بتمثيل منخفض جدا ، وغياب ملحوظ للعديد من قادة الأنظمة العربية السياسية ، انعقدت قمة دمشق يومي السبت والأحد التاسع والعشرين والثلاثين من شهر آذار / مارس من العام 2008 ، وأصدرت بيانها الختامي . وللحقيقة فثمة بندان لافتان على أجندتها يطرحان لأول مرة . الأول يخص موضوع بطالة القوى الشابة العربية الراغبة في العمل . والثاني موضوع اللغة العربية التي تتعرض لتراجع ملحوظ على شتى الصعد المفترض أنها قومية . وما عدا ذلك فإن بقية الموضوعات المطروحة هي قضايا عربية عالقة ، منذ عقود أو سنين . بداية لطالما استهوت القمم العربية ، ما قبل انعقادها ، وفي أثنائه ، وما بعده الكتاب والمحللين السياسيين ذوي الإتجاهات السياسية المختلفة والمتعاكسة للكتابة عنها في شتى المجالات ، جدواها ، ضرورتها ، تركيبتها ، درجة التمثيل فيها ، أجندتها ، الحاضرين ، المتغيبين ، الممتنعين ، التوصيات والنتائج ما كان لها رصيد على أرض الواقع ، وما لم يكن لها ، وكان نصيبه غياهب الرفوف .
إن قمة دمشق لا تخرج عن هذا الإطار التحليلي لأية قمة . إلا أن كل كاتب ومحلل يتناولها من حيث منظوره ورؤاه السياسية . فهي في نظر البعض ضرورة ملحة ، وإن مجرد انعقادها مكسب للأمة العربية ، أيا كانت نتائجها . وهي في نظر البعض الآخر مجرد مضيعة للوقت ، وتكرار لحالة العجز والضعف التي آلت إليها الأنظمة العربية السياسية ، وليس أدل على ذلك من انخفاض سقف ما يفترض أن يعالج كثيرا من قضايا الأمة العربية العالقة منذ عقود وسنين طوال .
وحتى نكون على قدر ما من الإنصاف ، فإذا كان الهدف من انعقاد هذه القمة هو الإنعقاد في حد ذاته ، فمما لا شك فيه أن قمة دمشق ، قد آتت أكلها ، وحققت أهدافها إلى حد كبير . أما إذا كان الهدف غير ذلك ، فإن ما كان متوقعا منها ، لا يغني ولا يسمن من جوع ، وليس أدل على ذلك من انخفاض سقف نتائجها وتوصياتها ، وليس في ذلك ما هو مستغرب من هذه القمم العربية .
ولنعترف أن الطريق لم تكن معبدة أمام قمة دمشق ، وكان جليا أنها كانت تعاني من انقسام حاد في الرأي والرؤيا بين الأنظمة العربية ، وقد تمثل هذا في تغيب قادة عرب كبار عن شد الرحال إلى عاصمة الأمويين ، واكتفائهم بتمثيل متدني المستوى . وإذا ما أضيف إلى هذا التغيب امتناع لبنان عن المشاركة لأول مرة في تاريخ القمم العربية ، فإن الأمر يصبح عناوين لرسائل ذات دلالات لا تحتمل التأويل مفادها أن المشهد العربي قد أصابه صدع قد يكون من الصعب رأبه .
إن القضايا العربية العالقة ، والتحديات التي يواجهها العالم العربي منذ عقود وسنين ، هي في اعتقادنا ، والأوضاع العربية على ما هي عليه ، من الثقل والخطورة والإتساع ، بحيث تشكل عبئا لا تقدر أية قمة عربية أن تتصدى له ، ما لم تكن ندا حقيقيا يملك كل مقومات التحدي والتصدي .
ومثالا لا حصرا ، إن القضية الفلسطينية بكل مشاهدها ، قد وصلت إلى نقطة خطيرة من الضياع في ظل هذا الصمت والتعاجز العربيين ، وهذه اللامبالاة وعدم الإكتراث بما يجري على ساحتها ، أو معاناة أهلها الذين ذاقوا الأمرين ، وما زالوا تحت ظلال الإحتلال الإسرائيلي .
إن تهويد القدس قاب قوسين أو أدنى . ها هو الأقصى الجريح يصرخ ولا من سميع أو مجيب . وها هي جرافات الإستيطان لا يهدأ لها هدير ، تفترس الأرض الفلسطينية شبرا شبرا ، وتزرع المستوطنات الواحدة تلو الأخرى . وها هو الجدار العازل زاحف يبتلع البلدات والقرى الفلسطينية . وها هي الإجتياحات المدمرة تحصد البشر والحجر والشجر . وها هو حصار غزة الخانق يحرمها من أبسط مرافق الحياة الإنسانية .
إنها القضية الفلسطينية التي كانت ذات يوم قضية العرب الأولى ، لم تعد القضية الثانية ولا الثالثة ولا حتى العاشرة . إن العالم العربي لاه وساه ، لم يعد يوليها أدنى اهتمام في ظل صمته المريب حول ما يجري لشعبها ومقدساتها وكل ما يمت لها بصلة . وهذا غيض من فيض يسوقنا للحديث عن المبادرة العربية التي انتهجت خيار السلام الإستراتيجي مع إسرائيل .
وها هي المبادرة العربية ما زالت نجمة هذه القمة . وليس في ذلك أي مانع . إلا أن المشكلة تكمن في الأطراف الموجهة إليها هذه المبادرة وهي إسرائيل وحليفتها الإستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية ، وهما اللتان تعرفان يقينا أن كل ما تقدمه الأنظمة العربية على طبق القضية الفلسطينية له طعم العجز والضعف ، وتفوح منه رائحة الشعور بضرورة التخلص من عبئها الذي أصبحت تنوء بحمله ، ولا قبل لها بتحمل المزيد من تبعاته .
وفي ظل الظروف العربية الراهنة ، وسواء سحبت هذه المبادرة السلمية ، أم لم تسحب ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا : وهل لدى الأنظمة العربية البديل عنها ؟ . والحقيقة أنه لا يوجد بديل لها على مستوى هذه الأنظمة . الأمر الذي يجعل إسرائيل سادرة في مشروعاتها الإستيطانية ، ورافضة لأية مبادرة سلمية عربية ، وردود أفعالها على أرض الواقع الفلسطيني ، لا تحتاج إلى برهان ودليل . إن السلام الحقيقي العادل والمشرف هو آخر ما تفكر فيه إسرائيل . وهذه حقيقة لا لبس فيها .
والقضايا العربية العالقة الأخرى كثيرة جدا . إن القطر العراقي الشقيق يتصدر قائمة هذه القضايا . وفي كثير من الأحيان كان المواطن العربي يشعر بما لا يدع مجالا للشك أنه قد ترك وحيدا في محنته الكارثية التي أفرزت هذا الشلال غير المنقطع من دماء أبنائه ، وهذا الإرتحال القسري عن أرض الرافدين .
والصومال ليس بأحسن حالا . إن المرء يشعر وكأن هذا القطر لا ينتمي إلى جامعة الدول العربية ، ولا إلى الأمة العربية . لقد ترك هو الآخر أكثر من عقدين من الزمن ، وحيدا يعاني ما يعانيه جراء حربه الأهلية التي أعادته إلى عصور من الإنحطاط والتأخر والدمار والبدائية . وأما السودان ، فإن الحديث عن المشكلات والتحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها تفوق الوصف . وأما لبنان ، فإن انقسامه إلى معسكري المعارضة والموالاة ، قد يجره لا سمح الله إلى حرب أهلية جديدة .
لقد ترسخت قناعة لدى الشارع العربي أن الحلول للمشكلات العربية الراهنة لا تتأتى من مجرد انعقاد القمم ، ولا من اتخاذ بعض القرارات التي في كثير من الأحيان ليس لها رصيد لتوظيفها على أرض الواقع ، بقدر ما تتأتى عبر إدراك ووعي عميقين لحالة التردي التي وصلت إليها الأوضاع المزرية في العالم العربي جراء السياسات العربية الداخلية والخارجية . وهذا يدعى الشعور بالمشكلة وهو شرط مسبق وأساسي لإيجاد حل لها .
لقد عقدت قمة دمشق العشرون ، التي أطلق عليها تيمنا قمة التضامن العربي . ولا تعنينا مقرراتها وتوصياتها ، هذا إذا ما كتب لها أن تحظى بأي رصيد على أرض الواقع ، وإنما تعنينا خارطة الأوضاع العربية العامة الراهنة المتمثلة بهذا البحر المتلاطم من التناقضات والإنقسامات والخلافات والشكوك والمخاوف العربية العربية على كافة الصعد ، والتي تشكل المساحة الكبرى من هذه الخارطة . ويخشى والحال هذه أن تكون قد عمقت الإنقسام وكرسته امتدادا لأجيال عربية لاحقة . وفي ظل هذه الأوضاع ليس من المستبعد أن تكون هي آخر قمة يشهدها العالم العربي .
كلمة أخيرة . لقد حاولت قمة دمشق جاهدة وسط بحر من التحديات الخارجية والداخلية توجيه بوصلة التحرك العربي إلى نحو ما اعتقدت أنه الإتجاه الصائب . وهذا بحد ذاته تحد مضاد . إلا أنه على ما يبدو أن هموم الواقع العربي ومشكلاته أثقل بكثير مما تصورته هذه القمة . ولم يبق للمواطن العربي إلا أن يرفع يديه عاليا إلى السماء ، سائلا العلي القدير أن يرأف بهذه الأمة ، وأن يغير الحال بأفضل منها .