هكذا كان عنوان الخبر الذي انتشر عبر مواقع الإنترنت والبريد الإلكتروني مؤخراً. في الواقع فإنك ستحتار حين تحاول أن تفسر الحماسة التي تُوزع بها ثمة (تقارير). ستستشعر فرحة شعبية بمثل هذه الأخبار. هل هي الشماتة؟ الرغبة في التشفي؟ أو هي محاولة لتدمير أسطورة الأميركي المتفوق.. إثبات أننا "لسنا وحدنا" ربما؟ بالتأكيد لسنا الوحيدين. الاستغفال سمة بشرية أصيلة لا تعترف لا بالحدود ولا بالأعراق. والخبر مدار الذِكر بنى نتائجه على ما أعلنته مؤسسات حماية المستهلك من أن نصف الأميركيين يتعرضون لعمليات احتيال عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني كبدّتهم خسائر وصلت إلى 7 مليارات دولار خلال السنتين الماضيتين.

على نفس النسق تأتيك إيميلات وصفحات ويب كلها تثبت كم هم الأميركيون جهلة بالعالم الخارجي وبأبسط مقومات الثقافة العامة. مثل مقطع الفيديو للمراسل الذي يستوقف الناس في شوارع نيويورك عقب هجمات 9-11 يسألهم عن الدولة التي تستحق أن توجه لها "ضربة وقائية" بعد أفغانستان.. ليجيب بعضهم: "أستراليا".. يسألهم عن موقع أفغانستان على الخريطة.. فيشير بعضهم للفلبين!

تصلك هذه الرسائل الإلكترونية واللقطات مرفقة بتعليق من قبيل "هذا هو الشعب الذي يحكم".. أو "حقيقة أميركا من الداخل". وكأن الأميركي محدود الذكاء أو الجاهل الماشي في الشارع هو مفتاح قوة دولته الكاسحة وتسلطها على باقي الأمم!

هذه إذاً معادلة غير موزونة ولا عادلة. نحن أيضاً أمة حافلة بالسذّج وضحلي المعرفة.. عندنا كذلك من ضحايا النصب الإلكتروني والمباشر، من محدودي الثقافة وبائعي الكلام، من الأميين والمتفذلكين، وزبائن الشعوذة والسحر والنفث عبر الفضائيات، من محللي وخبراء (السلق) وسمرات المقاهي.. من ذلك كله وأكثر.. مالله به عليم. لماذا لا نحكم ونسيطر نحن أيضاً؟!

كل هذه الالتفافة العريضة تقودنا للحقيقة التاريخية المعروفة. الجماهير لا تملك من أمر النهضة شيئاً! الشعوب.. هذه الملايين التي تزحف كالجراد عبر شوارع المدن الكبرى.. أو تكدح لتوفر لنا الشاي والأرز وأحذية (أديداس) عبر المدن النامية والأفقر. هذه الأنفس كلها ليست سوى أرقام ووجوه قابلة للتكرار والاستبدال. ليست سوى تروس صغيرة في ماكنة الإنسانية الضخمة. الماكنة التي تحركها صفوة مختارة من ذوي النفوذ والمال. حتى العلماء وأصحاب العقول وبراءات الاختراعات، أولئك الذين كثيراً ما نعلق ازمة تخلفنا بشماعاتهم، ونستحضر أسماء نظرائهم من تاريخنا القديم لنذكر أنفسنا بقيمتها الغابرة.. حتى هؤلاء لا يجرّون عربة الحضارة وراءهم ولا يدفعونها أمامهم. هؤلاء يظلون معتالين على الأقوياء الأغنياء ليفروا لهم الرعاية والضمان.. على أصحاب المكانة والسطوة.. (الملأ) كما سماهم القرآن. الملأ كانوا وراء تصديق الأغلبية بالأنبياء أو تكذيبهم. الملأ كانوا هم مفتاح نجاح وخيبة أممهم عبر التاريخ.

قائمة أغنى أغنياء العالم تتصدرها أسماء من أميركا والهند والصين. لا يهم كم مغفلاً يسير في شوارع أميركا. كم هو تعداد المنبوذين والمعتازين في الهند ولا كم مليوناً يقلدون البضائع الرديئة في الصين. المهم أن هناك طبقة ما.. شريحة ما من الأغنياء الأقوياء الواصلين تضمن أن هؤلاء في النهاية سيحققون الربح لمنظوماتهم.. وأن هذا كله سيعود بالتفوق على المنظومة الأكبر المساة بـ (الوطن).

هذا التصور قد يفتقر للمسة الإنسانية. قد يبدو فجاً مغرقاً في المادية صادماً في وحشيته.. ومن قال أن الحياة هي غير ذلك؟ متى كانت الحياة غير ذلك؟

الأكثر صدماً وإغراقاً في الهزل والأنانية هو انتفاء الحلقة الأخيرة من التصور أعلاه. حين تغدو المصلحة الشخصية البحتة هي المحركة لكامل المنظومة النفعية التي وصفناها. أن يخرج (الوطن).. (الأمة).. الكيان الأكبر من كل هذا المولد الدموي بلا أي حمّص. أن ينتهي الأمر بالملأ لأن يكيلوا المال في جيوبهم وكروشهم.. لكن بدون أن يعود هذا على الكيانات التي يحملون جوازات سفرها ويستنزفون شعوبها بأي خير!

ليكنز أثرياؤنا المال. ليتمتعوا بأسعار الأرز والتمر ولقاحات الدرن الحارقة. يسعنا أن ندّعي الحمق ونعتبر أن المال إنما يغادر من جيب المواطن إلى جيب مواطن آخر! لكن بشرط.. أن يطمئننا أحد بأن هؤلاء الأثرياء المتنفذين.. هذه (الصفوة) من المجتمع.. تُعد لشيء ما بكل هذا النفوذ وهذه الثروة. شيء كبير وهام ينقلنا لأمة أفضل وأكثر عظمة وتأثيراً.. بفقرائنا ومقهورينا ومغفلينا الذين لا نريد أن يكونوا هم مقياس تنافسنا الوحيد مع بقية هذا العالم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية