خمسة وثلاثون ألف عامل آسيوي يعملون تحت لواء شركة واحدة! تحت (كفيل) واحد! هذا الرقم المذهل سيظهر تافهاً مقابل (التقديرات) التي تقول بأنهم بين 12 و14 مليوناً من مجمل سكان الخليج! كم بقي؟
"ماذا في ذلك؟" يتساءل البعض.. ألا تشغّل (جنرال موترز) 300 ألف عامل وموظف؟ هذا بالضبط هو محور المصيبة ومبرر الحزن.. هذه النظرة الاستهلاكية للآدمي التي تقيده كرقم في سجلات الممتلكات. ثم أن (جنرال موترز) وسواها نشاطها معروف ومنتجها مُشاهد ملء الشوارع. هؤلاء الخمسة وثلاثون ألفاً ماذا يفعلون بالضبط؟ يبنون برجاً؟ والملايين الباقون؟ ماهو المنتج الحضاري الجبار الذي نقدمه للعالم ونستهلك لأجله هذا العدد من البشر الذي يفوق كل من حفروا قناة بنما وبنو الهرم الأكبر وصنعوا المكوك الفضائي؟
سيتكلم الكثيرون عن جريمة الإنسان الخليجي في حق هؤلاء. عن الظرف غير الآدمي الذي تعيشه طبقة عمال السخرة هذه.. والذي دفعهم للثورة والغضب. ستتفتح مرة أخرى كل ملفات حقوق الإنسان والاتجار بالبشر. هذه لا تتطلب كاتباً فذاً ولا ملاحظاً ألمعياً. لكن بين هذا الزحام تختفي ضحية أخرى لن يرأف بها أحد.. إنه المواطن الخليجي ذاته الذي ولد في فجوة بين زمانين وعالمين. الذي رفعته رافعة المدنية المباغتة فوق السلالم الطبيعية وجاء للوجود على رأس تلة من الخيرات. وعى على الدنيا وهو في الأصل فريسة يحاول الكل أن يفوز بإلباسها لباس الصياد.. الصياد الكفيل ورب العمل. هذا المواطن الذي ولد وفي عقله قناعة سماوية بأنه مخدوم محمول مكفول وأنه ما عليه إلا أن (يدفع) ليتم ما يريد. ادفع لتنجح وتصل. ادفع لتبني وطنك وتذوّقه. إدفع لينهمر عليك الخدم والحشم والعمال ولتصبح متحضراً.
هذه هي الأنشوطة التي التفت حول رقبة المواطن خليجي في الأربعين عاماً الأخيرة. المواطن الذي صار حاله حال الرجل الأبيض المعاصر المثقل بجرائم أجداده ضد السكان الأصليين في القارات الجديدة.. يحمل وزر خطاياهم ويُطالب هو بالاعتذار عنهم! من الذي جاء بالـ 14 مليون عامل آسيوي؟ من الذي بعثرهم في البلد وأدخلهم عبر الحدود؟ إضحك ملء شدقيك شفقة بنا يا وزير العمل!
المواطن الخليجي ذاته بات لا يستطيع الاستغناء عن شريحة الخدم. أياً كانت مسمياتهم الأكثر تهذيباً وأياً كانت جنسياتهم. لا يستطيع ذلك حتى وهو ينوء تحت أثقال البطالة والتضخم وارتفاع الأسعار. وهو ليس المذنب الوحيد هنا. إن أحداً لم يعلمه كيف يحيا بطريقة أخرى!
بعد ذلك كله نعود ونهز رؤوسنا إقراراً بالواقع المرير.. ظروف العمال هي بالطبع لا إنسانية.. والعقود التي وقعوا عليها ووافقوا على بنودها تحت قهر الجوع والعوز هي جائرة وتجب إعادة صياغتها. كيف نحل هذه المأساة؟ هل يحل تقنين الإضراب والنقابات ورفع الرواتب مشاكل 14 مليون عامل آسيوي؟ أم تحلها عملية تسفير قسرية لهؤلاء إلى بلدانهم الأصلية؟ ألن يخلق ذلك كوارث من نوع آخر حين يغمر هؤلاء بلدانهم بمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية؟ بلدانهم الغارقة أصلاً في همها الخاص؟
فلنتهرب من الإجابات. لنتأمل في جريدة الـ (واشنطن بوست) التي نشرت الخميس الماضي مقتطفات من مذكرات داخلية لسيء الذكر (دونالد رمسفيلد) كتبها أثناء ترؤسه وزارة الدفاع الأميركية. جاء في إحداها أن "الثروة النفطية أبعدت أحيانا المسلمين عن حقيقة العمل والجهد والاستثمار الذي يؤدي إلى الثروة في مكان آخر من العالم" و "بما أن المسلمين هم غالباً ضد الجهد الجسدي، فقد استقدموا كوريين وباكستانيين للعمل في ما يبقى شبانهم عاطلين عن العمل". إذ أنه "من السهل أن يجعل التطرف شعباً عاطلاً عن العمل".
تباً لك يا (رمسفيلد)!