بحثت الرؤية الماضية ركائز الأنظمة الفاسدة والظالمة، وقدمت الركيزة الأولى التي تقوم عليها مثل هذه الأنظمة، وهي قوى الأمن من جيش وشرطة واستخبارات، وبينت تلك الرؤية كيف أن هذه القوى توفر الحماية والمساندة لهذه الأنظمة وتدعم إمعانها في الطغيان واستمرارها في الفساد كما إنها تقف بديلا عنها متى ما قصرت في ظلمها وفسادها وتبعيتها.        تعرض رؤية هذا الأسبوع دور المال ومؤسساته في تمكين أنظمة الفساد والظلم من مواصلة ممارساتها وإجراءاتها الشاذة والخارجة عن العلاقة الطبيعية العادلة مع شعوبها.

       وكما أن هذا المال له صورٌ وأوجه عدة فكذلك له أدوارٌ مختلفة تصب جميعها في خدمة ودعم الأنظمة الفاسدة و الظالمة.

الصورة الأولى: مال الشعب

        انتشرت تسمية مال الشعب بالمال العام فقللت وأضعفت من قوة إرتباطه بمالكه الحقيقي، و هونت من أثر ومفعول التعرض له بالتصرف السفيه أو الإسراف أو النهب أو الاحتكار. فأصبح هذا المال  تحت هذه التسمية مطلقا في مرجعية الملكية بدلا من كونه في الحقيقة محددا في مرجعية ملكيته وهي المرجعية الشعبية.

       ومع توفر قدر من الحرية في المجتمع وتيسر التصريح قولا وكتابة، يعم ويكثر الحديث عن مال الشعب وثروته و تتتابع محاولات الدفاع عنه و حمايته من النهب والصرف السفيه و الاحتكار. وكلما صلح المجتمع ونظام الحكم فيه كلما زادت فرص رعاية وتنمية وحسن صرف هذا المال وإنفاق هذه الثروة.

       هذا المال وهذه الثروة من أهم أدوات الأنظمة الفاسدة والظالمة في الهيمنة على شعوبها . فالاستغلال الفاسد لهذه الأداة تمكن مثل هذه الأنظمة من أسباب القوة المسلحة والسياسية والاجتماعية، وتغطي على شتى ممارساتها الظالمة وسلوكياتها الفاسدة، وتخفف من حدة وجدية وقوة معارضتها، وتجذب الأعوان وتوسع من رقعة الحاشية، وتخدر الشعب وتلهيه عن مطالبه الحقيقية والأساسية، وتجلب الدعم والعون من الخارج، وتنمو مؤسسات الحكم التابعة لهذه الأنظمة نموا كبيرا يغذيه الإستغلال السيئ لمال الشعب و يساهم في هدر ثرواته، وتضم تحت أجنحتها حشودا ضخمة متنامية من الخدم والحراس تحت شتى المسميات والعناوين.

الصورة الثانية: مال الحاشية والمقربين

       لابد من التأكيد على أن منبع ومنشأ هذا المال هو مال الشعب إبتداء ومنشأ. ويزداد الدعم والمساندة من قبل المستحوذين عليه للأنظمة الفاسدة والظالمة مع تضخم أموالهم وتشعب مناشطها ومجالاتها. ويشارك هذا المال في مختلف ممارسات وتحركات هذه الأنظمة لإرتباطه المتين بها فاستمراره في النمو مرهون ببقاء هذه الأنظمة واستقرارها.

       وتنطق أحداث التاريخ بثلاث حقائق بشأن هذا المال، الأولى: أنه جزءٌ لا يتجزأ من الأنظمة، والثانية: أنه لا يمكن أن يشارك بأية صورة من الصور في تحركات الإصلاح والثالثة: زواله مع زوال الأنظمة الظالمة والفاسدة.

الصورة الثالثة: المال السياسي

       صورة المال السياسي من أبشع وأقبح صور المال المساند لأنظمة الظلم والفساد. إذ أنه مخرب للذمم والأخلاق في أوساط السياسيين وأعوانهم، وناشر لبذور النفاق والتزلف في نفوس من ترجو وتأمل الأمة منهم تقويم الأحوال وصد المظالم والطغيان من سياسيين ومثقفين ومفكرين وإعلاميين، و محرك لليأس في جموع الجمهور من العمل السياسي وفقدانهم لآمال الإصلاح والتغيير. وهذا المال من صور هدر مال الشعب فيما يساند ويدعم أنظمة الظلم والفساد.

        وقنوات تأثير ومفعول المال السياسي عديدة ولا تنحصر في فئة من رموز المجتمع ولا في مرحلة محددة من مراحل الترقي في مجال العمل العام فحسب . وكذلك فأشكاله لا تحصر ولا تعد فمن تلميع في صفحات جرائد النظام و وسائل إعلامه، إلى تسهيل تمرير المعاملات والمطالبات الخاصة، وتجنيد الموالين للمساندة الإنتخابية والتنفيع غير المشروع في المناقصات والمشاريع وتقديم القروض والمنح وكل ذلك مصدره مال الشعب من أجل كسب الأعوان والمؤيدين للنظام الظالم والفاسد .

       ومن أحدث وسائل استخدام مال الشعب في التأثير السياسي هو تليين مواقف المعارضين والخارجين عن مسار النظام و توجيهاته من خلال تلبية المطالب الآنية والفئوية وفتح الأبواب المغلقة عادة أمام المعارضين .

الصورة الرابعة : مال المنتفعين

       وتتناول هذه الصورة العدد الأكبر من المساندين لأنظمة الظلم والفساد وهم من طبقة التجار والمستثمرين وأصحاب البنوك الذين وإن كانوا في الأصل في غنى عن المدد المالي من النظام ، إلا أن تطلعهم الدائم للتوسع وطمعهم الشديد في المزيد يجعلهم في حاجة للأنظمة لوضع القوانين طبقا لمصالحهم وترتيب الإجراءات الإدارية الحكومية بما يخدم مشاريعهم. وتحرص هذه الفئة على الحفاظ على قدر من الاستقلالية الشكلية عن النظام وإن كانت توظف جهودها لخدمته ومساندته. كما أن هذه الفئة تنظر في المستقبل وتغييراته المتوقعة فنجدها تقوم بترحيل قسم كبير من ثرواتها إلى خارج نطاق سيطرة هذه الأنظمة. وتشتهر هذه الفئة كذلك بترتيب إرتباطاتها المالية مع أنظمة فساد و ظلم مثيلة خارجية معيدة سيرتها الأولى مع النظام المحلي. ولهذه الفئة مشاركة رمزية بين حين وآخر في محاولات الإصلاح لا تمس روح ولا جوهر تعاونها ومساندتها للأنظمة. وفي نهاية المطاف يبقى مال المنتفعين دافعا ومولدًا لمساندة أنظمة الفساد والظلم ومشاركًا رئيسًا في نهب مال الشعب.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية