تبدو أوروبا في عيون ملايين من البائسين المحرومين جنة الله في أرضه، إنها الحلم الذي يسكن عقولهم ويتملك أمانيهم فأوروبا موطن الرفاه والثراء حيث الحياة الكريمة والعيشة الرضية، غير أن هذا الحلم يبقى محبوسًا في قمقم الأحلام والأماني عند السواد الأعظم من هؤلاء البائسين الذين قنعوا بما هم فيه من بؤس وحرمان ولم تحدثهم أنفسهم بالسعي إلى تحقيق ذلك الحلم المستحيل. لكن فئة ليست بالقليلة من القوم اجتاحتها روح المغامرة والمقامرة وبلغ بها البؤس مبلغا هوّن عليها تعريض حياتها لهلاك محقق في سبيل الفوز بتلك الجنة الموهومة، ومن هؤلاء من استبد به القنوط فلم يعد ثمّ ما يغريه بالبقاء حيا تحت وطأة البؤس، فلم يعد يخشى الموت، بل هو يرحب به لأنه المخلص الأخير من رحلة المعاناة الطويلة، و«رب عيش أخف منه الحمام»!.
وللأفارقة النصيب الأوفر من رحلات الهجرة القاتلة، فقبل أشهر راجت حوادث غرق قوارب الموت التي كان المهربون يقومون بتنظيمها انطلاقا من سواحل شمال أفريقيا لنقل المهاجرين إلى جنوب ايطاليا وجزيرة مالطا، وبلغ عدد ضحاياها مبلغا دق ناقوس الخطر ما دعا إلى تعاون أمني مشترك بين دول الممر والمقر لمنع رحلات الموت هذه، وأخيرا حول جموع الحالمين بالهجرة قبلتهم إلى مقاطعة سبتة ومليلة الخاضعة للحكم الإسباني، إذ أخذت جموعهم تتقاطر إلى المغرب لتنطلق في رحلة مرهقة بغية الوصول إلى أوروبا، ففي مطلع هذا الشهر جرت أكثر من محاولة يائسة لاختراق السياج الحدودي الفاصل بين المغرب وجيبي سبتة ومليلة، وقام الحراس المغاربة والإسبان بإطلاق النار على هؤلاء المتسللين، فقتل منهم خمسة وجرح العشرات، ومن المصابين من سحق أثناء التدافع أو عند محاولة تسلق الأسلاك الشائكة بأقدامهم العارية، وتم القبض على هؤلاء المتسللين وإيداعهم في معتقلات مؤقتة تمهيدا لترحيلهم إلى بلادهم، وكان منظر هؤلاء المصابين المرميين على قارعة الطريق وجروحهم تنزف دما منظرا مقززا ومنفرا في عالم يدعو إلى المساواة واحترام حقوق الإنسان، كان المشهد بحق وصمة عار في جبين الحضارة الإنسانية، لاسيما وان من بين هؤلاء المتسللين نساء وأطفالا, وتتجلى فداحة المأساة في الصرخة التي أطلقها احد هؤلاء المعتقلين معللا قيامه بهذه المحاولة الخطرة قائلا: «أنت لا تخشى شيئا لسبب يسير وهو أنك في أفريقيا لا تملك شيئا، انك لا تملك ببساطة سوى التفكير المستمر في دخول اسبانيا»، ومن هؤلاء مهاجر من ساحل العاج دأب على تكرير المحاولة منذ نهاية عام 2003 وفي كل مرة كانت السلطات المغربية تعتقله وتقذف به في الصحراء على الحدود الجزائرية ليعود من جديد في رحلة شاقة على الأقدام تستغرق خمسة أيام, وأعلنت منظمة «أطباء بلا حدود» الأهلية قبل أيام أنها نجحت في تحديد مواقع أكثر من 500 مهاجر أفريقي تركتهم السلطات المغربية يواجهون مصيرهم في صحراء جنوب المغرب بعد طردهم من جيبي سبتة ومليلة! إنها مأساة حقيقية تعكس فعلا حجم الجريمة التي ترتكبها الأنظمة الحاكمة في أفريقيا، لأنها حولت بسياساتها وفسادها المتجذر تلك البلاد إلى معتقلات يسعى مواطنوها إلى الهرب منها بأي طريقة حتى لو كانت على جناح الموت!