عرف تاريخ النقد بروز مناهج عدة تحاول سبر أغوار معنى النص، محاولة تقديم الطريقة الأمثل لتلقي النصوص بطريقة أقل انطباعية و ذوقية و أكثر علمية، و في هذا الإطار برز القرن العشرين كقرن النقد بامتياز، حيث برزت خلاله نظريات عدة من الشكلانية فالبنيوية و التفكيكية و صولا إلى اتجاهات ما بعد الحداثة و النقد الثقافي.
برزت نظرية التلقي ،مع ياونس و أيزر خصوصا ،كإحدى الإلماعات الضد نظرية التي تهتم بالقارئ، و تجعله في صلب عملية التأويل، بل و تجعله، بحكم السلطان الذي منحته، حجر الرحى الذي تدور في فلكه عملية فهم النص و تأويله، معتمدة في ذلك على أفق انتظاره الذي يجعل من استقباله للنص إمكانا جديدا و متجددا للتأويل، هذا الاستقبال المرتبط بأفق الانتظار الذي يجعله ياونس محددا لتاريخانية حقيقية للأدب ،الذي يجب أن يحدد تأريخ له من خلال تاريخ التلقيات المختلفة للقراء في لحظات القراءة المختلفة.
قد يظن القارئ السطحي لنظرية التلقي أن السلطان المطلق الذي أعطي للقارئ في ظل نظرية التلقي، قد يعيد النقد إلى الانطباعية و الذوقية مرة أخرى، لكن الأمر على عكس ذلك تماما، و في هذا السياق اقترح ياونس مصطلح أثر التلقي و الذي يشير أن فهم النص ، بل و إنتاجه أيضا، هو عبارة عن سلسلة تلقيات مختلفة سابقة و معاصرة ، و هذا بالضرورة يفرض قارئا ملما بموضوعه على سابق قراءة و دراية به و يفهمه من خلال محددات رئيسية هي:
- تصور القارئ لنوع الجنس الأدبي الذي يندرج من خلاله النص.
- التصور حول الشكل و موضوع النص من خلال الأشكال و الموضوعات التي سبق أن تعرف عليها.
- كيفية مقاربة ثنائية الشعرية و العملية اليومية أثناء فعل القراءة.
هكذا إذن يتحدد المعنى الذي قد لا يكون هدفا في حد ذاته بقدر ما يكون الهدف هو الإمكانات المختلفة للمعنى، باعتبار أن علاقة النص و القارئ، كل قارئ، هي علاقة حوارية كما يقول أيزر.
من خلال كل ما سبق تكون نظرية التلقي قد قدمت نقدا قويا لمختلف النظريات السابقة لها، و التي اعتبرتها النظرية تقدم نموذجا لاستقبال سلبي للنص، فالبنيوية التي انغلقت على اللغة و اعتبرت محايثة لموضوعها تلغي الأطراف المتدخلة في عملية الإنتاج و التلقي، و تحصر العملية في الداخل نصي، و هو الأمر الذي اعتمدته تقريبا الشكلانية بتركيزها على الشكل، و بهذا تميل النظريتين إلى البحث عن المعنى النهائي التام و عن الدلالة الثابتة، كما أن فصلها للنص عن سياقه الاجتماعي جعل منه جامدا لا يعدوا أن يكون مجرد رموز و خطاطات مجردة لا تمت للواقع بصلة، فيما تقدم نظرية التلقي نفسها كخروج من المنغلق نحو المنفتح ومن الأحادي نحو المتعدد و من النهائي نحو اللانهائي و ذلك بفضل اعتمادها على القارئ و على تعدد التدليل مع تعدد لحظات القراءة.
تقول كريستيفا آن فعل القراءة يجب أن لا يدفعني إلى المعنى النهائي بل إلى التعدد و الاختلاف و أن يخلص الدلالة من الإيديولوجيا إلا إيديولوجيا العلم، كما قال باختين أن النص يحمل أصوات عميقة تنادينا لنسمعها و نبحث عنها، و هذا يدل على أن التلقي يجب أن يتجدد تعبيره بتجدد لحظات القراءة التي تضمن سيرورة تدليل، أي أن كل نص يجيب عن سؤال جديد مع كل قراءة جديدة.
قد نتوه باحثين حول النظرية الأمثل لممارسة فعل القراءة ،الذي هو بدوره فعل معقد تدخل فيه عمليات عدة، لكننا لا نستطيع مطلقا أن ننسف نظرية من النظريات الحديثة و أن نقول إنها غير صالحة ،بل إن كل النظريات أحدثت وقعا كبيرا في فعل القراءة ،و لولاها ما أمكن التعمق في النصوص و فهمها ، بل إن هذه النظريات كلها تجاوزت العمل الأدبي و خرجت إلى حيز وجود العلوم الإنسانية الأخرى، بل إن منها ما وصل إلى العلوم الحقة، و من هنا فيمكن أن أقول أن النص عبارة عن مكعب دلالي ، كل متلقي و كل نظرية ترى وجها أو وجوها من هذا المكعب ، بينما يصعب عليها رؤية بقية الوجوه، و بالتالي تأتي الاستنتاجات ناقصة لضيق الرؤية و استحالة استكمالها، و من تم فتضافر الجهود النظرية المختلفة سواء ما هو موجود منها الآن أو ما سيوجد في المستقبل، هو خطوات في طريق بسط هذا المكعب و رؤية كل أوجهه، و من هنا كان لزاما أن ينظر المتلقي لفهم كل نص و انطلاقا من تركيز كل نظرية على جزئية معينة فيه على ثلاثية: النص-الكاتب-القارئ من جهة و من جهة أخرى على رباعية: البنية -السياق- المقصدية-الغاية.
ليظل النص شامخا على كل متلقي يقارب جزءا من اهتماماته فقط، فيما ينتظر اهتمامات أخرى ليبوح بباقي ما لديه.