طوال ست سنوات قضاها أكبر أولادي في جامعة نيوزيلندية، كنت ألوم نفسي على أنني أرسلته إلى آخر الدنيا، وكان أكثر ما يشقيني عندما يكون مسافرا إلينا أو إلى نيوزيلندا، فيكون في حالة طيران طوال 21 ساعة تتخللها وقفة في سنغافورة أو هونج كونج أو كوالالمبور لنحو 9 ساعات، وكان لطيران الإمارات رحلة مباشرة من دبي إلى سيدني بأستراليا تستغرق 16 ساعة يكون بعدها على بعد أقل من ساعتين من نيوزيلندا، ولكنه كان أعقل من أن يظل معلقا في الهواء كل تلك المدة، وكان يفضل أن يطلع وينزل في المطارات إلى أن يصل إلى وجهته، وقد كتبت هنا قبل نحو شهر كلاما خلاصته أنني أحسست بأنني صرت في حالة لهاث دائم، وأن حياتي صارت محسوبة بالدقيقة والثانية، مما جعلني في حالة توتر دائم وأنني قررت من ثم أن أجعل إيقاع حياتي أكثر بطئاً، ولو ألبسني ذلك تهمة الكسل التي فبركها الخليجيون على بني وطني وقبل أيام قليلة قامت الخطوط الجوية السنغافورية بتسيير رحلة جوية مباشرة من سنغافورة إلى نيويورك تستغرق 19 ساعة.. يعني 19 مضروبة في ستين يساوي.. صفر معانا الواحد... همممم، 1140 دقيقة، وهي مدة يتزوج خلالها نحو نصف مليون شخص ويولد نحو 867 ألف شخص ويموت مئات الآلاف، ما لزوم كل هذا؟ لماذا أعبر نصف قارة آسيا وكل القارة الإفريقية وأجزاء من أوروبا ثم أجتاز المحيط الأطلسي،.. في قعدة واحدة للوصول إلى نيويورك والبهدلة والشحططة في مطارها لنحو أربع ساعات أخرى ليتأكدوا من أن المسافرين لا يحملون صواريخ في أمعائهم؟ ثم اقرأوا ما أوردته صحيفة الشرق الأوسط عن تلك الرحلة: يفقد كل مسافر خلالها أكثر من 11 مليون خلية من جلده؟ ماذا يتبقى لي بعد أن أفقد كل تلك الخلايا في سبيل الوصول إلى نيويورك!! كان في تلك الرحلة 180 راكبا وكان مجموع "خسائرهم" مليارين من الخلايا الجلدية و180 ألف شعرة!! ما هذا التبذير؟ هل نيويورك تستأهل كل هذه التضحيات؟ تنزل في مطارها وقد فقدت أكثر من 11 مليون خلية من جلدك.. يعني تكاد تكون عاريا رغم ملابسك الأنيقة. هذا ليس كل شيء، فخلال الرحلة من سنغافورة إلى نيويورك يفرز المسافرون 500 مليلتر مكعب من الروائح المختلفة و150 لترا من سوائل العرق، و... الطامة الكبرى أنهم ينتجون 144 لترا من غازات البطن، وما أدراك ما غازات البطن!! كل تلك البلاوي تظل محبوسة داخل الطائرة بمعنى أن كل مسافر يلتقط خلايا جلود الآخرين ويستنشق الغازات والروائح آنفة الذكر، وتخيل لو أن بالطائرة خمسة فقط يعانون من سوء الهضم وواحدا مصابا بالسارس وثالثا مصابا بأنفلونزا الدجاج!.. وقد يحس المسافر بالملل ويضع سماعة على أذنيه لمتابعة برنامج تلفزيوني أو مادة صوتية مسجلة، في هذه الحالة تتضاعف كمية الفيروسات في أذنه 3500 مرة!! هل ستضحكون على أبي الجعافر مرة أخرى لأنه يعترف بأنه يخاف ركوب الطائرات حتى من المنامة إلى الدمام؟ كلنا نعرف أن في العجلة الندامة فلماذا يلهث بنو البشر لتحقيق كل شيء على عجل، حتى صار أكل وجبة كاملة لا يستغرق أكثر من ثلاث دقائق؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية