ذات مرة، وأنا أتجول في مدينة أبوظبي مع بعض الأصدقاء التقيت بسوداني، وهششت للقائه، ولكن كان باديا أنه لم يعرفني، وبالتالي لم يبادل ترحيبي به بحماس مماثل، واستاء أصدقائي لذلك، ووقفوا بعيدا عنا قليلا تفاديا لتبادل التحية مع رجل لا يحسن رد التحية من شخص يعرفه، ثم تعجب أصدقائي عندما رأوه وبعد تبادل بضع كلمات معي، يتلقفني بالأحضان السودانية التي تؤدي إلى بهدلة الملابس والقفص الصدري، ويتبادل معي أرقام الهواتف،.. وفارقته ولحقت بأصدقائي الذين سألوني عن ذلك الرجل، فقلت لهم إنه كان رئيسي في العمل عندما كنت طالبا وأعمل خلال الإجازات لتوفير مصروفاتي الدراسية.. وشرحت لهم أنه كان مديرا لمحل لبيع الأحذية كنت أعمل فيه.. وسألوني عن طبيعة عملي في ذلك المحل، فقلت لهم إنني كنت "بياعاً"! وإن مهمتي كانت إنزال الأحذية من الأرفف وعرضها على الزبائن، بل ومساعدتهم في ارتدائها، وأنه عندما يخلو المحل من الزبائن كنت أقوم بنفض الغبار عن الأحذية المعروضة، وحدثتهم كيف أنني نلت ترقية صرت بعدها كاشير أي مسؤولا عن تحصيل النقود، وارتاح أنفي من شم البلاوي التي كانت تصدر عن أقدام الزبائن عندما كانوا يخلعون أحذيتهم القديمة، ولم تكن الترقية مكافأة لكوني "بياعاً" شاطرا، بل لأنني كنت أعاني من عمى الألوان، وكان الزبون يطلب حذاء بنيا فأقدم له واحدا رماديا، مما عرضني لعبارات مثل: أنت حمار؟ ما تعرف الفرق بين البني والرمادي؟ لم يستغرب أي من أصدقائي أولئك أنني كنت "بياع جزم"، فمنهم من عمل خلال الإجازات المدرسية "مساعد بناء" يحمل خلطة الخرسانة على كتفيه، ومنهم من كان يبيع الجرجير والنعناع في سوق الخضراوات،.. وفتح ذلك شهيتي لأحدثهم عن فترة مزدهرة من حياتي تقاضيت خلالها ستة جنيهات كاملة في الشهر وأنا طالب في الجامعة عندما عملت كاتبا في مختبر طبي في مستشفى مدينة الخرطوم بحري وكان دوري هو استلام العينات (لا مؤاخذة) وتسجيل نوعها (وما أدراك ما نوعها) وأسماء أصحابها!! مناسبة هذا الكلام ما أقرؤه في الصحف الخليجية يوميا عن شباب دخلوا مجالات السباكة والحدادة والنجارة والعمل في المطاعم،.. الصحف تكتب عنهم وكأنهم رواد فضاء من باب "التشجيع"، لأنها تعلم أن معظمهم كسير الخاطر وقد يلعن الظروف التي جعلته يمتهن العمل اليدوي.. ولكنني واثق أنه سيأتي عليهم يوم يحكون فيه عن خطواتهم الأولى في تلك المهن باعتزاز شديد، لأنهم سينالون الاعتراف بأنهم "رواد" وسيصبح بعضهم يوما ما مقاولين، وسيكون بمقدورهم تقديم القروض لزملائهم "الجامعيين" الذين يؤدون أعمالا مكتبية في بيئات مكيفة الهواء، ويتقاضون نظير ذلك دريهمات لا تكفي حتى لشراء ساندويتشات العدس والزبادي لأسبوع واحد.. في بريطانيا كان لي ستيورات إيفانز يعمل رئيسا لفريق في مجال أبحاث الحمض النووي في جامعة كيمبريدج وكانت زوجته الدكتورة ستيفاني متخصصة في علم الفيروسات، وقرر كلاهما ترك العمل الجامعي وأصبحا منظفي شبابيك.. وقفز راتب كل منهما من 15 ألف إسترليني في الشهر إلى 50 ألف إسترليني، ونقلت الصحف حكايتهما وكانا سعيدين بنشر صورهما وهما يحملان الجرافة المطاطية المخصصة لتنظيف النوافذ...