تلك هي تساؤلات يصعب الإجابة عنها من حيث قضايا التوجه العام داخل المجتمعات العربية، فالنخبة هي المهيمنة على كافة أمور الشعوب دون القيام بمعرفة آراء شعوبها وتوجهاتها، فالبعض يقول بوجود الديمقراطية.
والبعض مازال يدين للاشتراكية بالفضل والجميل، والبعض الآخر يتأرجح بين هذا وذاك باعتبار ارتفاع سقف الحريات داخل مجتمعه، ولكن في خضمِّ هذا الحديث يتناسون الشعوب و توجهاتهم وآراءهم التي تمثل مواقفهم واتجاهاتهم في قضايا ما قد تتعلق بمستقبلهم ومستقبل أبنائهم، ولهذا فمن الضروري على أيِّ مجتمع يسعى إلى تفجير روح الشعوب التوَّاقة إلى التقدم والعيش الرغيد أن تتبنى أول ما تتبنى لتحقيق الديمقراطية ما يسمى بقياس الرأي العام؛ لأنه هو أول خطوات المجتمع الديمقراطي السليم، فالديمقراطية ليست كلمة جوفاء، كما أنها ليست لها مدلولات عربية، فالديمقراطية هي مصطلح غربيُّ التكوين والمدلول، وهو ما يعنى: حكم الشعوب لذاتها وبذاتها، وذلك عن طريق الانتخاب الحر، والتمثيل البرلماني، مع وجود ضابط ضاغط داخل المجتمعات هو الرأي العام المؤثر في النخبة الحاكمة من خلاله.
فعندما تحدث قضية داخل أي مجتمع ديمقراطي، لا يتم اتخاذ القرارات من خلال النخبة اعتبار أن الشعوب لا تعرف ما ينفعها، وأم من بيدهم الأمر والنهي هم الموكلون على اتخاذ القرارات، وأنهم أحرص الناس على ما ينفع شعوبهم،فلقد قال إبراهام لنكولن: (إنك تستطيع أن تخدع الناس بعض الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدعهم كل الوقت)، ولهذا فالخداع سهلُ الاكتشاف، فإن تم كشف الخداع، ستفقد الشعوب احترامها لهذه النخبة إذا كانت هذه النخبة تحت النظم التسلطية، وستصبح أية محاولة لإنجازٍ تريد النخبة تحقيقه في المجتمع هو من قبيل الزعم الكاذب لدى الشعوب، فتفتر عزيمتها في تحقيق أية إنجازات تريدها النخبة؛ وذلك لأن النخبة قد خادعت الشعوب ولم تعترف بحقوقها في إبداء الرأي المعبِّر عنها، كما أن النخب الحاكمة المتسلطة تتمثل القول: (جَوِّعْ قطيعك، يتبعك)، فبإمكان أية نخبة متسلطة أن تفعل هذا الأمر، ولكنه لن يدوم كثيراً ، ولعل أفضل مثال في العصر الحديث هو ما حدث في الاتحاد السوفيتي إبَّان انهياره، ولذلك فإن المجتمعات الاشتراكية لها مساوئها كما أن للمجتمعات الديمقراطية مساوئها، ولهذا حديثٌ آخر،إما من ناحية إيجابيات المجتمعات الديمقراطية هو قياس الرأي العام.
فالرأي العام (من وجهة نظر مركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية بالقاهرة، 2006م): (هو مواقف واتجاهات أو معتقدات المجتمع فيما يتعلق بقضية ما داخلية كانت أو إقليمية أو دولية).
فعندما ننظر عن كثب إلى المجتمعات العربية كاملة نجد ما تحار له العقول، وتذهل له الألباب، فالرأي العام لا قيمة له في أي بلدٍ عربيٍّ، حتى وإن نادى بمبادئ الديمقراطية، وارتفاع سقف الحريات، ويتأتى ذلك الأمر نتيجة لتجاهل النخب الحاكمة لدور شعوبها في التأثير والتغيير، ولا تنادي بضرورة قياس الرأي العام إلا في القرارات التي يثبت بالفعل وجود إجماع عليها، وأنها سوف تصب في مصلحة النخب الحاكمة بعد ذلك إن آجلاً أو عاجلاً.
ولا أحد ينكر أن الرأي العام يتأثر بالعادات والتقاليد؛ ولأن العادات والتقاليد تتمتع بثبات نسبيّ، والرأي العام يتمتع بدرجة من التحرر نوعاً ما من العادات والتقاليد، فإن النخب التسلطية تحاول التأثير على شعوبها بالتمسك بالعادات والتقاليد التي تفيد فئة قليلة داخل المجتمعات التي تعتمد على الكبت والقهر وحجب الحريات، وبالتالي يخبو فيها صوت الرأي العام الذي يدافع عن مصالح الشعوب الشخصية، فيتلاشى تأثير الرأي العام على العمل السياسي، ويصبح الرأي العام كامناً يتسم بالسلبية والخضوع وعدم القدرة على التعبير عن وجهات نظره تجاه مصالحه الشخصية.
فمتى يكون الرأي العام مؤثراً؟
يكون الرأي العام مؤثراً عند توفر بضعة معايير، منها:
1. وضوح القضايا محل القياس، وفهم الجمهور لها تمام الفهم.
2. اتساق وتناسق تفضيلات الجمهور للبدائل.
3. ارتفاع درجة الاستقرار من النخبة الحاكمة للاختيارات السياسية.
فإن توافرت هذا المعايير يصبح الرأي العام مؤثراً حقيقياً داخل المجتمع، وذلك لأن الرأي العام يرتبط بعلاقة دائرية ديناميكية، ويتوقف دور الرأي العام على طبيعة النظام السياسي السائد، وطبيعة القضية المطروحة.
ونلاحظ في المجتمعات الديمقراطية أن الرأي العام هو بمثابة الحيز العام الذي تتحرك فيه النخبة السياسية، ولا تستطيع أن تحيد عنه، لأنها إن مالت عنه،فإن المجتمع سوف يقوم بتحييده إجباراً من خلال الانتخابات التي تجري بين الحين والآخر، ولهذا يمكن القول: إن النخب الحاكمة لا يستطيع أن تتجاهل الرأي العام في مسائل توزيع المناصب السياسية كما قال ميكافيللي، ولا تقتصر أهمية الرأي العام على الدول الديمقراطية فحسب بل إنها تشمل كافة المجتمعات الديمقراطية والشمولية، ولذلك فإن كافة النخب الحاكمة تخشى بأس الرأي العام؛ لأنه في حالة تعبئته من جانب أية جماعة أو قيادة معارضة تستطيع الإطاحة بأي نظامٍ مهما بلغت قوته و مهما بلغت كفاءة أجهزته الأمنية.
ولهذا لابد للنخب العربية الحاكمة إن أرادت مصالح شعوبها أن تحاول تعزيز الرأي العام بإطلاق الحريات بشكلٍ جماعيٍّ، وهذا الأمر لن يتأتى إلا ببعض العوامل التي تؤثر على ارتفاع سقف الحريات داخل المجتمعات العربية، وهي:
1. المشاركة المجتمعية في صنع القرارات السياسية.
2. مساءلة النخب السياسية بين آنٍ وآخر من خلال المؤسسات البرلمانية، وإقصاء أية نخبة سياسية فاسدة، قد تضرُّ بمصالح شعوبها وأمنها القوميّ، وهذا من خلال هيئة مستقلة بعيدة عن السياسات، وبعيدة عن المطامع السياسية المكتسبة، مع تغييرها في حال وجود شكٍّ في نزاهتها من خلال البرلمانات المنتخبة.
3. تعزيز تداول السلطة؛ حتى لا يحدث نوعٌ من تمادي القوى السياسية في التغلغل العشوائيّ في كافة المجالات، فتحدث الفساد داخل كثيرٍ من القطاعات المجتمعية.
4. تعزيز دور الرأي العام في كشف مواطن الفساد داخل القطاعات المجتمعية، فهذا الأمر سيؤتي ثماره في تحقيق التقدم، والسعي إلى تعزيز روح الشعوب العربية في المقاومة لكل ما هو دخيلٌ عليها، وزيادة الانتماء لأوطانها وشعوبها.