كدت أبكي لكلماتها الصادقة وابتعادها عن كل مساحيق التجميل، فما إن اقتربت من سمعي حتى ذاب كل الجليد بيني وبين ذلك النسق في الحديث والتعبير.
بل وأكثر، فأصبحت مدمناً عليها، فصرت أطلب منها أن تُعيد ما قالته مرة بعد أخرى، حتى أمست رديفة سمعي أينما ذهبت، فقد أحببتها لشجاعتها وصدقها الذي بات يُزهر في البلاد التي تغرب فيها الشمس، بالرغم من منع “الهواء النقي” و”الماء الصافي” و”التربة الجيدة” نتيجة “فيروس” يُسمى “الكيان الصهيوني” و”بكتريا” تُدعى “الإهمال العربي”.


فأطرقت فيها مُفكراً بعد أن طرقتني سمعاً بقوتها وكلماتها التي  تعكس واقعاً وقضية إنسانية خالصة (قضية غزة)، ولم يكن الأمر بحاجة إلى طول تفكير وتحليل، حتى عرفت أن أغنية
We will not go Down
للمغني الأمريكي
Michael  Heart


وتعبر الأغنية عن شجاعة وقوة الإنسان وثباته على مبادئه مهما كانت الظروف، فبالإمكان حرق المساجد والبيوت والمدارس، لكن لا يمكن لتلك النفوس أن تموت. وهذا أحد مقاطع الأغنية:

We will not go down
In the night, without a fight
You can burn up our mosques and our homes and our schools
But our spirit will never die
We will not go down
In Gaza tonight

فعند تعاظم الظلم والوحشية البربرية، يكون التعاطف العالمي من قبل الشعوب هو أقل نتيجة متوقعة، فالإنسان هو الإنسان في البحرين وروما وواشنطن، وفي كل مكان.
وعند زلزلة الاتزان الإنساني  في قيمه الأساسية تكون الثورة  والصراخ من الأعماق هو التعبير الطبيعي للألم الذي يمثله انسلاخ الإنسان من إنسانيته ، ويتخذ ذلك الصراخ وتلك الثورة صوراً عديدة تتجاوز كل حسابات السياسة وموازين القوى الموضوعة في المجتمعات باختلافاتها. إذ أن هناك حسابات من نوع آخر تظهر على السطح عندما يُهدد الإنسان في صلب إنسانيته.
ومع ذلك يبقى الإنسان أسير الزمن في النسيان وترهل الذاكرة لديه، فبالتالي تكون إحياء الصور التي تعكس القضية الإنسانية وبطرق مبتكرة وتماشي العصر مطلوبة بل وضرورية لتحافظ على وجودها وحركتها في الذاكرة والسلوك، بل وتتحول إلى أيقونة ،  وتلك من أجلى الصور التي يمكن أن تعيش معها القضية ضمن حياة الناس، بل قد تكون جزءً من أسلوب حياتهم اليومي، ولا أدل على ذلك من تحول “الكوفية” إلى صورة للقضية الفلسطينية بل وأكثر للدلالة على الثورة والتمرد على الظلم، لتصبح رمزاً “ملاصقاً” لللإنسان  في ملبسه. ومن أقرب للإنسان تعبيراً من اللباس؟ فهو جلده الثاني وصورته الظاهرة لنفسه والآخرين.

ونتيجة للتسونامي الذي أحدثته الوحشية والإحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ومجازره على مدى ٦٠ عاماً، ومجزرة غزة والتي لن تكون الأخيرة ما بقي هذا الكيان موجوداً، سيكون لزاماً علينا نحن العرب والمسلمين توسعة دائرة اللقاء مع الآخرين في العالم من خلال القاعدة الإنسانية المشتركة في الحوار، وبالصور الممكنة، سواء منها الموجود أو تلك التي يمكن ابتكارها. فالمأساة مأساة والمجزرة مجزرة تنتفض لها النفوس جزعاً واستنكاراً وتنديداً وتفاعلاً.
وفي ظل هذا السياق الإعلامي المتخبط بين ناقل للصورة لا غير وبين مغيب لها، يكون بين الفعلين مساحة لا تحدها قناة ولا يغيبها توجه سياسي، تلك المساحة من الفضاء الواسع في العالم الإفتراضي “الإنترنت”، والذي له ميزة التواصل والتفاعل مع العالم وبشتى الصور الموجودة والمبتكرة في العرض والتحليل.
وتأتي أهمية صياغة الخطاب الثقافي في عالم الفن بصيغه المختلفة عبر حصان الإنترنت لتكون ضرورة لنقل القضية إلى الآخرين، حيث تمثل هذه الأغنية إحدى الصور التي تشترك في التعبير الإنساني العام. ومن الجدير بالذكر أن ما يربو على

٧٠٠ ألف متصفح للإنترنت قد شاهدوها على اليوتيوب، وأكثر من ٢٥٠ ألف قام بتنزيلها من الإنترنت، وأكثر من ١٠ آلاف رسالة إلكترونية وصلت للمغني داعمة مثنية عليه ومؤيدة. (١)
وهذا يعكس أولوية التحرّك في الخطاب مع الآخر ضمن القواسم الإنسانية المشتركة، وضمن الأدوات التي يتفاعل معها الآخر ويندمج، فهناك مجتمعات تميل إلى المصدر السمعي من خطب وكلمات وغيرها، وهناك من يستسيغ صورة الغناء والفن كطريقة لها تأثيرها في التفاعل وزرع الأسئلة والبحث عن الواقع. وبالتالي تتعدد طرق التواصل مع الآخر عبر الفضاء الأوسع “الإنترنت”، وكما قيل في الحديث المروي “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”، ومن أبجديات الخطاب مع الآخر معرفة ما يميل إليه وما يتفاعل معه سلباً أو إيجاباً.
لقد أصبح العالم أكثر وعياً وأكثر قرباً كبيوت الجيران المتلاصقة، وما علينا إلا زيارة الجيران وإخبارهم بما يجري دون إيكال هذا الأمر إلى الآخرين، الذين بإمكانهم تشويه صورتنا وتحويلنا إلى “غول” أو “عدو” يريد الموت للآخرين. ومع مستوى التدني في المستوى الرسمي العربي في الإعلام، إلا أن الحركة النشطة والمبدعة في بعض تجاربها للخطاب مع الآخر هي وليدة الظروف والضغوط والحاجة، وتحتاج للوقت لصياغتها بصورة أكثر تفاعلاً ولتمتد اتساعاً مكانياً وزمانياً في الإنترنت وغيرها من سبل التواصل مع الآخر (الجاليات، الأندية، الجامعات، السفارات، إلخ).
ولك في الإنترنت حياة لقضايانا صورة وصوتاً وحركة، إذ يمكن مد جسور التفاهم والحوار وطرح القضايا التي لا غبار عليها، كقضايا إنسانية خالصة صرفة مع الآخر، وخصوصاً ممن يمثلون وزناً سياسياً أو فنياً أو ثقافياً وحتى رياضياً، لتتحول تلكم القضايا إلى موضوع حاضر في الأذهان والخواطر كمقدمة للأرضية اللازمة للتغيير. وما يزيد الأمر جدية في العمل به هو وجود صف من المثقفين والفنانين والمفكرين في الطرف الآخر من المعادلة يشجعون القضية ولا تأخذهم في قول الحق لومة لائم، ويحضرني هنا ما قاله الممثل الأمريكي
Ben Affleck
عن العرب والربط الشرطي السلبي  الدائم بين العرب والإنسان السيء في أحد المقابلات التلفزيونية، حيث شدد على نفي الربط  السلبي ذاك، وقد لاقى استحساناً ملفتاً من الحضور ومقدمي البرنامج. (٢)
وغيرها من التجارب الإيجابية التي ينبري بها مفكر في أمريكا أو فنان في وسط أوروبا، وهكذا ترتفع أصوات إنسانية محايدة مائلة للحق مدافعة عن القضايا الواضحة، وأولئك من الأهمية بمكان حيث يكون لزاماً على الخطاب “الإنترنتي” -إن صح التعبير- أن يكون برفقتهم داعمين موضحين لهم الأمر على طول الخط، وذلك عبر العديد من أدوات التواصل، من بينها (الفيس بوك، يوتيوب. سكند لايف، إلخ)، لتكون هي البوابة الأخرى التي تنفتح على قضايا العالم العربي والإسلامي دون المرور من البوابة الأمامية لإعلامهم الرسمي والمؤسسي المحكوم بالمصلحة والحسابات الشخصية.
ويتعدّى الأمر عند البعض من القول إلى الفعل، كوزيرة الاقتصاد والمال النرويجية “كريستين هالفورسن”، والتي أيدت مقاطعة المنتجات الإسرائيلية تضامناً مع الفلسطينيين، وقد صرحت “هالفورسن” لصحيفة «داغبلاديت»: «لم أشتر منتجات اسرائيلية منذ وقت طويل، ومن الطبيعي ان ادعم حملة حزبي لمقاطعة المنتجات والخدمات التي مصدرها اسرائيل».

وقد انضم حزب اليسار الاشتراكي الذي تنتمي اليه ويشارك في الائتلاف الحكومي اليساري الى جانب منظمات عدة خصوصا نقابية، الى حملة «قاطعوا اسرائيل» التي أطلقها فلسطينيون تنديدا بـ «السياسة الاسرائيلية الفظيعة والمناقضة لحقوق الانسان بحق الفلسطينيين».
ومن الجدير بالذكر ان برتقالا اسرائيليا تم تقديمه خلال المؤتمر الوطني لحزب اليسار الاشتراكي ، وما ان عرف مصدره حتى سحب فورا. (٣)
كان ذلك قبل ٣ سنوات، فما عساها فاعلة اليوم بعد مجزرة غزة؟
فهناك العديد من الشخصيات والمبادرات المنصفة في العالم الغربي، وما علينا سوى دعمها وتشجيعها لتكون صوتاً في قلب تلك المجتمعات، والتي تلعب حكوماتها دوراً رئيسياً -للأسف- في الكثير من قضايانا. وعلى عاتقنا كسر الحاجز النفسي والإقتراب منها لتسمعنا ولتتحول قضيتنا إلى جزء من اهتمامهم، لأنها إنسانية ومنطقية في الدرجة الأولى، وتمثل وسائل الاتصال الحديثة وطرق التعبير المبتكرة رُسلنا إليهم، وهم قد ردوا بمبادرات فردية كتلك الأغنية وذلك التصريح وهذا الموقف، وغيرها العديد، وليتحول شعارنا كما هو “هيهات منا الذلة” في طمس قضايانا ومأساتنا، لتكون
We will not go down
هي الرديفة عندهم. وما يتمخض عنه الإنترنت بفضائه الواسع يُشير إلى تحركات إيجابية وجيدة من العرب والمسلمين إلى أخوتهم في العالم كله. فهل لتلك الأغنية من أخوات أو صاحبات فن ورسالة؟ علينا العمل لتظهر الإجابة.
هي إحدى الصور المتناثرة مع تطاير الجثث التي وزعت أشلائها ماكينة المجزرة الصهيونية البغيضة على الإنسان والمكان والزمان، فكان نتاج ما صنعته تلك المجزرة في غزة بعد حصار وتجويع وإرهاب هو “تسونامي” هز الضمائر الحرة في العالم من أقصى الشرق إلى أبعد نقطة في الغرب، تلك الصدمة التي جعلت الآلاف يتظاهرون في البلاد الغربية ، وحرّك الأقلام الحرة في العالم لتبيان الدنو في المستوى الأخلاقي الإنساني الذي وصل إليه العالم في ظل مجزرة تحرق كل شىء حي وجماد معاً.

1
http://michaelheart.com/
2
http://www.youtube.com/watch?v=5SzjBNTJpkU
أو البحث عن هذه الكلمة
Ben Affleck defends Arabs
3
الشرق الأوسط
الجمعـة 06 ذو الحجـة 1426 هـ 6 يناير 2006 العدد
 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية