إذا كان الحديث عن الذكريات حديثا ذا شجون,فلا تثريب علينا أن بسطنا القول فيه,ولم لا؟ والذكريات حصيلة حصاد سنين العمر بحلوّها ومرّها,إذ تتراءى مشاهدها أمام أعيننا في كل حين نخلو فيه إلى أنفسنا متحررين من عقال صخب الحياة المادية وإسار ضجيجها المتلاطم. وحين نُصنّف تفاريق الذكريات إلى ذكريات مؤلمة وأخرى مفرحة ,فإننا في عملية التصنيف هذه ننساق بلا شعور إلى إصدار أحكام جائرة عليها,فنظن واهمين أن الذكريات السعيدة تبعث في القلب روحا من البشر ووهجا من الفرح,وعلى العكس من ذلك تكون الذكريات الحزينة!وتغدو هذه الظنون حقائق مسلمة لا تقبل النقض ولا الاعتراض لدى كثيرين ممن يقفون في روز الأمور وسبر الفهوم عند بادئ الرأي وأوائل الفكر. والحق أن الأمر على خلاف ذلك تماما,فحين تستعرض الذكريات السعيدة يعتريك شعور مؤقت بالبهجة والفرح,لكنك بعد لحظات قليلة تكتشف أن ذلك الشريط السينمائي الجميل قد بات نسيا منسيا لأنه قد انتقل بقوة الزمن الغالبة من شهادة الواقع إلى غيبة خزانة الذكريات,فينقلب التذكر إلى تحسّر على ما فات وندم على انقضاء تلك الأيام الهانئة,وهو الشعور عينه الذي يحس به الكهل المسن حين يتذكر نضارة الشباب وميعة الصبا ,ويدرك أنها قد ولّت إلى غير رجعة فينشد البيت السائر:
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب!
وعلى الضدّ من ذلك فليكن حكمك على الذكريات المرتبطة بأحداث مريرة,إذ يكفيك أن (تتذكر)أنها قد أضحت في عداد الذكريات التي مضت وانقضت,فيورث ذلك الصدر انشراحا وابتهاجا عظيمين لا ينجح في اكتسابها سوى فعل التذكّر هذا.لكن... هل تسير العملية التذكرية على هذا النحو المنطقي الخالص الذي يصبغ ضنائن الخزائن باللون الوردي المتفائل؟ للأسف ...لا! فحين يدخل القلب على الخط التذكري فإنه ينقض سكّته ويقوّض جسوره,ويحيل الأمر برمّته إلى كهف من المرارة والأسى,فعندما نتذكر من فقدناهم من الأحباب – أحياء وأمواتا-,وننظر إلى من حولنا فلا نجد عن أولئك الراحلين عوضا ولا بدلا يسد فراغهم القاتل ويشغل مكانهم من القلب الجريح,حينئذ نحس حقا بثقل المصاب ووطأة الرزية,فتتقد لواعج الشوق وتلتهب تباريح الفراق ,ويغدو التذكر كنسمة كسلى عابرة تمر على رماد الماضي فتذكي ناره الخابية وتوقظ جمراته الغافية!!:
ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم * وبقيتُ في خلفٍ كجلدِ الأجرب!
ومع هذا فإن الذكريات بنوعيها معا تنبه العاقل إلى السرعة المذهلة التي يتآكل بها رصيد العمر الذي تتناهبه الأيام والليالي على حين غفلة منا,فكثير من الذكريات تبدو بالرغم من تقادم الأعوام وكر الدهور غضة طرية وكأنها حدثت بالأمس القريب ,وكلما كان التذكر مستقصيا لدقائق الحدث وتفاصيله المتشعبة أضاف برهانا جديدا على أن عجلة العمر تجري حثيثا إلى غاية النهاية المحتومة ,وحينها يتنبه العاقل إلى فائدة الذكريات العظمى,إنها ليست اقتياتا على أحداث الماضي وهروبا إلى أحلام اليقظة التي تتلفح بدثار الغياب عن الواقع, لكنها ناقوس خطر يدق في أذن الوجدان ليستدرك المرء ما فاته ويستثمر الفسحة المتبقية من الأجل في ما يكون صلاحا لأخراه وعونا على دنياه,فماذكريات الغد إلا حصيلة اليوم,وحتى تحفل خزائننا برصيد نافع يبعث الأمل والبشر فعلينا أن نحسن سياسة الحاضر واستثمار طاقاته لئلا تنقلب الذكريات علينا حسرات وتراتٍ !!.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية