خريطة برائحة البرتقال
في بداية الفصل الدراسي الثاني من كل عام، تصدر إدارات التعليم هذا التصريح الذي مللنا من تكرار قراءته:«يقبل في الصف الأول الابتدائي من أكمل 6 سنوات هجرية في اليوم الأول من بداية الدراسة أو قبله حسب وثيقة الميلاد الرسمية، ويجوز لمدير المدرسة قبول من يقل عمره عن 6 سنوات بمدة لا تزيد على 90 يومًا وذلك بعد قبول جميع الطلاب الذين أتموا السادسة من العمر، علمًا بأن الأولوية في قبول الطلاب الذين تقل أعمارهم عن السادسة للأكبر سنًا وفق تاريخ الميلاد، بجانب قبول من لم يتيسر له التعليم حتى سن الثامنة في الصف الأول الابتدائي، ومن زاد عمره على الثامنة يصدر بشأنه قرار من مدير عام التربية والتعليم».
وفي أيامنا (نهاية التسعينيات الميلادية) لم يكن الآباء يهتمون بالإسراع في تسجيل أبنائهم في المدارس، على عكس الآباء في الوقت الحاضر، رغم سهولة الإجراءات في ذلك الوقت، والتي كانت تقتصر في أغلب الأحيان على أمر الطفل بأن يلمس طرف أذنه اليسرى العلوي بيده اليمنى، أو العكس مرورًا من فوق الرأس، وهذا الاختبار لا يستطيع تجاوزه الطفل ذو الخمس سنوات، إلا نادرًا لضخامة جمجمة الطفل بالنسبة لطول ذراعه.
بالطبع لم يكن هناك نظام يمنع قبول الطلاب الكبار في السن في الصف الأول الابتدائي، لأن ذلك يعد حرمانًا لهم من حق مشروع، ولذلك قد تجد في الصف الأول الابتدائي طلابًا يزورون الحلاق باستمرار لحلاقة شعر ذقونهم، كما أنهم يأتون إلى المدرسة يقودون سيارتهم الخاصة!
أما إذا رغب والد طفل صغير لم يبلغ ست سنوات في أن يدرس ابنه فإنه يقبل كمستمع وليس كطالب رسمي. وأحيانًا يتفوق المستمع على الطلاب الرسميين (من أصحاب الشوارب) وينجح بتفوق فيمنح الشهادة، وغالبًا ما يحن إلى حضن أمه فيرفض الذهاب إلى المدرسة وتنتهي المشكلة!
وبعض الآباء كان يجبر المعلمين على ترسيب ابنه رغم نجاحه بحجة أنه يريد له أن «يتقوى»! صدق من قال:«ما يروح إلا الطيب». الآن الآباء يرعدون ويزبدون إذا أكمل ابن لهم في مادة واحدة، بينما الآباء في السابق يجبرون إدارة المدرسة على ترسيب أبنائهم حتى وهم يستحقون النجاح!
أما إذا كان للطفل ذي الست سنوات أخ عمره خمس سنوات، فالغالب أن يطلب الأب من الكبير الانتظار للسنة القادمة، أو حتى ما بعد القادمة حتى يدرس هو وأخوه في صف واحد، وكان الأمر مجرد نزهة! أنا وغيري كثير كنا من ضحايا هذه الفكرة الغريبة. وقد خسرت بسبب هذه التقليعة راتب سنة كاملة، وعينت على المستوى الثالث بينما عين الذين سبقوني بسنة واحدة على المستوى الخامس!
وقبل ما يربو على عقدين من الزمان كنت وإخوتي طلابًا في مدينتنا الصغيرة الراقدة على واد ما من وديان الجزيرة العربية، وكان والدي -رحمه الله- يضطر للسفر إلى الرياض، والذهاب إلى شارع العطايف، من أجل شراء مستلزمات الدراسة مع بداية كل فصل، وكنا نكتب له الطلبات في ورقة طويلة عريضة بما تبقى في البيت من أقلام السنة الفائتة والتي نادرًا ما نعثر عليها بعد إجازة الصيف!
في الورقة ستقرأ ما يلي: درزن دفاتر أبو أربعين، درزن أبو ستين، درزن مساطر، كرتون أقلام مرسم، كرتون برايات، هندسة، كراسات رسم، دفتر هندسة، دفتر وجه ووجه، صمغ، تلبيسات،تجليد، فروخ، لصقات أسماء، طقم أقلام، شناط (شنط)، غرشة حبر... والقائمة تطول، ومن ضمنها درزن شطرطون «كرهب» أسود أو أحمر!
ولعلكم الأن تتساءلون: ما علاقة شطرطون «الكهرب» أو «الكرهب» كما كنا نسميه بطلبات المدرسة؟ وهذا ما سأخبركم به .
فحيث إن منزلنا يقع داخل مزرعتنا الكبيرة، المملوءة بأشجار الأثل، فقد كان المعلمون يوكلون إلي مهمة إحضار العصي لجلد الطلاب ليس بسبب إهمالهم فقط، بل ولأتفه الأسباب، وكان شعار المعلمين الذي يرددونه في ذلك الوقت هو«العصا لمن عصى، والمشعاب للعّاب».
وقد كنت أجد صعوبة كبيرة في التوفيق بين مواصفات ومقاييس العصا التي تقر بها عين المعلم، وبين المواصفات والمقاييس التي تمثل الحد الأدنى من رغبات لجنة حقوق الطلاب التي كنت أعد نفسي مندوبًا ساميًا مفوضًا لها!
كنت أحمل منجلًا شبيهًا بمنجل الشيوعية الذي يظهر على شعارهم متقاطعًا مع المطرقة، ثم أنطلق إلى أشجار الأثل أبحث عن العصا التي تكون بردًا وسلامًا على أيدينا وأرجلنا الصغيرة، وفي الوقت ذاته تكون سوطًا غليظًا في نظر المعلم. وبعد أن أختارها، أقطعها، وأهذبها، ثم ألف «شطرطونا» وهو الشريط اللاصق مرات عديدة حول العصا لعله يلين ملمسها القاسي على أكفنا الناحلة. وحتى هذه اللحظة لا أعلم لما كنت أختار اللون الأسود أو الأحمر حين أشتري الشريط اللاصق! وربما يكون لاختيار هذين اللونين علاقة بعالم الأزياء و«الموضة» أو علم «السيكولوجيا» أو «الأركيولوجيا» أو «الفينو مينولوجيا».
ومع أن زملائي الطلاب يعلمون أنني لست إلا عبدًا مأمورًا إلا أن نظراتهم لي عندما يقوم المعلم بضربهم كانت تنبئ عما يعتلج في صدورهم علي من حقد شديد، وتوعد أشد، وخصوصًا عندما يقومون بفرك أيديهم ببعضها، ونفخها بأفواههم، لتبريد ألم الضرب، وكأنهم يقولون «هين.. يصير خير!.
أما حينما «على الباغي تدور الدوائر» (الذي هو أنا طبعًا) فلم تكن تخفى علي ابتساماتهم الصفراء، الصادرة عن تلك الأسنان البرتقالية من أثر «الميرندا»، وزغاريد الفرح والنصر تكاد تنطلق من حناجرهم كما انطلقت من عيونهم. وقد يصل الأمر بهم إلى عد الضربات التي يوقعها علي المعلم وتذكيره بالباقي إذا نسي منها شيئًا. بل ربما تطوع بعضهم للإمساك بساقي وقدمي بشدة وغلظة حينما يتطور العقاب إلى «فلكة» وكثيرًا ما يكون ذلك!
كنا نسكن بعيدًا عن السوق والمحلات التجارية، وأي طلب مفاجئ يحتاج إلى تقديم عريضة لوالدي قبل وقته بعدة أيام.
ولأن الحاجة أم الاختراع فقد تعلمت «بدلًا من شراء براية» أن أبري قلم الرصاص بالمشرط الذي تستخدمه الممرضات في فتح زجاجة أمصال التطعيمات، وبدلًا من شراء الصمغ، تعلمت أن ألصق خرائط الجغرافيا، ورسومات العلوم بصمغ ثمرة فاكهة معروفة عند الكثير تسمى «البمبر» يوجد بداخلها مادة لزجة مثل الصمغ تمامًا. كما تعلمت عند (نفاذ الأوراق الشفافة) أن أمسح ورق الدفتر بالـ«كاز» حتى يصبح شفافًا فأستطيع أن أرى الخريطة التي أرسمها من خلاله، ولكن كنت أدعو الله أن يصاب المعلم بالزكام حتى لا يشم رائحة الـ«الكاز» فيوبخني كالعادة! وعندما لا يتوفر «الكاز» كنت أستخدم الأوراق الشفافة التي يلف بها برتقال أبو صرة، فتكون الخريطة برائحة البرتقال الرائعة!