كأي مشروع عربي هذه الأيام ولا سيما ما هو حول الثقافة العربية لا بدَّ وأنه يحتاج المراجعة، والأهم أنه سيكون محتاجاً لفحص خطوات الإعداد جيداً، ما يجعلنا قلقين حول مآل هذه التجربة وحظها من النجاح هو الخصوصية التي تتميّز بها مدينة القدس تحت الاحتلال الصهيوني منذ أربعين حولاً بالتمام والكمال، إضافة إلى مكانة هذه المدينة المقدسة المميزة دينياً وثقافياً وإنسانياً، وهي كانت ولا زالت قلب هذا العالم مهما تبدّلت الأزمان وتغيّرت الظروف. سيكون الفشل في إنجاز أي إنجاز مهما تواضع حجمه ونوعه وأثره بالغ الأثر، ليس فقط على جهد الباذلين ومساحته من إيمانهم وحماسهم لهذا العمل، بل سيكون معيباً ومشيناً أن يلحق باسم هذه العاصمة المقدسة لفلسطين والعالمين العربي والإسلامي أيُّ نوع من التقصير والفشل، ولذا فإن هذه المسؤولية لا شكَّ عظيمة وحساسة وتحتاج فوراً إلى إعلان حالة طواريء ثقافية فلسطينية وعربية حتى أقصى حدود درجات اللون الأحمر منذ الآن.
المعنى المباشر لهذا التحدي الذي فرضته هذه الفرصة والتي نقف إزاء إقرارها موقفاً فيه من الرّغبة بنجاحه والأمل بحدوث هذه المعجزة العربية، بقدر ما كنا نأمل لو تم تأجيل مثل هذا حتى تحرير هذه المدينة وإدانتها لحضنها العربي والإسلامي والحضاري ، ولكنَّ الكلام فيما تم فعلاً سيصبح على قاعدة لو مدخلاً لعمل الشيطان، فلا مندوحة عن ضرورة التعاطي مع قبول هذا التحدي والنظر والتفكير والعمل من هذا الباب فقط وحتى إشعار آخر.
استمعنا إلى جملة من الآراء التي شكَّكت في النوايا فضلاً عن الذهاب إلى تعداد المحظورات من حول هذا التحدي، وكلّها وجهة نظر مقدرة ومحترمة ونكاد نشترك مع أغلبها الرأي ونشاركه نسبة التحفظ ، لكنَّ الواقع الذي يجب أن يتم التعامل معه اليوم: هو كيفية تحويل هذه المحظورات إلى نقاط قوة وإسقاط كلِّ سلبياتها المفترضة والتي يخشى من مضاعفاتها وتراكمها لا سيما وأن جلّها يعود إلى وضع المدينة تحت حراب الإحتلال بما يلقي بظلال من الشكِّ حول ما سيثيره أي خطأ في التعامل بحيث يحرف المؤشر إلى شبهة التعاطي مع هذا الواقع مورثاً خطيئة التطبيع معه.
في ذات الوقت استمعنا إلى جملة الشكوك والاحتجاجات حول اللجنة المشكلة فلسطينياً لهذا الغرض، وهذه نجدها محقة إلى حد كبير لأن حدثاً بهذا الحجم وهذه الخطورة لا يتوجب أن يتم التعاطي معه كبقية ملفات الإدارة التي سجّلت السلطة الوطنية الفلسطينية سجلاً حافلاً بسوء الإدارة وسلوكيات الفشل الإداري في كثير منها، وإذا كانت خطورة الخلل الإداري في بعض الملفات (ملحوقة) ويمكن تلافي بعض أخطارها القاتلة، فإن أيًّ خطأ في هذا الملف لن يكون ممكناً تلافي نتائجه الخطيرة والتي ستنعكس على مجمل الصورة العامة ثقافياً وإلى أمد بعيد.
في الواقع كنا نظن أن هذه المناسبة تحتاج إلى قرار بتشكيل هذه اللجنة من خلال منظمة التحرير الفلسطينية لتكون شاملة واسعة، ونحن نرى أن إشراك كل الجهود وكلِّ العناصر الثقافية الفلسطينية ضرورياً حتى أوسع باب ممكن بحيث يبدأ من الشتات وينتهي في الوطن المغتصب وليس العكس، نحن نسجّل أن هناك مؤشرات حقيقية تتيح مزيداً من القلق والتوجّس حول طريقة التعاطي مع هذا الحدث منذ الآن، فاللجنة المشكلة حتى الساعة لم تضع استراتيجية عمل ولا يوجد لها أي بند مالي يمكنها من الشروع في خطىً حقيقية.
مهما يكن الأمر، فإن عوامل نجاح مثل هذه المشاريع القومية هي بالأساس في المنجز الفردي والعطاء الطوعي الذي يؤديه ويقدمه المثقف الفلسطيني في الوطن والشتات، ولعلنا نثق تماماً بمقدرة هذا العنصر الأول البشري قبل أن تكون عندنا الثقة بالعناصر المادية من ميزانيات ومؤسسات وبالذات الحكومية منها، إننا نعوّل على القطاع الخاص الفلسطيني الوطني بمؤسساته والتي نعلم أن كثيراً منها وخاصة في مدينة القدس جرى إهماله منذ عقود ولم يستطع أغلبه الصمود أمام قوة الضغط الصهيوني أمامه فأقفل أبوابه أو كاد،ولكن بعيداً عن دكاكين الثقافة الخاصة بمؤسسات غير الحكومية أو ما يعرف (أن .جي .اوز) الأخيرة.
نتذكّر أن مؤسسة الدراسات في القدس والتي كان يقف عليها رمز من رموز نضالنا الوطني الفلسطيني هو الشهيد فيصل الحسيني كانت بمثابة القلب النابض الذي يغذي هذه المؤسسات وبمثابة ضابط إيقاع هذه الأوركسترا الثقافية الوطنية لعشرات السنين في صراع مع المحتل خلال سنوات السبعينات والثمانينات وأنها أنجزت أضعاف ما استطاعت السلطة الوطنية الفلسطينية أن تنجز في القدس ، وهنا دعونا نسأل ما هو البرنامج الذي كان متوفراً لدى السلطة الفلسطينية خلال عقد ونصف منذ انشائها لدعم هذه المؤسسات والحفاظ عليها وكم أنجزت من أهدافه؟
طبعاً الدور الكبير سيكون أيضاً على وزارة الثقافة الفلسطينية في السلطة الوطنية، وإن كنا نحترم وزيراً جاداً ومناضلاً ومثقفاً بارزاً مثل الأخ معالي وزير الثقافة اليوم د.إبراهيم أبراش ، إلا أننا ندرك معه حجم هذا العبء لا سيما ونحن نعلم أن وزارة الثقافة بدأت مؤخراً وفي عهده بضعة خطوات جدية لتغذية الثقافة الفلسطينية ورفدها ببرنامج حياة قياماً ونهوضاً من برامج السبات والتمطي المكتبي والمحاصصة الوظيفية التي كانت عليها في عهود سابقة على وجوده في مكتب الوزارة، ومع ذلك فنحن نثق أن للرجل قدرة على العطاء لن توقفه على أدائها جبال الاستلابية ومافيات الثقافة في مكاتب الوزارة التي تقبع اليوم في معركة هذا البرنامج في الخط الأول.
كنا نتمنى أن يكون الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين على خير وعافية لينهض في أداء دوره هو الآخر، لكن للأسف فإن حاله منذ فترة على سرير الشفاء من الشقاء، وليس أفضل منه حالاً عدة تجارب على هامشه هنا وهناك حاولت أن تقفز عن معيقاته فإذا بها تحبل بأضعافها، ومع ذلك فإن هذا التحدي يحتاج اليوم أن تتضافر الجهود وأن تسقط كل الحسابات الهامشية والجانبية مهما كان نوعها، وأن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، اليوم يقف المثقف الفلسطيني أمام امتحان لا ملحق له وعليه أن لا يتعذّر بشتى العلل والأعذار دون النهوض بواجبه.
ليس متوقعاً أن يكون الحال في نهاية الأمر هو خلق ازدحام مؤسساتي ثقافي من مسارح ومعارض واستوديوهات ومهرجانات وما تكرّس في عواصم العالم منها كان عبر جهود أجيال وأجيال، ونحن نقنع أن يكون على الأقل لدينا تظاهرة ثقافية بالممكن والحد الأدنى من هذه جميعاً، وليسعف النطق إن لم يسعف الحال، لكن من المهم أن يكون هناك استراتيجية صحيحة وبرنامج واضح لإنجاز ذلك، فحتى هذه الأهداف الصغيرة المتواضعة تحتاج إلى تضافر الجهود وتحتاج إلى الإرادة.
المثقف والإعلامي الفلسطيني الذي استطاع في مسيرة الثورة الطويلة وبأقل الإمكانيات أن يأتي بالمدهش الذي حرس وثبّت الرقم الفلسطيني في معادلة السياسة وصراع الوجود، وهو يرتحل من محطة إلى أخرى لقادر هو نفسه اليوم أن يأتي بفصل جديد من هذه المنجزات العظيمة والتاريخية، ولمستطيع أن يحفر بالصخر ليسجّل نجاحه وثبات عروبة القدس، نعم فهذه المعركة ليست فقط معركة فلسطينية بما تعنيه القدس لفلسطين وللشعب الفلسطيني بمثقفيه وجماهيره، بل هي معركة حضارية ضد التغييب والسلب والاغتصاب والتهويد والعنصرية والعدوان، إنها معركة مصيرية وعنوانها الذي اختير هو افتتاحية استعادتها يإذن الله.
إن جهود المثقف العربي والإسلامي في العالم أجمع وحيثما كان موقعه ودوره، يجب أن تظهر اليوم في مثل هذه المعركة بجلاء ووضوح شديدين فهي أيضاً دور مفترض لكل هؤلاء جميعاً وعلى قلب رجل واحد، بل وإن دوراً موجوداً وبارزاً لكل مثقفي العالم من الأحرار والذين لا شكّ هم عارفون أن هذا الموقف هو الذي يتيح لهم ترجمة فورية وغير ملتبسة لإنسانيتهم وحريتهم على حد سواء، لا مانع أن تقام نشاطات في عدد من العواصم تآزراً مع قيام هذه التظاهرة في الوطن المحتل، بل على العكس فإن هذا مطلوب ومرغوب ويحمل معادلة خطية واضحة في وجه سياسات العدو الصهيوني وحلفائه من الأجهزة الثقافية الدولية مفادها أن الثقافة الدولية والإنسانية تدين إجراءاتهم ولا تعترف بالأمر الواقع، وإذا كان أكاديميو بعض الدول قد أعلنوا مقاطعتهم لأكاديميي كيان العدو، فإن من باب أولى أن يعلن مثقفو العالم الحر ومناضلوه هذا الموقف عملياً.
وفي مجال الاقتراحات دعونا نأمل أن تكون هناك جائزة دولية لمثقفي العالم ممن سيشاركون بهذه التظاهرة باسم القدس، ولا مانع من تكرارها سنوياً ورصد الميزانية لجائزة القدس للسلام ، فإذا كانت لجنة نوبل أداة في ظن الكثيرين معولمة ذات دور سلبي ثقافياً وإنسانياً، فلتكن "جائزة القدس" إذن جائزة مضادة بدور نضالي وإنساني وحضاري ، والقدس هي أفضل عنوان في العالم لتكون باسمها جائزة السلام الحقيقية وجائزة الإنسانية الحقة.