إلى أحِبّائي وَأصْدِقائي؛ القَريبِ منْهُمْ والبَعيدِ..
إلى قُرّاءِ العَرَبيَّةِ وَمُتَذَوِّقي الشِّعْرِ العَرَبيِّ..
أُهْدي مَوْروثيَ الشِّعْريَّ المُتَواضِعَ عَلى نَهْجِ منْ وَصَفَ شُعَراءَ الكِلاسيكيَّةِ بِأصْحابِ (النَّصِّ المُغْلَقِ عَلى إعادَةِ المَوْروثِ).
وَلا أرى في ذَلِكَ ضَيراً، فَلِكُلٍّ نَهْجٌ، وَلا أراني وَقَدْ نَبَضَ فيَّ وَهْجٌ إنْسانيٌّ يُتَرْجِمُ نَفْسَهُ إلى سُطورٍ، إلّا وَقَدْ كَتَبْتُ قَوافيَ لَها صُدورٌ وَأعْجازٌ، مَوازينُ وَبُحورٌ..
لِذا اخْتَرْتُ لِهَذا الجُهْدِ الإنْسانيِّ المُتَواضِعِ عُنْوانَ (بَذَرْتُ لِأيّامي)، وَأنا أرى أنَّها قَوافٍ منْ عَصْرٍ آخَرَ غَيرِ عَصْرِنا اللّاهِثِ الوامِضِ كالبَرْقِ في سُرْعَتِهِ، والَّذي أسْبَحُ فيهِ بِروحي وَفِكْري، وَأُحاوِلُ سابِقَةً إيّاهُ لِأبْعَدَ منْ حُدودِ الزَّمانِ والمَكانِ، بِنَفْسٍ تَميلُ لِلتَّفَكُّرِ والرَّويَّةِ، تُحَلِّلُ بِأناةٍ، مُتَأمِّلَةً مُسْتَهْجِنَةً ما يَجْري منْ حَوْلِها بِديناميَّةٍ واسْتِهْلاكيَّةٍ مُفْرِطَةٍ لا تواكِبُها طاقَةٌ، وَلا يَسْتَوْعِبُها جَسَدٌ مَحْدودٌ.
أيا عَجَباً لِثَوْبٍ ترتَديه
يظنُّ ذَوو الجهالةِ فيه سِحرا
كما ظنّوا جمالَ الذئبِ لوناً
وتلكَ خديعةٌ في الفهمِ كُبرى
وداعاً أيها الطَّلَلُ
وداعاً كلُّهُ وجَلُ
وداعاً لم يكنْ بدَلُ
لهُ إذ عُدَّتِ السُّبُلُ
إِنَّ أَوْفى النّاسِ مُلازَمَةً لِلشِّعْرِ هوَ مَنْ أَسْلَمَ يَقينَهُ إِلى عَناءِ هَذِهِ الدُّنْيا، وَما هوَ إِلّا شَتاتٌ.. أَمّا ما يَمَسُّ الإِنْسانَ مِنَ الأَلَمِ فَلا يَشْفيهِ غَيْرُ وَثاقَةِ عَهْدِهِ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعالى.
لا أَجِدُ عُذْراً لِمَنْ لا يَسْتَعْذِبُ الشِّعْرَ العَموديَّ إِذا كانَ لا يَسْتَطيعُ لِفَهْمِهِ سَبيلاً في عَصْرِنا هَذا، لَكِنَّها المَعاني إِذا أَدْرَكْتَها فَلَنْ تَنْضُبَ، وَإِنْ صاحَبْتَها لَمْ تَخاصِمْ.
إِنَّ الشِّعْرَ وجْدانٌ حَيٌّ، وَبَيانٌ كافٍ، لِأَنَّ جَوْهَرَهُ رَحيقُ الإِحْساسِ، أَمّا عادَةُ العَجَلَةِ فَهيَ دولابُ البَشَريَّةِ الَّذي لَمْ يَسَعِ الإِنْسانَ ضَبْطُهُ.
لَا أحَدَ، لَا أَحَدَ غَيرُهُ يُجيدُ الحَديثَ بِهذَا التَّدَفُّقِ.
كَانَ لِتَعلُّقي بِهِ كَإنسَانٍ قبْلَ أَنْ يَكونَ أَباً بَالِغُ الأَثَرِ في وُجْدَانيَ العَاطِفِيِّ والأَدَبِيِّ.
كُنْتُ شَديدَةَ التَعلُّقِ بِأفْكَارهِ العَميقَةِ وجَزالَتِهِ التي تُبْحِرُ في جَنَباتِ نَفْسِي.
كَانَ وَفاؤُهُ وإخْلاصُهُ وكَذلكَ مَودَّتُهُ ما يَسْتَثيرُ قِلَّةَ الحَدِيثِ عِنْدي وَأحيَاناً الصَّمْتَ. كَانَتِ اللُّغةُ العَربيَّةُ الفُصْحى تَطْغى عَلى انفِعَالاتِهِ الكَلامِيَّةِ مِمّا أثْرى رَوعَةَ الأحَاسِيسِ بِالأُسلوبِ في مُخالَطةٍ فَريدَةٍ.
كَانَ -إِذا غَضِبَ- صَوتاً يأْمُرُ الدُّنْيا للتَّعْبيرِ عنْ بَصيرةٍ وفَهمٍ وَكَأنّهُ حِرْزٌ مَكْتومٌ انْطَلقَ مِنَ القَلْبِ دُونَ قَيدٍ أوْ شَرْطٍ. كَانَ ذَكيّاً وَمُقْنِعاً حتَّى تَداعَى الرِّجالُ لِلاسْتِماعِ لِحديثِهِ.
كَانَ لَاذِعاً ونَاقِداً في مُفردَاتِهِ وذَلكَ لِعنايَتِهِ بِاستقَامَةِ النُّبْلِ والعَطاءِ.
لَا لِفَضْلي مَكانٌ في امْتِدادِ الوَريدِ النَّابِضِ الّذي رَوَّانِي بِصِدْقِ تَعبيرِهِ وَتَدَفُّقِ حَنانِهِ.. وَإنّني أَرْجُو فِيما أَرْجُو أَنَّني قَدْ وَفَّيتُهُ بَعضاً مِنْ حقٍّ لهُ عَليَّ وأنَا أطْريهِ بذِكْرِهِ المُتَّقدِ في كيَانِي كَالياقُوتَةِ الحَمْراءِ.
دَفْقٌ من النَّوح فوق الخدِّ منسكبُ ** أبكي على أمة حُطّت بها الرتبُ
هتانُ دمعيَ من ذا القلبِ منبعُه ** حزناً على غادةٍ لم يجدِها الحسَبُ
لم يبقَ للذلِّ من حظٍّ ليجعلَها ** في آخرِ الرَّكْبِ قد غاصَتْ بها الرُّكَبُ
تاريخُها صورةٌ حُسنى، وحاضرُها ** بيتُ العناكبِ واهٍ ساقطٌ خرِبُ
حلّ الفجورُ بها والفِسقُ وانتشرتْ ** مَعاولُ الهدمِ والتخوينُ والرِّيبُ
ضاعَ الشبابُ وصارَ الدِّينُ جوهرُه ** تقليدُ غربٍ وعمَّ اللهوُ والطربُ
هوَ ذا الكتابُ رسالةٌ وبيانُ
منْ فيضِهِ الأنوارُ والاحْسانُ
آياتُهُ وحروفُهُ بُرهانُ
للنّفْسِ في أفيائهِ اطْمئنانُ
كلماتُه للحائرينَ علامةٌ
ورُقىً بها يَسْتبصرُ العُميانُ
فيهِ المَلاذُ إذِ الهوى سُلْطانُ
وشفاءُ رحمتِهِ له عُنوانُ
فيه الرِّضَى والعهْدُ والعُمرانُ
وهو الهُدى والحقُّ والفُرقانُ
الذّائقُوهُ قِراهُمُ غُفْرانُ
لا خوفَ يُحزنُهمْ ولا خُذلانُ
آواهُمُ في لُطْفهِ الرحمنُ
وِجْدانُهم بلَذاذةٍ رَيّانُ
هو نفْخةٌ في القلبِ كالنَّفخِْ الذي
قد كانَ في بِدْءٍ بهِ الانسانُ
هو جنةٌ في الأرضِ، منه يُجْتنَى
زادُ التُّقى والأمنُ والايمانُ
هو جنةٌ ما حادَ عنه غيرُ منْ
كان الإمامَ لخطْوِهِ شيطانُ
دارُ السّلامِ مَحلُّ دعوتِهِ فمَنْ
لم يَستجبْ فمحلُّهُ خُسْرانُ
ما كانَ غرّكَ أيُّها الإنسانُ
باللهِ وهو الخالقُ الدّيّانُ
الصفحة 1 من 61