Imageالاثنين الفائت احتفل العالم بمرور مائتي عام على إلغاء الرق. هكذا طالعتنا العناوين بجملة غير مفيدة. فالاحتفالية أصلاً خاصة بتوقف عمليات نهب البشر من غرب أفريقيا وبيعهم في المستعمرات الأميركية آنذاك.. هذا أولاً. وثانياً.. فالرق لم ينته أو يُلغَ يوماً. استعباد البشر لبعضهم البعض هو في صلب الطبع الإنساني.

لنبق مع المثال الغربي قليلاً.. في 25 مارس 1807 قررت الولايات المتحدة وبريطانيا إلغاء الرق رسمياً. عبيد فرنسا تم تحريرهم بموجب مرسوم صدر عام 1848. لكن على أرض الواقع.. ورسمياً أيضا.. ظل الرجل الأسود كائناً ناقص الآدمية.


في الفيلم الذي يحكي قصة المسلم الأميركي الأسود (مالكولم إكس) مشهد يراجع فيه البطل معنى كلمة (أسود) في القاموس والتي جاءت رديفة للشر والقبح والجهل. على هذه الخلفية برر عقلاء أوروبا كل حملاتهم الاستعمارية لأفريقيا وللعالم العربي أيضاً. لنتذكر أننا كـ (ملونين) لسنا خارج الحسبة بحال. نحن نبقى لطخة (غامقة) في الوعي الأوروبي بالذات. لنتأمل لوحة (تسليم غرناطة) الشهيرة لـ (باديللا). على اليمين ملكا (قشتالة وليون) (فرناندو) و (إيزابيل) أبيضان على جياد بيضاء. على الشمال (أبو عبد الله الصغير).. أسمر مربد الوجه.. على حصان أسود.. محاط بحاشية يغلب عليها الكدر هي الأخرى.

المستعمر الأبيض استظرف اللعب بالألوان. الهولنديون والإنجليز حين أسسوا نظام (الأبارتيد) في جنوب أفريقيا جاءوا بالهنود من مستعمراتهم الأخرى ليكونوا بمثابة طبقة عازلة بين الأبيض مواطن الدرجة الأولى.. والأسود صاحب الأرض وصاحب الطبقة الأدنى بكثير. أحد هؤلاء الهنود كان محامياً اسمه (غاندي).

لمهم.. حارب الغرب (هتلر) على أساس تفسيره غير الآدمي للتاريخ.. لكن التاريخ يشهد على أن الجنود الأميركيين (الزنوج) كانوا منبوذين من قبل زملاءهم البيض.. حتى والكل أسرى في معتقلات الجيش النازي! لم يكن حتى انتصاف القرن العشرين حين رفضت فتاة سوداء شجاعة اسمها (روزا بارك) أن تتخلى عن مقعدها في الباص.. بموجب قانون ولاية (آلاباما).. لرجل أبيض. عليه قُدمت الفتاة للمحاكمة.. وقامت الدنيا في أميركا. لحسن الحظ كان هناك رجل أسود نشط اسمه (مارتن لوثر كنغ) استغل الحالة ليعزز من حركته في دعم الإصلاح المدني. أخيراً صارت كلمة "نيغرو" سُبة يعاقب عليها القانون. وبعد خمسين سنة من محاكمة (بارك) صار السود يحركون المشهد في أميركا. إنهم نجوم كرة السلة و الـ (فوتبول) ومغنوا (الراب) و (البوب). صاروا يعتلون منصات التكريم في ليالي (الأوسكار).. وأصبحت كلمة من (أوبرا وينفري) كفيلة بتحريك كل بيت في أميركا. (باراك أوباما) غالباً لن يصل لمرحلة ترشيح نفسه رئيساً للولايات المتحدة.. لكنه يحاول.. بنجاح حتى الآن.

هل نجح الغرب في التكفير عن ذنوبه المتوالية تجاه السود؟ ولا حتى عشرها! لأن الأسود.. والبني و (البيج) أيضاً يظلون مقترنين بالشر والجهل. الجديد هو أن القانون بات يعاقب على التلفظ بثمة تهم. الأميركي الأسود هو رمز للفقر والجريمة.. حتى يثبت العكس!
فلنشرّق إذاً بحثاً عن صورة أنصع (!). تاريخياً توجد هنا حالة شهيرة لإنسان اسمه (بلال بن رباح). هذا الذي كان مجرد "عبد حبشي" يوماً.. حين أمره (رسول الله) بالصعود على ظهر الكعبة ليؤذن يوم الفتح.. فإنه قد صعد ضمناً فوق هامات العرب المفعمين بالفوقية الخرقاء.. الفوقية المشبعة –للسخرية- بعقد النقص تجاه ملوك الفرس والروم وحتى تجاه نجاشي الحبشة المجاورة –للسخرية الأشد-.
كلكم لآدم.. كلكم من تراب. جملة كرّست المبدأ العصي على التطبيق كما يثبت الزمان. في أصل اسم أبينا (آدم) تطالعك الجملة الآتية: "سُمي آدم لأنه خُلق من أديم الأرض. وقيل: لأنه كان آدم اللون".. ياللسخرية المضاعفة!

العلاقة بين العرب والأفارقة معقدة ومتداخلة. فبالرغم من أن العرب في ظل الإسلام قد أنشأوا حضارة باهرة امتدت لتشمل امبراطوريات (تمبكتو) والصحراء الكبرى.. إلا أن مفهوم الاسترقاق لم يذوِ.. بل انتعش حتى خارج نطاق الحرب وأحكامها. يسجل لنا التاريخ أننا انتقلنا بالاستعباد من حيز الأسود إلى الأبيض الشاهق. أدخلنا في ملكياتنا الصقالبة والأتراك. هؤلاء بلغوا من الكثرة حداً مكّنهم من التغلغل في الدولة.. ليصيروا هم الدولة. مدهش هو (العز بن عبد السلام) حين يفتي ببيع سلاطين المماليك قبل مبايعتهم كـ (أحرار) على حرب التتار!
حين يحتفل الغرب بتخلصه من عار الاسترقاق.. ويشير بأصابع التهمة للسودان وموريتانيا وسواها.. وحين تخطر على ضمائرنا بالمقابل كامل منظومتنا الأخلاقية على أساس تنزهها عن هذا الهراء.. عندها علينا أن نتساءل: أين هو الرجل الأسود (الرمز) في تراثنا؟ هناك (زرياب).. هناك ثورة الزنج وخراب البصرة.. بغتة يبرز (كافور الإخشيدي) كمثال فذ مميز.. لكن حتى هذا جاء (المتنبي) ناقماً لينسف إنجازه في بيت واحد من الشعر. بيت واحد خلّد الصورة النمطية الوسخة التي يحتفل الغرب –كاذباً- بمرور مائتي عام على نهايتها.. ونتشدق نحن –غير صادقين- بتخلينا عنها بحكم الدين والعادات والتقاليد.. وأشياء أخرى.


في أفلام هوليوود التاريخية.. لا يرد مشهد سوق النخاسة إلا ويتصدره سمسار عربي قُح. (كونتا كونتي) بطل رواية (الجذور) كان في الأصل مسلماً من سواحل السنغال. هذه المعلومة قد لا تعني الكثير لملايين (الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية).. وغيرهم من السود في أوروبا وأميركا الجنوبية. وهي قد لا تعني الكثير لمعظمنا أيضاً.. ولهذا السبب بالذات فإننا نحتاج لأن نحتفل يوماً ما برجلنا نحن الأسود.. وأن تعتذر له أيضاً. ثم نعتذر لأنفسنا عن تاريخ في التعايش أسود.. إنما ليس على النحو الصحيح تماماً.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية