وقف الثلاثة أمام محكمة التاريخ: الماضي الحاضر والمستقبل.
قال الماضي:
جئت أشكو إليكم مما ألقاه من ازدراء من كل من الحاضر والمستقبل, فهما ينظران إلي نظرة ازدراء دونية ويدّعون بأنها ليست سوى بعض الأسف على ما أضعته من وقت وبأنني لم أكن قد أحسنت استغلال الوقت والفرص لسنوات طوال... أنا أعترض على ذلك كما أنني أرفض مثل ذلك التعاطف الذي هو برأي ليس سوى شكل من أشكال عدم التقدير ومن الازدراء., فهما يزدرياني لأنهما يعتبران أن أفكاري متحجّرة جامدة, وكل ما أسمعهما يقولانه:
" انقضى عصره !انتهى دوره في هذا العالم !.."
فهل نسيا بأن من ليس له ماضِ لن يكون له أي حاضر ولن يكون له أيضاً أي مستقبل!؟.. هل عَميت بصيرتهما عن الانجازات التي حققها العلماء في عصري ؟ وبأنني من فتح أمامهما آفاق العلم وسُبل التطوّر؟ من الذي اخترع الأبجدية الأولى؟ ومن الذي اخترع الكهرباء و الذرّة ؟ من الذي وضع الأسس لمختلف العلوم التي أصبحت اللبنة لما يستفيدون منه الآن ؟ من الذي اكتشف المجرّات التي يحاولون الوصول إليها الآن؟ من الذي اكتشف أسرار ومعالم الكون الذي يعيشون فيه ؟ من؟... ومن...؟ ومن؟..
هل نسيا فضل ابن سينا وابن رشد والبيروني والفارابي وابن خلدون وأبو جعفر الخازني وغيرهم ؟...
لِم لم تَعد لآراء أجدادهما قيمتها ؟ لِم عليهما أن يتخليا عن المبادئ السامية التي زرعها الأجداد في نفوس البشر؟ لِم أصبحت الأخلاق في نظرهم تأخراً ؟ ولِم أصبحت القِيم ضعفاً ؟ ولم أصبح الاحتيال والمكر ذكاءّ؟ لدي الكثير من التساؤلات الأخرى لكنني لن أضيع وقت محكمتكم الموقّرة بإيرادها .
تقدم الحاضر لكي يُدلي بدفاعه أمام محكمة التاريخ . قال:
بأن الماضي يحاول دوماً تكبيله بقيود من شأنها إعاقة مسيرته, وبأن الوقت حان لأن يأخذ دوره في بناء التاريخ. وبأنه لا يُنكر دور وأمجاد الماضي ,لكنه لا يجد أيضاً أية غضاضة بأن يتفاخر بأمجاده وبسرعة ما حققه من إنجازات حديثة مُتطوّرة , وبما كان بإمكانه أن يُطوّره من موروثات الماضي لكي يُصبح متوافقاً مع العصر الحديث ., لذا فهو يستحق كل التقدير لأنه ذلّل الكثير من العوائق التي كانت تُعيق التطور في الماضي...
ثم قال بأنه لا يُنكر دور الأخلاق الحميدة التي زرعها الأجداد في نفوس البشر , لكنه قد يجد فيها أحياناً الكثير من المغالاة وبأن فيها بعض ما قد يُعيق مسيرته في هذا العصر الذي تتكالب فيه المصالح والذي يكثر فيه التنافس والذي لم يَعد فيه ما يكفي من وقت للتأمل ولمحاكمة جميع الأمور برويّة لأن "من تردد فاته القطار" . قد تُرتكب أحياناً بعض الأخطاء لكنها قد تكون مع ذلك من التجارب التي يُستفاد منه. على الماضي أن يتفهّم الحكمة التي تقول "بأن الأحكام لابدّ أن تتبدّل بتغيّر الأزمان".
ثم نظر إلى المستقبل بأسف وقال بأن مرافعته لن تقتصر على الردّ على اتهامات الماضي .,وإنما هناك ما هو أكثر مرارة ... نعم ! لقد بدأ جيل المستقبل الناشئ يصبح جاحداً تجاهه مع دخول العولمة في كافة مجالات الحياة, فهو كثيراً ما يُظهر الاستخفاف بآرائه وقد يعتبره في أحيان أخرى مُتخلفاً . هو يتفاخر بالقول بأن العالم بكامله سوف يصبح بين يديه ... بين يديّ المستقبل فقط ... وبأنه من سيحقق الإنجازات الأ كثر أهمية ... وحتى أنه قد بدأ يتجاهله تماماً ويُغفل الرجوع إليه في الأمور التي يُفترض أن تتم بالتعاون بينهما... ثم أشار, وهو يُلقي إلى الماضي نظرة ذات مغزى خاص, إلى إعراض المستقبل عن تطبيق الكثير من المبادئ الأخلاقية السامية التي أورثها لنا أجداد الماضي, وقال بأن القاعدة الأساسية في تعامل المستقبل قد أصبحت "الغاية تبرر الوسيلة.."
واختتم مرافعته بالقول بأن عدم كبح جماح ذلك الحماس والتهوّر لدى جيل المستقبل , وبأن فقدان السيطرة عليه , سوف يتسببا لا محالة بكارثة إنسانية...
ظل المستقبل صامتاً إلى أن انتهت مرافعة الماضي والحاضر. وكان هذا كل ما تقدّم به بعد ذلك من مرافعة أمام محكمة التاريخ:
لا وقت أضيعه بمثل هذه المهاترات لأنني أعتبر بأن الوقت من ذهب., وعلى الماضي والحاضر أن يدركا بأن جيل المستقبل هو الجيل الذي سوف يُحقق المعجزات بما يتجاوز كل من طموحات الحاضر ومن أفكار الماضي البالية... وبأن كل ما يرجوه من الحاضر أن يترك له المجال العمل بحريّة دون أن يشغله بتوافه الأمور. وهو بذلك سوف يتمكن من غزو الفضاء ومن اكتشاف الكواكب., ومن تطوير مختلف العلوم, ومن اكتشاف العلاج للأمراض التي استعصى على علماء العصر إيجاد مسبباتها وطرق علاجها...
وعلى الحاضر أن يُدرك أيضاً بأنه ليس لديه الحق بأن يفرض على الحاضر ما يرفضه لنفسه من قيود الماضي... ثم اختتم مرافعته بالقول بأنه جيل المستقبل هو جيل التحرّر من جميع القيود ومن جميع الضغوط., وبأنه مع ذلك , لم يفكر يوماً بالتعامل بجحود لا مع ماضيه ولا مع حاضره لأنه يعلم جيداً بأن جذوره التي نمت في الماضي سوف تظل مرتبطة برباط وثيق لايمكن انتزاعه, بكل من الماضي والحاضر ...
فما هو حكم القارئ على كل منهم؟