في (تورنتو) كبرى مدن كندا، يقوم نصب تذكاري عرفاناً بدور نحو 17 ألف عامل صيني ساهموا في بناء خط السكة الحديدية بعرض البلاد الكنديّة.. وبالذات جزء الساحل الغربي عبر جبال (الروكي) خلال ثمانينات القرن التاسع عشر. هؤلاء السبعة عشر ألف صيني الذين فقد كثيرون منهم حياتهم خلال مشروع السُخرة هذا لم يكونوا الوحيدين. فتاريخ غرب كندا –وغرب الولايات المتحدة بالمثل- يشهد بأن أضعاف هؤلاء قد كانوا هم اليد العاملة التي نهضت بطفرة (الغرب العصي على الترويض). هؤلاء المهاجرون قاموا بأدنى الأعمال فيما الغَربان الأميركي والكندي ينهضان ليقارعا حضارة الساحل الشرقي العتيدة. والعلاقة بين هذه العمالة المهاجرة وأوطانها الجديدة لم تكن دوماً (حضارية). التاريخ يذكر مثلاً أن شركة (وِنشِستَر) الأميركية الكبرى لتصنيع البنادق كانت تدفع سراً لمن يجرب منتجاتها "ميدانياً" على عمال السكة الحديدية الصينيين.. على أساس أنهم كانوا "لا ديّة لهم" في تلك الأيام!
غرب القارة الأميركية الذي هو اليوم (كاليفورنيا) الولاية الأغنى إطلاقاً.. وهو (سياتل) العاصمة الصناعية والثقافية وهو أيضاً (فانكوفر) الكندية الباهرة.. هذا الغرب القصيّ لا يزال موئلاً لملايين الصينيين الذين يهاجرون إليه حتى اليوم ليضخوا المزيد من المواهب والخبرات في (وادي السليكون) ومصانع (بوينغ) وفي باقي منظومة الاقتصاد المزدهر. كما أن كثيراً من هؤلاء هم أحفاد أولئك الذين جاؤا للبلاد كعمالة وافدة.. كعمّال سخرة مكلفين بالأعمال المخفية تحت غطاء المدنية البراق. هؤلاء الأحفاد هم اليوم مواطنون صميمون في نسيج مجتمعاتهم.. وإن كانوا ما يزالون محتفظين بملامحهم وجيناتهم الآسيوية. هؤلاء اليوم هم محامون ورجال أعمال وسياسيون ومؤسسوا شركات إنترنت. وهم لا تروقهم كثيراً فكرة تشييد الأنصاب التذكارية التي تحتفي بجيل أجدادهم الذين كافحوا في العالم الأميركي الجديد.. ليس خجلاً من تراث أولئك الأجداد ولا تهرباً من ماضيهم هم الذاتي. ولكن لأن هذه الأنصاب والتماثيل في الساحات والميادين الأميركية والكندية ترسخ –كما يرون- في وعي الجيل الناشئ صورة نمطية للمهاجر الوافد. صورته كعامل كادح شقي. كمواطن إنما ذو درجة متدنية جداً في السلم الاجتماعي الأميركي. الأميركيون والكنديون ذوو الأصول الصينية.. هم وسواهم.. يرون أن "جاليتهم" قد تجاوزت هذه المرحلة منذ دهر. إنهم ينظرون لأنفسهم كأساسيين ومحوريين بمجتمعاتهم. (الماندرين) الصينية تكاد تكون لغة رسمية ثالثة للغرب الكندي. وما يقال عنهم ينطبق بدرجات متفاوتة على فئات أخرى كثيرة تنتمي لأصول مختلفة موزعة عبر النسيج الكندي والأميركي.
هذه القصة تستحق الإسقاط على واقعنا المحلي والقراءة بمنظاره لأسباب تشابه كثيرة. فكما في الحالة الكنديّة قبل مائتي سنة وحتى الآن، فإن بلادنا هي الأخرى دولة ناهضة زاخرة بأفكار المشاريع الطموحة. بلادنا هي الأخرى شاسعة المساحات والفرص وذات تعداد مواطنين يقل كثيراً عن متطلبات خطط التنمية الكبرى. بلادنا كما كان الغرب الأميركي وكما لا يزال لليوم هي معتالة على استقطاب الخبرات والأيدي العاملة بكافة أشكالها. من جامع القمامة إلى المهندس النووي. ومثلما رفض العامل الأميركي والكندي أن يلقيا بنفسيهما في أتون المشاريع المهلكة.. من قبيل مد خط السكة الحديدية الباسيفيكي.. لتجلب الحكومات من أجلها عمالاً آسيويين عبر المحيط وتستهلكهم فيها ثم تضع عليها اسمها وتنسبها بفخر لمواطنيها.. مثلما حصل هناك بالضبط في ثمانينات القرن التاسع عشر.. فإن بلادنا هي أيضاً بمثابة المفرخة –والمحرقة كذلك- للعمالة الوافدة والمهاجرة من كل أرجاء الأرض.. بتفاصيل تختلف قليلاً عن الحالة الأميركية الآنفة الذكر.
واحدة من هذه التفاصيل تتمثل في انعدام فرصة عاملنا الوافد في التطور والارتقاء. في جمود النظرة المحلية تجاهه وعدم تساوقها مع الزمن ومع متطلبات العولمة –التي لم تعرفها شركة (وِنشِستَر) ولا قطارات الخط الباسيفيكي- فيما هذه العولمة هي المبرر الذي باسمه توجد مدنيتنا بناطحات سحابها و (مولاتها) ومكاتبها الزجاجية وشوارعها الاسفلتية الصقيلة. النظرة المحلية الجامدة ما تزال تقيم عامل السخرة الأجنبي كـ "نكرة". هو وكل قادم أجنبي ربما.. لكن لنركز على العامل البسيط المطحون. عامل النظافة الذي (يكنس) الاسفلت في حمارة الظهيرة أو يشيد.. هو بيديه.. شبكة طرقنا المذهلة. ذلك الذي يعتل أكياس الاسمنت على عموده الفقري ويخلط "صبة الخرسانة" في مبانينا الفارهة. إنه عامل مجارينا وشبكات صرفنا.. البَنا والسباك والميكانيكي والكهربائي والمبلط.. العامل الذي قامت على ظهره نهضتنا من أول مبنى مدرسي نظامي وحتى مباني مجمع (الشيبة) النفطي.. مروراً بكل شيء آخر. ماذا عن السائق؟ عن "الخدّامة" التي بدلت حفاظات جيل كامل من مواطني هذه البلاد؟ التي جهزت ساندويشاته ووضعتها في حقائب دراسته وآوته لفراشه ليلاً في (بيجامات) هي التي غسلتها. جيل.. أو شريحة كاملة من الجيل.. لا فرق. لأن موقع هذه الشريحة بالذات من المجتمع ومن نقاط التأثير تسوّغ التعميم وتجيزه.
كما فعل المواطن الأميركي قبل مائتي سنة نرى نحن أن هذه الأعمال كلها هي أدنى من أن نشتغل بها. هي أدنى من مؤهلاتنا ومداخيلنا المفترضة وأنماط حياتنا وشخوصنا.. في هذا حق كبير. لكن ماذا عن حق العامل الأجنبي الذي جاء لبلاد هي ليست أميركا المفتوحة لكل عرق تمنحه جنسيتها ومواد دستورها.. ولا هي أوروبا التي تقاوم أفواج المهاجرين بعمالة وطنية صرفة مؤهلة وقوانين أجور في صالحها. كيف يطور هذا من ذاته بدون خروج نهائي؟ كيف يخرج من حفرة (عامل السخرة) التي لن نكون نحن لو لم يظل هو قابعاً فيها؟
العامل الوافد الذي يخنق اليوم سوقنا المحلية.. يأكل فرص العمل بتأهيله الرديء وسلوكه الحضاري المتدني.. وينشر الفساد والرذيلة "لأنه من عرق خبيث" كما تقرر الديباجة العجيبة.. ليس وحده الملوم في كل ذلك.. إن كان ملوماً أصلاً. إنه لم يخترق الحدود ولم يأت هكذا بلا دعوة ولا تأشيرة. وهو حين طلب إليه كفيله (المواطن) أن يعود له بغلّة معلومة آخر كل شهر لم يجد بديلاً.. بل صار كالفاعل الصيني أما فوهة بندقية (ونشستر). إنه مع كل لائحة مساوئه المتطاولة التي يلام ولا يلام عليها يظل ذا فضل عظيم علينا.. على مدنيتنا البراقة وعلى "مكانتنا المميزة" بين باقي الشعوب. هل يشفع كل هذا لنقيم نصباً احتفائياً بالعامل الأجنبي في أي من مياديننا؟ لماذا