أحببت الفصحى في صغري؛ ولازلت أذكر أني كنت حريصا كل الحرص على إجابة جميع موضوعات التعبير في امتحانات الشهر بالرغم من أنه كان يطلب منك الإجابة عن سؤال تعبيري واحد أو اثنين؛ فقد كان لمعلمتي في المرحلة الابتدائية وقبلها جدي لأمي -رحمة الله عليهما- باع طويل في هذا الحب لما لمسته من تأييد وتعضيد على حداثة سني. سألت معلمتي هذه يوما: "لماذا ندرس اللغة العربية الفصحى بينما نتكلم بالعامية؟. فأجابت قائلة: "لا أعرف فقد تعودنا -نحن العرب- على هذا". وبقى هذا سؤالا ضمن باقة الأسئلة التي لازلت أبحث عن إجابة شافية لها.
أما في المرحلة التالية من الدراسة -الإعدادية على ما أذكر- قال لي ذات مرة أحد معلمي العربية لما رأى حالي مع التعبير: "ما هذا يا بني؟ كويس (جيد بالعامية المصرية) لكن نصيحة لا تتعب نفسك بالكتابة فلا أحد يقرأ، المهم أن يكون شكل الموضوع حلو". كان هذا هو طرف الخيط الذي عرفت منه إجابة سؤالي الذي سألته لمعلمتي صغيرا.
لست ممن يقعون في خطيئة التعميم التي يقترفها الناس إلا من رحم ربي، لكن حال لغة الضاد لا يخفى عليكم بدء من عدم اهتمام بتعلم العربية، مرورا بلافتات الشوارع التي تكتب بإنجليزية أو فرنسية -خاطئة وفاضحة- وبعربية لا تعرف الفرق بين الهاء والتاء المربوطة، وانتهاء بإعلام يعتبرها خبر "كان"، وإن استبشرت خيرا لأن حديثا دار بالفصحى فلابد من خطأ -بل خطايا- تؤذي أذنيك.
كنت أشاهد إحدى فضائياتنا العربية وضغطت على زر تغيير القناة بالخطأ، فانتقلت إلى فضائية عربية أخرى، فإذ بى أمام مذيعة "تؤدي بشفافية" وموضوع الحلقة -كما هو مكتوب على الشاشة- "تفسير الأحلام مع فضيلة الشيخ فلان". هذا درب لا أعول عليه لكن استوقفني سؤالها لـ "مولانا" عن تفسيره للقبلة -بضم القاف- التي رأتها السائلة في منامها. توقعت ردا يتمحور حول "عريس الغفلة" -المعروف عادة باسم"فتي الأحلام"- لكن الطامة الكبرى أن حسنائنا هذه تأسفت وصححت كلامها قائلة "القبلة" بكسر القاف! ممتاز! ماذا لو كان "مولانا" فسر الحلم بضم القاف؟
مرادي أن الإعلام هو الذي يساهم في تشكيل العقول، فكيف بالله عليكم يكون معيار دخول المجال الإعلامي مرتبطا -عند كثيرين- بالمميزات الشكلية (جمال المرأة/وسامة الرجل) و"مواصفات أخرى" لا تسألوا عنها فقد تسيئكم؟! المصيبة أنه يمكن التغاضي -في هذه الحالة- عن مستوى اللغة العربية -ولا أتتحدث عن المستوى العام للخريج- ما دام "شكل الموضوع حلو"!، أما الأدهى والأمر أن الموضوع يكون حاصلا على شهادة "فالصو 13001" من أكاديميات التزييف "بيحوس بيوتي بالاس"!
حسن! ما الحل إذا؟ لا أطالب بمؤتمرات تشجب وتستنكر وتدين ترحما على "سيبويه" مثلا بل أطالب برد الاعتبار عمليا؛ فاللغة ليست وعاء للثقافة فقط بل هي أداتها التعبيرية الرئيسة التي تنقل حال الأمة من خلال منابرها المختلفة (إذاعة، تلفزيون، كتب، صحافة، مسرح، غناء، سينما، إلخ) بغض النظر عن صلاح المحتوى أو طلاحه.
علي مستوى الأسرة: إذا كان السائد حاليا هو مدارس الدبلوم الأجنبية، هذا أمر لا ضير فيه لكن أين العربية؟ أين حرص الآباء والأمهات على تعليم أبنائهم الفصحى في المهد؟
علي مستوى المجتمع عموما: قد يكون المطالبة بسن قوانين لحماية اللغة سخيفا -في بادئ الأمر- لكن ألا ترون أنه حتى في الدول التي شرعت مثل هذه القوانين فإنها لا تطبق؟ أما عن الإعلام خصوصا، فأين الاختبارات التحريرية الحقيقية -بعيدا عن الواسطة- التي تحدد مستوى الخريج في العربية؟
لن أتوقف عند مرحلة تشريع قوانين، كما لن أتساءل لماذا لا يوجد؛ بل أدعو إلي تقنين نظاما للعربية علي غرار "التويفل" البريطاني لابد من اجتيازه قبل الدخول في مجال الإعلام.
"إن لله جميلا يحب الجمال" أليس كذلك؟ لماذا نحصر هذا المفهوم في الشكل الخارجي -الذي هو من خلق الرحمن- ولا نوسعه ليشمل المضمون الذي هو بيد الإنسان؟ أليس المضمون هو الذي يبقى في الأرض صالحا كان أم طالحا؟
وختاما: ألا ترون أن تعودنا على "تكسير الفاعل" و"رفع المفعول" قد أوصلنا إلي شفا جرف هار؟ حسن، لماذا لا نعبره قبل أن ينهار بنا؟