في عالم الطيور صقور ونسور لكنها لا تعدِم الدجاج والبغاث، وفي عالم الحيوانات أسود ونمور لكنها لا تخلو من الكلاب والجرذان، وفي عالم الحشرات نحل وفراشات ولا يغيب عنها البعوض والذباب. ولا يشذ عالم الإنس عن تلك القاعدة المطردة؛ ففيهم مَن سما عقله، ونَبُل خلُقه، وكَرُم فعله، وفيهم مَن شبَّ البدن وترعرع بينما جمُد العقل في مرحلة الطفولة وانتكس الخُلُق والفعل؛ فكانوا بغال الجسم، عصافير العقل، وحوش الخُلُق.
لا تثريب ألبتَّة على الطيور والحيوانات والحشرات، إذ إنها مخلوقات مُسَيَّرة لا ناقة لها في الأمر ولا جمل؛ فلا ضمير ينبِّه، ولا عقل يدرك، ولا بصيرةً تَهدِي. أما على الساحل الإنسيِّ، وقد وهبه الله فطرة أبيض من الثلج وأنقى من الغمام، ومنحه عقلاً يميِّز سخيف القول من حكيمِه وكريم الخصال من دنيئها، وأرسل إليه رسلا مُبشِّرين ومُنذِرين... فلا مُرتقى لعذر ولا مناص من التثريب.
في عوالم الطيور، والحيوانات، والحشرات يَسهل التمييز بين الوحشي والأليف والجارح والمسالِم؛ لأنها تعدم الحيلة، وتفتقِد المكر والدهاء، ولم تسمع بالنفاق والمداهنة. أما فيمن يدبُّ مِن البشر؛ فيصعب التمييز بين ذوي المعدن الكريم والوضيع، ويشق التعرف على الباطن الطيب من الخبيث، إلا في أتون المحنة، وصدمة البأساء وحيرة الضراء، وغياهب البلاء.
في خضم المعارك ينجلي الغبار فيَبرُز الفارس ويَفِرُّ الجبان، وحين تُقبل الخطوب بخيْلِها ورجلِها يتفاضل البشر إلى أصناف ثلاثة:
فمنهم مَن ينسلخ من إنسانيته؛ إذ يبادر إلى السرقة في العتمة، ويُذكي نار الفتنة، ويَملأ كنانة الظلم، ويَشد قوس الفُجْر؛ فيَثْرى على حساب الفقراء، ويَرقى على أكتاف الضعفاء، ويَكتب مجدًا زائفًا بدماء الأبرياء.
ومنهم مَن يقف على الأعتاب؛ فلا يَقوَى على اقتحام العقبة، مكتفيًا بلعن الظلام، وذرْف الدموع، والوعيد بالثبور... وغاب عنهم أن الأوطان تُميتها الدموع وتُحييها الدماء.
أما ملح الأمة، وركنها الركين، وأملها الوثَّاب؛ فهم أولئك العصبة التي صنعها الله على عينه، فتقدمت الركب؛ لتسكب الزيت في القنديل، وتوقد فتيل الشموع، وتنير مصابيح الهدى، فتبدِّد العتمة وتُنهِض الأمة مِن وهدتها وتوقظها من سباتها، وشعارهم ما قاله شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي:
سأعيش رغم الداء والأعداء *** كالنِّسر فوق القمّة الشمّاء
في النوازل يصطف القوم ثم يتمايزون ثم يلتحمون، وفي بناء الأمم لا بد من التمحيص والفرز بعد التكوين وقبل التمكين...وهكذا كان لفلسطين الحصار، ولمصر الظلم، ولسوريا الإجرام، ولليمن الفتنة، وللعراق الطائفية، ولليبيا المؤامرة؛ لتتمايز الصفوف وتزول المساحيق وتتساقط الأقنعة؛ فتُسفر الوجوه القبيحة عن حقيقتها، ويَظهر جليًّا أصحاب الحق مِن دعاة الضلال، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ فما ظهرت خيانة ابن العلقمي إلا في نكبة التتار، وما تجلَّتْ علمانية أتاتورك إلا مع الإجهاز على الخلافة، وما برَزتْ عمالة الجلبي إلا مع ركوبه الدبابة الأمريكية التي حولت بغداد العروس إلى أرمل، وما تأكدت زعامة ابن سلول للمنافقين إلا مع رجوعه بثلث الجيش في أُحُد.
إن بنيانًا يختلط فيه الغث بالسمين والصالح بالطالح والأمين بالخائن، لهو بناء هش رخو، يحمل بذور فنائه بين طياته ويكتب تاريخ وفاته قبل ولادته؛ ولهذا فإن مرحلة التمايز وإن طال زمانُها أو غلا ثمنُها وفدحتْ تضحياتُها، لهي من السهم بمكان الكنانة، ومِن الثمرة موضع البذرة، ومِن الشفاء بمثابة الدواء.
"ولِيُمَحِّص اللهُ الذين ءامَنُوا". آل عمران 114.
التدقيق اللغوي: أنس جودة.