أول اعتراض صدر من الملائكة على خلق الإنسان أنهم سيفسدون في الأرض ويخرجونها عن النسق الذي وضعه الله لها: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وفي هذه الدعوى إشارة بليغة إلى أن الإفساد في الأرض منافٍ لما يقنضيه وجود الإنسان في الأرض كخليفة مسؤول عن إدارة شؤونها وإعمارها بما يعود على البشرية جمعاء بالخير، وهو في نفس الوقت أول ما يتبادر إلى الذهن من الجرائم التي يرتكبها الإنسان.

 

وارتبط الإفساد في الأرض القرآن الكريم مع أعمال الكافرين والمنافقين في إشارة إلى أن هذا العمل من مفرزات الكفر والنفاق: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون"، في حين أن ضده وهو الإصلاح يرتبط الوصف به في خطاب وصف المؤمنين فقال ـ تعالى ـ: "والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين"، فوصْف الإصلاح جاء بعد وصفهم بالتمسك بالكتاب في إشارة إلى التمسك الصحيح بالقرآن وإقامة الصلاة على أتم وجهها يفضي إلى انتشار ثقافة الإصلاح وليس فقط ثقافة الصلاح، ذلك أن الإنسان قد يكون صالحًا في نفسه لكنه غير مصلح في مجتمعه، في حين أن حال المؤمن الذي يجب أن يكون عليه هو "الإصلاح".

والإصلاح في تعريف بسيط له هو: " إعادة الأمر إلى حاله الأصلي الذي وجد عليه ". وبهذا التعريف يتحدد الإفساد الذي قد يعني: "إخراج الأمر عن مقصده الذي وجد لأجله".

فالكفر يخرج الإنسان وحياته والمجتمع عن عبادة الله وإعمار الأرض وهما مقصدان أساسيان من وجود الحياة في حين أن الإيمان يعود بهم إلى عبوديته الله الاضطرارية والاختيارية .

فإخراج المخلوقات عن نسقها الذي وُضعت فيه وحرْفها عن مقصدها الذي تسير لتحقيقه هو من جوهر الإفساد المنهيّ عنه قال الله ـ تعالى ـ: "إن الله لا يحب عمل المفسدين"، وفي مقابل تضمُّن عملية الإصلاح استقرار المجتمع وديمومته ودوام حال من الأمن فقال ـ تعالى ـ: "وما كان ربك مهلك القرى وأهلها مصلحون"، وإذا أردنا أن نستنطق المفهوم العكسي للآية؛ لأدركنا أن الإفساد في الأرض سبب مباشر للهلاك والإهلاك.

وإصلاح ما أُفسد هو من مهام الرسل، وهو بالتالي من مهام من وراءه من علماء ومؤمنين.

"إن أُريد إلا الإصلاح ما استطعت".

وارتبطت دعوة الرسل بالتحذير من الإفساد:

"وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَد جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين".

وحذّر الله من الإعراض عن القرآن لأنه ـ أيْ المعرِض ـ سيكون مفسدًا في الأرض"فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".

ذلك أن التمسك بالقرآن يؤدي بالضرورة إلى صلاح الفرد في داخله، ومن ثم سريان هذا الصلاح في شكل سلوكيات ظاهرة تصلح ما حوله من أشياء وأفراد.

فالقرآن بما حواه من أوامر ونواهٍ وقصص وعبر يكفل بحالة متميزة من صلاح الفرد الداخلي، وحالة من الإصلاح المستمر في المجتمع، أيْ حالة متناسقة من النقد والبناء للوصول إلى أفضل الإمكانات من الحالات التي يستطيع المخلوق الوصول إليها، وتشمل حالة الإصلاح جوانب الحياة بإطلاق دون اقتصارها على جانب دون جانب أو مدخل دون مدخل.

وهنا يصل الإسلام بمعتنقيه إلى ما يشبه التعزيز الإيجابي المجتمعي جراء التزامهم بالدين في شكل مجتمع شبه مكتمل، تسوده حالة من روح النقد البناء ومعالجة الأخطاء.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية