ما الرابط بين الحدثين؟ لا شيء.. اللهم إلا جملة سريعة وردت ضمن سيرة حياة الزعيم البريطاني الجديد.. فهو حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ.. مع مرتبة الشرف.
كم واحداً من فتياننا وفتياتنا المفعمين بالقلق والمحملين بالملفات (العلاقي) الخضراء يفكر في التقديم لكلية الآداب، قسم التاريخ، التابعة لأي من جامعاتنا؟ هل يبدو التساؤل سخيفاً؟ غير منطقي؟ هذه في حد ذاتها إشارة جديرة بالاهتمام.
بين مئات آلاف خريجي الثانوية العامة، الذين يطمحون لأن يصبحوا كائنات ذات تأثير ونفوذ، أو حتى كائنات عادية ذات وظائف لائقة ورواتب معقولة؛ كم واحداً سـ (يختار) أن يَدرُس التاريخ.. يَدرسه تماماً حتى أطروحة الدكتوراه.. ويؤسس حياته العملية.. الـ (كارير) كما يقولون.. على هذه الدراسة؟ تقولون أن هذا تصوّر غير واقعي؟ أنه يتعارض والظرف الراهن؟ لكن (غوردن براون) فعلها. (براون) الذي شغل خلال العشر سنوات الأخيرة كرسي وزير مالية بريطانيا، أحد أكبر سبع اقتصادات في العالم، (براون) زعيم حزب العمّال، ورئيس وزراء المملكة المتحدة.. فعلها.
تقولون أن هذا القياس فاسد.. لأن المدعو (براون) ولد وترعرع في بريطانيا.. في حين أننا نحن نعايش إشكاليات مختلفة هنا في السعودية؟ هذا كلام كبير ومهم.. ويستدعي تفسيراً دقيقاً. فما هو الفرق –بعد كل- بين إنجلترا والسعودية؟ خاصة وجامعاتنا تترفع، الواحدة تلو الأخرى، عن قبول الشهادات البريطانية تحديداً!
بلادنا ما تزال في حاجة ماسة للأطباء والمهندسين. هذا كلام صحيح. لكن في مقابل هذه الحقيقة الإحصائية الجامدة هناك حقيقة أخرى مفادها أننا نعيش وكأن الشهادة هي من يصنع الإنسان.. وليس العكس. وأن القيمة العلمية.. المخبوءة في ثنايا مراجع الطب والهندسة ليست قيمة حقيقية في الواقع. فالتاريخ في نهاية المطاف.. شأنه شأن الفلسفة والقانون.. هو عِلم. علم حقيقي تحتاجه الأمم المتطورة. هل تكفي هذه الحقيقة ليقايض أحدكم مقعد ابنه في كلية الطب.. بآخر في كلية الآداب.. قسم التاريخ؟!
هل يعتبر الطالب الذي قرر (طوعاً) أن يتخصص في التاريخ، أو علوم البحار، أو الأدب الإسباني مخطئاً؟ لمجرد أنه خالف توصيات خطط التنمية؟ هل يعتبر خاسراً لأنه صنّف نفسه –بنفسه- مع أولئك الذين رفضتهم كليّات النخبة الذين لم يتقنوا حفظ المقررات ثم تفريغها على أوراق إجابة الثانوية العامة؟ هل يشفع لهذا الطالب أمام أهله وأمام المجتمع تبريره لقراره بأنه نابع عن (رغبته الشخصية)؟ أنه اختار (التخصص الذي يُحب) – هل هذه عبارة مضحكة-؟
على من نلقي باللائمة؟ على النظام المدرسي الذي علمنا أن (القسم العلمي) هو عرين الناجحين والأذكياء؟ على الجامعات التي فشلت في فرض الثقافة المعرفية على المجتمع؟ على المجتمع المتشبث بالتفسير المادي للحياة والدراسة والوظيفة؟ على سوق العمل الذي يستعبدنا بمتطلباته حتى قبل أن نتوظف ويرفض أن ينفتح أمام رغباتنا نحن؟ أم على أجيال الطلبة والطالبات التي انساقت مع كل هذه الضغوط فلم تجابه أي منها وتجبرها على الانصياع لخيارها في أن تكون ما تريد.. لا ما يراد منها.
حقاً.. ما هي فرص النجاح والنجومية المتوقعة لخريج الآداب، قسم التاريخ؟ أم أن هذا الفرد سيعيش بطالة مقنَّعة لا محالة. ولن يمثل سوى عبئاً آخر على الوطن؟
بين أكوام علامات الاستفهام أعلاه يُطل السؤال الأساسي: ما الفرق بيننا وبين بريطانيا؟ الفرق الذي أوصل صاحب الفخامة الدكتور (جيمس غوردن براون) إلى (10 شارع داونِنغ)، وهو الحاصل على إجازة في التاريخ، ليحكم أمة من المهندسين والمحامين والاقتصاديين والأطباء.. وسواهم.
التعليقات
مالذي جعلك تتجه للكمبيوتر وعلومه، وتترك التخصصات الانسانية والأدبية؟
ربما سألت نفسي كثيراً هذا السؤال، وكانت الإجابة دوماً تأتي باتجاه واحد: هذه المهنة التي لن يتعب رأسك كثيراً عندما تفكر بالبحث عن وظيفة. أشعر دوماً أني لست في المكان الذي أحبه، لكني دوماً أضع على الجرح ملحاً وأداويه بطريقتي.
كل الاحترام
بشير، كل فرد له ميول وإهتمامات تتشكل نتيجة لظروف التنشئة زائد المعرفة المكتسبة من الحياة (قرائات تعاملات مع الناس) وهذا سبب إختيار المرء لدراسة.
لذلك المقال يقصد المرء الذي يختار (بإرادته) دراسة التاريخ، وكيف أنها -في عالمنا العربي- ليست دراسة مجدية - مقارنة مع العالم الغربي التي أوصلت صاحبها لمقعد الحكم الفعلي.
أما إجابتي على التساؤلات تتمثل في: المجتمع الإستهلاكي (معشر العرب) في مقابل المجتمع الإنتاجي (معشر الغرب) بكل بساطة.
فلكل فرد رغباته الخاصة وميوله اتجاه علم معين وفضولة في معرفة المزيد عنه
فلا ضير أن يختار الطالب تخصص التاريخ او الفلسفة إن كان مُحبًا لهما أو مولعًا بهما , فإن إختار المجال الذي يحب بكل تأكيد سيبعد فيه وقد يطوّره ويبتكر طُرقًا جديدةً لتدريسه أو قد يصدر فيه إصدارات ثقافية عدة ويصبح من أكبر الخبراء والكُتّاب
ودارس التاريخ قد يُكمل تعليمه ويصبح أستاذًا مرموقًا في الجامعة او قد يصبح محللاً يربط بين الماضي والحاضر أو مقدمًا لبرامج تاريخيه .. إلخ
دارس التاريخ إن أحب هذا المجال سيبدع فيه بلا شك
لا أنكر من أنني أجد في نفسي حبًا كبيرًا للدراسات التاريخيه وقد تمنيت دراستها , ولكنني في مجتمعنا الغربي قد إخترت الشهادة الأفضل والمجال الأقوى وإلتحقت في كلية القانون !
على كل عموم , قد أحببت هذا المجال مؤخرًا وأكتفيت بإشباع فضولي نحو التاريخ بالقراءة والإطلاع والمشاهدة والإستماع
وإشارةً إلى ما قاله الاستاذ محمد الملاح من تدني نسب القبول في مجال القانون فمن حقي الدفاع عن دراسة القانون في الكويت , فكلية الحقوق لا تقبل إلا المتميزين وأصحاب النسب العالية ولا علم لي بخصوص كليات القانون في الدول الأخرى ..
1. دور الإرادة الفردية في خضم الإدارة الجماعية، فيجب أن يكون لرغبتنا أثر ولهوانا دور في تحديد تخصص عملنا المستقبلي.
2. مخالفة الصورة النمطية بأن التخصصات العلمية هي المهمة والقائدة، وبالحقيقة فإن د. طارق السويدان يتفق مع كاتبنا المحترم، حيث يؤكد دائمًا على أن التخصصات الإنسانية هي التي تقود.
وأحب أن أستخلص - أو أضيف ما يلي - :
3. علينا الموازنة بين الرغبة والقابلية، بمعنى أن لا أذهب إلى تخصص مرغوب بالسوق لكنني لا أطيقه، ولا أذهب إلى تخصص أهواه بشدة ولكنه غير مفيد البتة! والله أعلم؛ شخصيًا طبقت ذلك وأحسبني نجحت إن شاء الله الكريم.
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة