، ورأيت بأم عيني الأطفال مع آبائهم، وهم يستحمون شبه عراة ويلعبون بالمعكرونة، ورأيت عامل الحمام وهو يصب صلصة الصويا في الماء، فلم ترق لي الفكرة، ورغم أنه يقال إن حمام «النودلز» مفيد للهضم وغيره.. إلا أنني أفضل الإصابة بإمساك مزمن على أن أستحم في حمام إندومي!
وقلت بيني وبين نفسي: أهذه هي التربية اليابانية التي نحلم أن نصل إليها؟!
وتذكرت حين كان أهلنا يقولون لنا إن القرود كانت بشرًا مثلنا، كانوا يستحمون باللبن، ويستجمرون بالقرصان!
- تذكرت حين كنا في طفولتنا نسب ونشتم «كعكي» أو «كوكي» الدمية الظريفة التي في برنامج افتح يا سمسم المترجم من النسخة الأمريكية «سيسم ستريت».
لماذا؟
لأنه كان يكسر الكعك أو البسكوت (النعمة)، وكأنه يأكله، بينما هو لا يفعل ذلك، بل يترك النعمة (الله لا يعاقبنا) تتساقط على الأرض لأنه مجرد دمية تتحرك بواسطة يد بشرية، ولكن المخرج الأمريكي «عاوز كدا»!
ما أعجبني في الثقافة الأمريكية الموجهة للطفل هي قدرتهم على إعطاء دور البطولة لأي مخلوق مهما ضعف، فمثلاً السلاحف البطيئة تحولت بقدرة قادر إلى أبطال «الننجا»، والعنكبوت والوطواط تحولا إلى رجال أبطال تجاوزوا «سوبر مان»، والخنزير القذر تحول إلى «بومبا» الحيوان الظريف المحبوب، والفأر تحول إلى «ميكي ماوس» البطل أو «جيري» المحبوب عدو القط «توم» اللدود، والآن جاء الدور على البطريق، والسلسلة لا تنتهي..
وحين حاولنا تقليدهم أنتجنا فيلم الحاشي «جمول» بطل الصحراء، والضب «زاحف» واليربوع والضبع «خرمس» والغراب «نمام» وطير أم سالم «سلومة»..
لم أكن أستمتع بالإجازة في طفولتي كثيرًا، لسبب بسيط هو أن الوقت الذي كنت أقضيه على كرسي الدراسة أقضيه عاملاً في المزرعة أو «الكد» كما كنا نسميه حينها، وكان اسمًا على مسمى بالفعل!
وفي إحدى الإجازات ونحن في الطريق إلى (الكد) كنا ستة إخوة في سيارة والدي الوانيت غمارة واحدة، موديل 77. طبعًا كنا نركب في صحن السيارة أو الحوض كما يسميه البعض، ليس لأن السيارة ضيقة، ولكن لأننا كنا نريد أن نشم الهواء العليل!
فجأة.. والسيارة تسير ببطء كسلحفاة عجوز رأينا علبة بسكويت ملقاة على الأرض، فرمى أحد إخوتي طاقيته من على رأسه فوقعت بجوار البسكوت، ثم طرق سطح الغمارة أو التنده.. وقال لوالدي: «يبه..يبه..طاقيتي طارت من السرعة!!».
أي سرعة يا «بكّاش» والسيارة تسير على طريق ترابي ؟!
توقف والدي فجأة.. ونزل أخي والتقط البسكوت أولا ثم الطاقية، وجاء يركض، وقد التهم بعضًا من البسكوت (بدل نقل).. لنوزع الباقي بيننا بالتساوي.
وللأمانة التاريخية.. فقد كان تاريخ صلاحيته ساريًا.
المشكلة أن الإجازة انتهت، وعيوننا تعمل كرادارات تفتش عن علبة بسكوت أخرى ملقاة على الأرض دون جدوى!
والآن.. لا أستغرب حين أسمع أن شركة ما لا تمنح موظفيها إجازة سوى أيام الأعياد الإسلامية والمسيحية لأنني أتذكر أننا لم نكن نستريح من العمل في «الكد» سوى يوم العيد، وبشرط أن نوفر الطعام للمواشي قبل يوم العيد!
- أجمل إجازة قضيتها في حياتي.. كانت إجازة صيف قضيتها في الرياض قبل ثلاثين سنة، قادمًا من قريتي الصغيرة التي لا تظهر على الخريطة. كنت وقتها فرحًا بنجاحي من الصف الثاني إلى الصف الثالث رغم أنني لم أحصل على هدية، إلا أن هذه الرحلة كانت لي أعظم هدية!
طبعًا.. وكأي طفل «بورجوازي» مثلي فقد كان الهدف من الرحلة هو الاستجمام، وزيارة الأماكن السياحية، والمعالم الأثرية في مدينة الرياض، والترويح عن النفس، والسكن في أفخم فنادق الرياض، واللعب في ملاهي الرياض.
لا تصدقوا.. فقد كان الهدف من الرحلة هو ختان أو (تختين) أخي الصغير «مبارك»، وهو الآن مصور تجاري معروف لدى طبيب شهير، ولم يكن هناك لا استجمام ولا زيارة للملاهي ولا يحزنون، ولم يكن هناك فنادق فخمة بل سكنت في حي غبيرة في منزل خالي.
وفي السنة التي تلتها طلبت من والدي أن نذهب للرياض لختان «مبارك» مرة أخرى، ولكنه مع الأسف رفض وقال: «إذا كنت مصرًا على الذهاب فسنقوم بختانك أنت»!!
- ياااااااااااه..
تعجز اللغة أحيانًا عن وصف شعور شخص ما، لأن اللغة واسطة نقل مشوشة.. على رأي «جاك دريدا». لن أنسى تلك الإجازة، ولا تلك الشقة المفروشة ما حييت!
تخيل أنك نائم في أمان الله، على سرير مرتفع، في غرفة مظلمة، بأرضية سيراميك، وفجأة تستيقظ وتجد نفسك لوهلة معلقًا في الهواء، وتكتشف بالصدفة كيف يعمل قانون التجاذب مع من تزيد أوزانهم عن ثمانين كيلاً!
هيا الآن..
صفوا لي شعوري حين ارتطمت ليلتها بالسيراميك!
أنا شخصيًا أعجز عن وصف ذلك الشعور.
أحد الإخوة السودانيين يعمل في مكتب لبيع العقارات قال لي متذمرًا: «هذا مو اسمه سيراميك.. هذا اسمه سَيَرميك( من الفعل رمى)».
وأغلب إصابات الكسور لدى طلاب مدرستنا بسبب السيراميك، ولا أستغرب أن تتجاوز أعداد مصابي حوادث السيراميك أعداد مصابي حوادث السيارات قريبًا!
- على الرغم من أننا نحب الإجازات أكثر من العمل إلا أننا حقيقة مع الأسف لا نملك ثقافة قضاء الإجازة، ولا نستعد لها بالترتيب والحجز المسبق، ونضطر إلى السفر عن طريق الانتظار في المطار، ونعجز عن حجز العودة، فنصل متأخرين، ونعود متأخرين، ونبحث عن شقة أو فندق في إحدى الدول فنفاجأ بأنه لا يوجد شقة أو غرفة شاغرة، ولا نتعرف على المعالم السياحية في البلدان التي نقصدها، ولا نتابع الفعاليات الأدبية، ولا المعارض الثقافية، ولا نحمل خرائط سياحية، وندخل السينما متأخرين عن بداية الفيلم كالعادة لننام على المقاعد الخلفية، وننشغل عن متابعة الفيلم بمتابعة ردات فعل الجمهور، ومحاولة البحث عن وجوه نعرفها!
- أكثر من يعرف قوانين وأنظمة العمل والإجازات هم الموظفون الذين يحبون اللف والدوران، ولأنني لست من هذه النوعية فقد أمضيت عدة سنوات منذ التحقت بالعمل معلمًا، ولم أعرف أن هناك شيئًا اسمه إجازة اضطرارية (كانت خمسة أيام في كل فصل دراسي على ما أعتقد) يحق للمعلم أن يحصل عليها.. ولأن الحديث ذو شجون فقد كنت أتحدث مع أحد أصدقائي عن ظروف تمر بي تستدعي الغياب لمراجعة بعض الإدارات الحكومية، فقال لي: لماذا لا تأخذ إجازة اضطرارية؟ ولما لاحظ جهلي التام بهذه الإجازة، لم يستغرب، بل روى لي قصته حين تعرف على هذه الإجازة.
يقول: «علمت بخبر الإجازة الاضطرارية من زميلي في العمل، فكتبت معروضًا موجهًا إلى المدير الشيخ، وكان رجلاً رقيق المشاعر، قريب الدمعة، فكتبت في العريضة أو المعروض:
«يا صاحب الفضيلة..
فجأة.. وعلى حين غرة..ودون سابق إنذار، داهمتني ظروف حرجة قاهرة، ظروف بذلت جهدًا جهيدًا للتغلب عليها، لكنني مع الأسف هزمت أمام هذه الظروف شر هزيمة عرفها إنسان!
يا صاحب الفضيلة..
لقد ماتت الكلمات في فمي، وانتحر الحرف أمام ناظري، وولت الجمل هاربة خلف ضباب كثيف من الحلكة والقتام!
يا صاحب الفضيلة..
لقد عجم اللسان عن الكلم، وجفت الشفاه، وتيبس الرضاب.. لم لا يا صاحب الفضيلة؟ وهاأنذا أبحث عن ريقي فلا أجده!
يا صاحب الفضيلة..
باسم حبيبات الرمل، وذرات الهواء، وجزيئات الماء، وقطرات الندى، بل باسم الإنسانية المعذبة.. أرجو أن تقفوا معي حيال هذه الظروف وقفة إيجابية، وذلك بمنحي إجازة اضطرارية لأيام سبعة.
ودمتم،،،،»
يقول صاحبي: إن المدير الرقيق حين قرأ بداية «المعروض» لم يستطع إكماله، بل سحب سلة المهملات وأفرغ ما في جوفه بداخلها، وقال بالمحكية: عسى دارك ما هي بشابّة(محترقة)؟
فقلت: لا.
فقال: عسى ما أحد من إخوانك مات؟
فقلت لا. فقط أريد إجازة لظروف خاصة.
فقال: لك مني ثمانية أيام مع السبعة، بشرط أن تغير صيغة هذه العريضة، لئلا تحترق أوراق الأرشيف!
فكتبت عريضة جديدة تقول:
«صاحب الفضيلة..
أرجو منحي إجازة اضطرارية لأيام سبعة..ودمتم،،»
وأعطيته العريضة، فقال: أنت –عاد الله يهديك- مثل «ناقة عريمان»، إن ثارت نارت، وإن بركت ما قامت!
فقلت له: أسهبت -طال عمرك- ولم يعجبك الإسهاب، وأوجزت فلم يعجبك الإيجاز..فماذا أصنع؟
سألت صاحبي: وكيف حفظت صيغة العريضة رغم مرور سنوات طويلة على كتابتها؟
فقال: إن فرّاش المدير أخبر الموظفين بما حدث مع المدير حين قرأ العريضة، فأخذوها، وسحبوها على «الاستنسل»، وصاروا يقرؤونها في مكاتبهم، ويطلبون مني إعادتها على أسماعهم في جلساتنا الخاصـة!
- عاصرت أثناء عملي في التعليم أكثر من ثمانية من مديري المدارس، في التعليم الصباحي والمسائي، وكنت أنشد بعد زوال غمة بعضهم بيت الجواهري الشهير:
باق وأعمار الطغاة قصار
من سفر مجدك ماطر موار
وبعضهم كنت أنشد مع السمو أل كما أظن :
إذا مات منا سيد قام سيد
قؤول بما قال الكرام فعول
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
وبعضهم لا أنفكّ عن ترديد بيت ابن زيدون الأندلسي:
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا
شوقًا إليكم ولا جفّت مآقينا
أحدهم رغم احترامي الكبير له أتيت إليه في مكتبه قبل بدء الحصة الأولى، ووقعت في دفتر الحضور، وأنا في حالة يرثى لها من الإعياء والمرض، وطلبت منه تحويلاً إلى الوحدة الصحية، فحاول إقناعي بالعدول عن قراري، ومتابعة الحصص، وتحت إصراري وإلحاحي الشديدين رضخ للأمر، ومنحني ورقة مراجعة للوحدة الصحية، وذهبت للوحدة، فوجدت أطباء الوحدة في جولة على المدارس. ولما عاد أحدهم كشف علي، ولم يمنحني إجازة ولا ليوم واحد، بل منحني ورقة مراجعة فقط!
عدت للمدير ذاته من الغد، فطلب مني ورقة الإجازة أو سيعتبرني غائبًا، فقلت له: أنا أصلاً لم أغب، بل استأذنت لمراجعة الوحدة الصحية فقط، وقد وقعت في دفتر الحضور، فلم يدر بماذا يجيبني، وانتهى الموقف على خير.
وحين رزقت بابني البكر «إياد» أتيت إليه وقد غبت يومًا بسبب البقاء في المستشفى طوال الليل بجوار زوجتي في انتظار المولود، فبارك لي بالمولود، واقترح علي أن يمنحني إجازة اضطرارية لذلك اليوم، فأجبته بأن لدي عذرًا طبيًا وهو عبارة عن مرافق لزوجتي، فلم يصدق، وقال: كيف تكون مرافقًا في قسم النساء والولادة وهو مخصص للنساء فقط؟!
فقلت له: إن الولادة قد تمت في غرفة مستقلة بمستشفى خاص، وأعطيته ورقة العذر موقعة من الطبيبة، وهو بين مصدق ومكذب، ولم يدر أن هذا العذر قد كلفني اثني عشر ألف ريال بسبب بقاء إياد في الحاضنة تحت الأكسجين لأيام لأنه كان مثلي ولدًا مؤدبًا ولم يصرخ حين خرج من بطن أمـه!