بمناسبة يوم 5 أكتوبر المعلم يستحق المساعدة!

 

ياااااه.. كم أتمنى لو كنت شاعرًا أو شعرورًا أو حتى شعيريرًا أو ناظمًا أو قاضمًا لأنظم قصيدة فصحى في مدح المعلم على نمط قصيدة شوقي: «قم للمعلم وفه التبجيلا» أو على نمط:

«جَاذَبَتْني ثَوبي العَصيَّ وقالَت:

أنتم الناس أيها الشعراء»

بإبدال لفظة الشعراء إلى «المعلمون»..(وهذا البيت من قصيدة غزلية لشوقي، من أراد المبيت في قسم الهيئة فعليه بتطبيق ما فيها)، أو حتى قصيدة شعبية سامرية على غرار:

«كل المعلمين كلهم..لا فرق الله شملهم»

فتسير بها الركبان على ظهور الطائرات، والبواخر، والسيارات، ومترو الأنفاق في كل أصقاع الوطن العربي، بل وتترجم إلى جميع لغات العالم.. وذلك إيمانًا مني بأهمية الدور الذي يلعبه المعلم في هذه المجتمعات التي ترتفع نسبة الخصوبة في أرحامها!

وجميع الحقوق محفوظة لأصحاب النصوص الأصلية..ولكن بشرط أن يراجعوني شخصيًا لاستلام حقوقهم قبل يوم 5 أكتوبر وهو تاريخ اليوم العالمي للمعلم!

ولكن (وبكل جدية) يكفيك أيها المعلم فخرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت معلمًا».

وبكل جدية هذه المرة أيضًا.. فمع أنني درست ودرّست (بتشديد الراء) الأدب والبلاغة والنقد والنحو على مدى سنوات إلا إنني لا أحفظ من عيون الشعر العربي سوى قصيدة:

الولد النظيفُ..منظره ظريف

والولد المستقذرُ.. هو الذي يحتقر

ولا يحبه أحد.. من كل سكان البلد

وقصيدة:

قطتي صغيرة.. واسمها نميرة

لعبها يسلي.. وهي لي كظلي

عندها المهارة..كي تصيد فارة

وخلووووها!

الطريف والمخجل في آن معا أن أحد المعلمين- أمد الله في عمره- أثناء شرح قصيدة «الولد النظيف» كان يخرج طالبين أحدهما «بورجوازي» (ولد نعمة، ومهضوم)، ليمثل شخصية الولد النظيف، والآخر «بروليتاري» كادح ورَثّ الحال و«جيكر» ليمثل شخصية الولد المستقذر.. وكان أحدهما يعود إلى مقعده باكيًا، وتعرفون من هو!

- كم أتمنى لو كنت كاتبًا لأمتدح المعلمين يوميًا.. ولو كنت كاتبًا لما قنعت بزاوية أو عمود في صحيفة يومية أمتدح المعلمين فيها، ولن يكفيني سوى «بلوك» على أربعة شوارع في الصفحة الأولى أو الأخيرة!

ولذلك فلا أحسن أن أكتب كغيري: إن المعلم يعد العمود الفقري للعملية التربوية، وهو محورها الرئيس، والقلب النابض للنظام التعليمي، والشمعة التي تحترق لتضيء، «الشمعة اللي تجيب النور محروقة.. قطعت فيوز المحبة يا الله الخيره». وبمناسبة اليوم العالمي للمعلم فيجب على المعلم أن يفعل كذا وكذا..

ومع أن شهادتي في المعلمين مجروحة لأنني أحدهم، ولأن العوام يقولون: «قالوا:من مدحتها؟ قالوا:أمها والمشّاطة»، والمشاطة لمن لا يعرفها هي ما يسمى حاليًا بالكوافيرة! إلا أن الكثير لا يعرفون قدر المعلم حتى يجربوا القيام بما يقوم به، وحتى أكون منصفًا فليس المعلم وحده هو من يعاني، بل كل موظف يحتك مباشرة بالجمهور يجد المعاناة ذاتها، ولكن الفرق بين المعلم وغيره أن المعلم يحتك مع أبناء الجمهور والجمهور أيضًا! ولو جربت قبل الذهاب للاستراحة كعادتك كل مساء أن تساعد أطفالك في استذكار دروسهم لعرفت قدرة المعلم على التحمل.

- أصبت في إحدى السنوات بآلام في أسفل العمود الفقري أو ما يسمى بالعصعص.

بدأت المشكلة عندي بسبب توزيع المقررات على الطلاب في بداية العام الدراسي، حيث أسندت المهمة إلى مجموعة من المعلمين كنت أحدهم، وربما تتذكر كيف كانت المقررات تصل إلى المدارس كل مادة في كرتون خاص بها- وليس كما هو الحال الآن، حيث تصل كتب كل طالب مجموعة مع بعضها ومغلفة- وكان المطلوب مني هو الانحناء وأخذ كتاب من كل كرتون وتكرار هذه العملية في حدود خمس عشرة مرة بعدد المقررات لكل طالب، ثم وضعها في كيس نايلون، ثم البداية من جديد لجمع الكتب لطالب آخر.

المهم أنني بعد نهاية ذلك العمل الشاق بت عاجزًا عن الانحناء إلى الأسفل بسبب الألم، فكنت إذا سقط مني القلم أثناء الشرح أو سقط مني مفتاح سيارتي السدرك 91 (التي انتقلت إلى تشليح الحاير وهي في عمر الزهور بعد صراع مرير مع الألم على أسرّة الورش البيضاء) أتمنى بجدع الأنف لو كان لي ذراعا غوريلا لألتقط ما سقط مني دون أن أحتاج للانحناء.. ولا أراك الله مكروهًا!!

- بعد أن أصدرت الوزارة (مشكورة) بطاقة المعلم أخذ الناس يتندرون على العبارة المكتوبة عليها «المعلم يستحق المساعدة»، لأنها تشبه إلى حد كبير العبارات التي تكتب في كثير من الدول المتقدمة على بطاقات المسنين: «حامل هذه البطاقة هو شخص ذو قيمة في المجتمع, الرجاء معاملته باحترام, وتقديم أقصى مساعدة له».

والعبارة مع ذلك رائعة، وربما كانت بحاجة إلى إعادة صياغة فقط، وهي مسألة سهلة جدًا، أستطيع أن أقوم بها الآن على براد شاي (أبو أربع)، ولكن لا أحب التدخل في صلاحيات الآخرين!

وكل من خدم في التعليم في حدود عشر سنوات ما يزال يذكر البطاقة الأولى التي بصورة، والبطاقة التي بدون صورة وبسبب ذلك يحتاج المعلم إلى حمل تعريف دائم معه في جيبه بجانب البطاقة التي كانت هي والتخفيضات التي تمنحها محور كثير من نوادر المعلمين في تلك الأوقات، ولن أسوق لك شيئًا منها لأن الضرب في الميت حرام!

ولكن للأمانة التربوية تبقى حاجة المعلم إلى أن يعين على المستوى الذي يستحقه، وإلى غرفة مستقلة تخصه، وإلى مستشفى يليق بكرامته، وإلى ناد رياضي صحي، وإلى مدرسة بمبنى حكومي أهم بكثير من مسألة البطاقة.

- اشتغلت بالتعليم مذ كنت على مقاعد الابتدائية! كيف؟ المسألة بسيطة يا صاحبي..فقد كنت أدرّس أخي الذي يصغرني بعام أو ثلاثة لا أدري، لأنني كنت أعيش في قرية صغيرة لا تظهر على الخريطة، ولا يلتقطها حتى «جوجل إيرث» فليس لي شهادة ميلاد مثلك.. وكان والدي رحمه الله لا يذهب إلى مكتب الأحوال المدنية في الرياض إلا بعد أن يجتمع له من الأبناء والبنات ثلاثة أو أربعة، ثم يسجلهم أو يسجلهن دفعة واحدة ويطلب من موظف الأحوال أن يسجل الأصغر بتاريخ 1/7 هذه السنة، ثم الذي يليه بتاريخ السنة الماضية وهكذا!

وكأي طفلة ........ تحلم بأن تعمل حين تكبر خادمة في السعودية، فقد كان حلمي الوحيد أن أعمل معلمًا وكفى..أي تخصص.. أي مادة.. لا يهم!

ولكن حين جلست على مقاعد الثانوية في المعهد العلمي، أحببت اللغة العربية فتخصصت فيها، وذلك بسبب إعجابي بأحد معلمي النحو، وكان شيخًا أزهريًا يرتدي الجلابية والعمامة، وقد آتاه الله بسطة في العلم والجسم، وكان يشرح لنا كتاب شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، ويكتب الخلاصة على السبورة البيضاء، وحين تمتلئ يكتب في أعلى السبورة، ليفاجأ بأن ما كتبه بالأسفل قد زال جزء كبير منه، بسبب احتكاك الجلابية بالسبورة، فيستقبلنا بوجهه ويسأل بلغة كأنها خارجة من مسلسل الزير سالم: أيّكم مسح السبورة؟!

- حين صدر قرار تعييني معلمًا، وبعد عدد من قفزات الفرح وبعد (التنكس على إيقاع نحمد الله جت على ما تمنى) أخذت أتدرب أمام مرآة مغسلة حمام الرجال على الطريقة التي سأقدم بها نفسي للمدير وللمدرسين، وأهم من ذلك طريقة تقديم نفسي للطلاب في أول حصة..

«السلام عليكم يا شباب، وكل عام وأنتم بخير.. أنا الأستاذ سعيد، وسأقوم بتدريسكم مواد اللغة العربية....».

الطريف أنني حين دخلت الفصل لأول مرة، وجدت رحى حرب داحس والغبراء تدور بين عدد من الطلاب، وبدلاً من تقديم نفسي لهم بالطريقة التي أمضيت ساعات طويلة بالتدرب عليها أمسكت بعدد منهم، واتجهت بهم إلى الوكيل الذي تدارك عبسًا وذبيان، وتكفل بديات الجرحى كهرم بن سنان!

 

- على غرار الأسئلة الفلسفية المتحذلقة: قل لي متى تضحك؟ أقل لك من أنت. وقل لي ماذا تأكل؟ أقل لك من أنت. وقل لي ماذا تقرأ؟ أقل لك من أنت. وهلم جرا..

أقول أنا «وما فيش حد أحسن من حد»: قل لي ماذا تعمل؟ أقل لك من أنت!

فإذا كنت تذهب كل صباح متثاقلا إلى المدرسة لـ(تطق) التوقيع منحنيًا بخضوع أمام مكتب المدير، وتتجه راكضًا إلى الطابور، أو ما بات يسمى الآن بالاصطفاف الصباحي أو كما سماه أحد الزملاء ذات تلعثم: الاصطباح الصفافي (ولا مشاحة في الاصطلاح) أو كما يقول العوام: (قال: وين أذنك يا جحا؟)

ثم تبدأ الحصة الأولى، وتكتب بالقلم الذي اشتريته (على كيسك) وتمسح، وتكتب، وتمسح.. بينما نصف الموظفين ما يزالون في محلات حمص الصناعية، وكبدة الحلة والإفتاء، وفوال أفراح والقرموشي، فأنت معلم ستقضي شطرًا من حياتك واقفًا مع الأطفال أو المراهقين، وستصاب بالضغط والسكر والروماتيزم، وضعف الذاكرة والحساسية، وستقابل بالصدفة بعد سنوات عددًا من طلابك فيما بعد يعملون على (الكاشيير) في محلات الهايبرماركت، أو في إحدى الإدارات الحكومية، وسيعرفونك ويسلمون عليك باسمك، بينما أنت لا تتذكرهم لأنك لم تعد تتذكر ما أكلته البارحة!

أتذكر أنني التقيت لدى أحد أقاربي بمرب فاضل وشيخ جليل من جنسية عربية، أفنى عمره في التعليم، فسألته بروح الصحفي «الملقوف» عن ذكرياته في التعليم، وذكرياته مع طلابه الذين باتوا يحتلون مناصب مرموقة، فقال لي: إنه راض عن تجربته تمام الرضا، ويلقى التقدير المعنوي من الجميع، وأما المادي فحصل على ساعة ثمينة من ولي أمر أحد الطلاب الذين أشعلوا رأسه شيبًا.

نسيت أن أخبرك أن هذا المعلم حصل على مكافأة نهاية خدمة بسيطة كانت عبارة عن ضعف في وظائف الكلى (بضم الكاف) لدرجة أنه الآن يعيش بثلث كلية فقط لا غير!

الطريف أن أحد المعلمين أخبرني شخصيًا أنه ذات يوم فتح باب بيته فوجد أن الطارق هو أحد طلابه، وقد أحضر له حبات من الحبحب (الجح أو الرقي) على السكين، يقول إنها من مزرعتهم!!

وسمع أحد الطلاب في منطقة نائية (تحتفظ المعرفة باسمها تدعى هيت) بأن معلمهم الشاب مقدم على الزواج، فسحب معه خروفًا نجديًا من حوش والده، وطرق باب المعلم وسلمه إياه، وقال له: منك المال، ومنها العيال يا أستاذ!

- عدو المعلمين الأول هو أحد أصدقائي، ولن أذكر اسمه ليس خوفًا من أن أعلن له مجانًا، بل خوفًا من أن يقاضيني. ومع أنه درس في مدارس مدينة الرياض وتخرج فيها حتى صار استشاريًا بعد بعثة دراسية قضاها في الولايات الأمريكية المتحدة، إلا إنه لا يقر بأي فضل للمعلمين عليه، وكلما رآني أخذ يردد: أخخ بس أخخ.. لو كنت وزيرًا للتربية والتعليم.. لجعلت دوام المعلمين على فترتين صباحية ومسائية!

وفي يوم قال لي: هل تعرف أن المعلم هو الموظف الوحيد الذي لا يمكن صنع جهاز يقوم بعمله؟

فأجبته: الحمد لله. أخيرًا يا دكتور.. اعترفت بفضل المعلم!

فقال: لا لم أعترف بعد، ولكن لا يمكن صنع جهاز يقوم بعمله لأنه أصلاً لا يمكن صنع جهاز لا يعمل شيئًا!

فقلت له بالمحكية غاضبًا: الشرهة مهيب عليك يا دكتور..الشرهة على المدرسين اللي نجّحوك!

ودائمًا يسألني بتهكم: بالله عليك يا سعيد، هل يشعر المعلمون مثل سائر الموظفين بالفرق بين يوم الإجازة ويوم العمل؟

ولأننا نتقابل مساء كل خميس.. فمحاوراتي مع هذا الاستشاري لا تنتهي، ولو كتبتها لكانت أطول من محاورات أفلاطون!

كثير من الناس لا يعرفون أفلاطون، رغم أنه هو أول فيلسوف نادى بإنشاء رياض للأطفال، وكثير لا يعرفون أبا المعلمين سقراط، ولا سخرية سقراط، وكان من عادته التظاهر بالجهل، وسؤال الناس عما يعلم جوابه، إلى أن يصل بهم إلى الإجابة الصحيحة. وهذا ما يسمى في طرق التدريس «بالطريقة السقراطية».

الطريف أن أحد المدربين في دورة لطرق التدريس عجز رغم تمكنه المشهود به عن تعليمي هذه الطريقة لدرجة أنني خشيت عليه من أن يتجرع السم كما فعل سقراط ليرتاح مني!

 

 

 

on the occasion of [بمناسبة]

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية