يضج المتسوقون دوماً من الارتفاعات المتوالية للأسعار. مع ذلك فهناك منتجات يسعك أن تبحث عن بديل أرخص لها. هناك منتجات يمكنك أن تتجاوزها وتستغني عنها بالكلية بوصفها ترفاً دنيوياً محضاً. لكن حين تزيد أسعار قطمات (الأرز).. تلك السلعة المصيرية.. هكذا بين ليلة وضحاها، فهذا شأن آخر!
الأنباء تتواتر بقرب اتفاق التجّار –بالسعودية- على زيادة ثانية بين 10 و 15 بالمائة في أسعار الأرز بأنواعه.

الآسيوية والأميركية. وهي زيادة سوف لن يتحملها سوى المستهلك مباشرة. المستهلكون من جانبهم سارعوا (كما تذكر الجرائد) بالمطالبة بدعم سعر هذه السلعة البشرية من قبل الحكومة.. أسوة بـ – وليس مطابقة لـ - أعلاف البهائم المدعومة سلفاً: الشعير والذرة.. إلخ. التجار من جانبهم يتذرعون بارتفاع تكاليف الاستيراد، وقلة الإنتاج، والمخزون العالمي. هناك كلام عن مضاربات ما ببورصة الأرز العالمية.. وكلام آخر عن الارتباط بسعر الدولار وعواقبه المريرة.

بين كل هذا اللغط يستوقفك تعليق لأحد التجار -فضّل عدم ذكر اسمه- قال فيه "أن الأرز سلعة مثلها مثل النفط". هذا التعليق بقدر ما يبدو هزلياً للوهلة الأولى.. بقدر ما تتبدى جديته وفلسفيته في كل لحظة تأمل. فجأة يتبدى لك قدر القوة الذي تتمتع به أنت بوصفك منتمياً لمحور (الأوبك). ويتجلى لك مقدار السخرية المبطنة أيضاً.. هل الأرز بالنسبة لنا هو بمكانة النفط من حضارة الغرب؟ هل يسع البنجاب والفيتناميين أن يلووا أذرعتنا ويوجهوا صناعة قرارنا عبر (سلعة) الأرز؟
 تتهادى إلى مخيلتك صور طوابير البشر والسيارات أمام محطات الوقود الأميركية أيام الحظر الشهير.. وتبدأ في استشعار النقمة التي حملها هؤلاء يوماً على مصدّري البترول وتجّاره.. ثم لا تملك إلا أن تشعر بمنطقية قرار أولئك الذين قرروا أن هذه التجربة يجب ألا تتكرر.. وأن تدفق هذه (السلعة) لأسواقهم يجب ألا يتوقف.
هذه المقارنات ليست دقيقة تماماً. فأسعار البترول تزيد بشكل جنوني هي الأخرى –لحسن حظنا- والزيادة يتحملها المستهلكون حول العالم كذلك. لكن ما يختلف فيه الاثنان.. الرز والنفط.. هو كون الأول منتجاً غير ناضب، قابل للتجديد وإعادة الزراعة عبر الأرض.. هل يغيّر هذا كامل المعادلة؟


الغرب الصناعي يقوم منذ ثلاثة عقود بتخزين النفط المستورد من مكامنه الطبيعية والحصرية.. وبالبحث عن موارد بديلة أيضاً. نحن لا يسعنا أن نستبدل الأرز بسواه. هذه معلومة بدهية يحتمها واقع (الكبسة). لكن إذا كانت حيواتنا متمحورة هكذا حول الأرز، أفلا يسعنا أن نتحكم أكثر بأسواقه؟ أن نشتري مزارعه الآسيوية وبواخر نقله وننشئ كياناً اقتصادياً متكاملاً (على غرار أرامكو.. مع فارق التشبيه) يضمن لنا تدفقاً منتظماً للأرز بأسعار مستقرة تماماً؟!
ثمة تصور قد يكون فيه جانب مبالغة.. لكنه لا يخلو من واقعية مريرة كذلك. واقعية يكشفها استهجاننا المبدئي لمثل هذه الحلول. رفضنا للتحرك.. مطالبتنا للحكومة بالتدخل والدعم.. وقبولنا بدفع فرق السعر في نهاية المطاف.. كلها تعكس ثقافة جمعية سلبية. ثقافة لا يسع التجار إلا أن يستغلوها ويوظفوها لصالحهم ليحققوا الربح الذي هو أساس نشاطهم كله.

الأرز بكل جلالة قدره ليس سوى رمزاً.. واجهة لقائمة متطاولة من (السلع) الأخرى والخدمات والبشر أيضاً.. الواردون من وراء الحدود والمسيرون لمنظومة اقتصادنا الوطني.. وفيما نضع فوق رؤوسنا وداخل أجوافنا أيضاً.

الأرز جاء ليذكرنا بكم نحن ضعفاء ومعتالون على غيرنا. مع كل نفطنا وغازنا.. نظل عالات على أراضينا. أرز كبساتنا.. أشمغتنا ببصماتها المتعددة وسياراتنا الفارهة كلها خاضعة لشروط التصدير وفروق العملة وأعاصير المحيط الهندي. حتى تجارنا المتخمون بأموال وكالات هذه السلع وسواها.. الذين يستحق بعضهم المقاطعة بأكثر مما تستحقها مطاعم البرغر وقوارير المياه الغازية.. هؤلاء التجار (الوطنيون) يظلون تحت رحمة المصنّع والمُنتج الحقيقي الذي يملك.. هو وحده.. سر القوة والعظمة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية