اتسع منذ عام 1945 تحليل المنظمات اتساعا كبيرا، وتطورت مناهجه وطرائقه، كما انتشرت الدراسات المرتبطة بالمقاربة الوظيفية، وذلك من منظور أن الوظيفية La fonctionnalité تبرز كعلاقة بين المنظمة ومحيطها. وهي العلاقة ذاتها التي تترسخ أكثر في الأجواء الجماعية. ويحتل البحث المتعلق بالمنظمات 46 صفحة في الموسوعة الدولية الكبرى للسوسيولوجيا، المنشورة سنة 1968، ونجد فيها التعريف الآتي لمفهوم المنظمة حيث تنشأ هذه الأخيرة حينما تبرز الأصول الصريحة لتنسيق أنشطة مجموعة بذاتها؛ بغية تحقيق غايات محددة. ويرى موريس دوفيرجيه في كتابه "علم اجتماع السياسة" الصادر سنة 1991؛ أن ما نسميه أدوارا يرتبط "بالأصول الصريحة"، وترتيب الأدوار أوتنظيمها يرتبط بتنسيق هذه الأصول، أما "الغايات المحددة" لمجموعة معينة؛ فإنما تحدد ما نسميه "فئة من أعضاء الجماعة".
إن الحياة في الجماعة تجعل كل واحد منا داخل شبكة علاقات اجتماعية، والتي تترسخ في الحين في حياة الفرد. وهنا نجد أن منظمات العمل والمنظمات التطوعية تجسد وجودها داخل كل أنواع الشبكات: الأبوة، الجوار، الانتماء إلى الجيل نفسه؛ مما يساهم في ربط الأشخاص بعضهم ببعض، ومع ذلك تظل عدة ظواهر للقرب هي الدعامة المحركة لهذه الشبكات: الانتماء إلى المصلحة نفسها، استعمال وسائل النقل نفسها، المشاركة في الأنشطة الترفيهية نفسها، المعارضة الجماعية للفرد أوالمجموعة.. إلخ. وعلى هذا الأساس؛ فإن العديد من المنظمات التطوعية (النوادي الاجتماعية مثلا) تختلط علاقاتها الشبكاتية أو تكاد مع مجموع العلاقات التنظيمية السائدة و المؤثرة في الأنماط السلوكية للجماعات. مما ينتج عنه تأليف الأشكال المختلفة للفهم بين الأفراد، ووضع أسس رؤى معقدة وغنية للتنظيم عبر استعمال مبادئ و أبعاد النظرية التنظيمية La théorie organisationnelle . هذه الأخيرة تفرض على المسيرين ؛بحسب تنوع وتعدد المنظمات؛ أن يكونوا قادرين على إعطاء مفهوم واستعمال براديغمات متعددة للإدراك، وأخذ المعارف من أجل الوصول إلى تنوع كبير في القرارات كل يوم، وحسب كل حالة من الحالات؛ مما يجعل المنظمة على ضوء ذلك تتجلى على عدة مستويات، ومنها على سبيل المثال: بنية اجتماعية، بنية تقنية، بنية ثقافية، بنية فيزيقية، جزء من المحيط... ويمكن أن يتمحور تعريفها حول مفاهيـم المسائل المركزية أو المحاور الرئيسة لنموذج التنظيم؛ كالرقابة على التسيير، كيفية اتخاذ القرار، نماذج السلطة، إواليات السياسة وأيضا طرائق التغيير... وهنا؛ عندما تكون الأهداف والتكنولوجيات غير واضحة؛ فإن على المنظمات أن تكتشف إجراءات أخرى لاتخاذ القرار، والتي تسمح لها بالاشتغال دون خلق اضطراب في اختصاصات أعضائها أو تذبذب في سياقات مفهومها. ومع كل ذلك فإنه نادرا ما تحمل المنظمة غايتها في حد ذاتها، فهـي أداة للوصول إلى أهداف أخرى، وهو ما يتمثل من خلال كلمة "منظمة" Organisation التي تعود فـي أصلها الاشتقاقي اليوناني إلى كلمةOrganon، ومعناها أداة أو وسيلة؛ ومن ثم ليس بالغريب على هذا الصعيد من التحليل أن الأفكار المرتبطة بالمهام والأهداف والغايات تصبح مفاهيم جد رئيسة للمنظمة.
إن الوسائل والأدوات تعتبر عبر ذلك ؛ووفق منطق آلي؛ ترتيبات ميكانيكية تتكشف وتتطور لتسهيل عملية اكتمال الأنشطة الموجهة نحو هدف خاص، تصبو إليه أية منظمة من المنظمات. هذا على مستوى تحديد مفهوم "المنظمة" بشكل عام، فماذا عن "المنظمة غير الحكومية"؟ يرى جل الكتاب؛ كما هو الشأن بالنسبة للفاعلين أنفسهم؛ أن عبارة منظمة غير حكومية تشير إلى جملة غير متجانسة وغير متراصة مـن المنظمات. إن استحالة تكوين تعريف مشترك وضعف ملاءمة التصنيفات المقترحة، زد علـى ذلك عدد التسميات التي يتم الاحتفاظ بها من أجل الإشارة إلى هذا الكم الغامض، كل هذا يشهد على التنوع سواء أالتنظيمي أم الإجرائي للوسط، ولا يتعلق الأمر بأي حال من الأحوال باقتراح عدد لايحصى من التعاريف للمنظمات غير الحكومية، ولا أيضا بتصنيف جديد، فبالمقابل؛ من المهم فوق كل هذيـن الانشغالين مماثلة بعض الأسس المشتركة المفسرة والوصفية لظهور المنظمات غير الحكومية في سياق من السياقات التي تشتغل فيها. وإذا كان عالم الاجتماع يفحص بناء المجتمع البشري ويوضح العلاقة بين الجماعات الاجتماعية بمختلف أوضاعها وسلوكها وأنماط تفكيرها؛ فإن معنى هذا أنه من الضروري تحديد المقصود بالمنظمة غير الحكومية، وكيف يمكن تمييزها – كمصطلح – وتوضيح طبيعتهـا وخصائصها وتصنيفها. عرفت هذه المنظمات التي تعتبر إحدى ظواهر الحضارة الغربية تطورا متواصلا منذ الثورة الصناعية، وتضاعفت أكثر منذ الحرب العالمية الثانية. ولقد كانت في أصلها ذات طابع وطني (جمعيات، نواد، نقابات) ثم أصبحت مشتركة ما بين عدة دول بفضل التطور الحاصل في المواصلات، وهي جد مختلفة تقوم بأنشطة ومصالح جد متباينة، فبعضها منظمات مختصة أو عالمية (رجال التعليم، الأطباء، المهندسون، رجال القضاء، الصحافيون..) والبعض الآخر جماهيرية (النقابات، المنظمات النسوية حركات الشباب والطلبة والمستهلكون...) أومنظمات عقائدية ( المؤتمر اليهودي العالمي، المؤتمـر العالمي الإسلامي) وهو التصنيف الذي يؤكد عليه الباحث المغربي محمد شرايمي. وإبان سنوات الثمانينات وعقب الإفلاس المؤسساتي والاقتصادي للدول التي تقوت بإرساء دعائم السياسات ذات الإيحاءات الليبرالية، تم تسليط الأضواء على سلسلة من المشاريع " البديلة "، التي قامت بها العديد من المنظمات غير الحكومية. وتبرز مسألة تقييم هذه المشاريع الصغرى " التشاركية" و"التضامنية" مدى الصدى الإيجابي الذي اكتسبته المنظمات غير الحكومية لدى شريحة عريضة مـن العموم بالمقارنة مع الفاعلين التقليديين للتعاون.
وعموما؛ ونظرا لاختلاف المنظمات غير الحكوميـة وتنوعها وتشعبهـا؛ يصعب إعطاء تحديد واضح مناسب لها جميعا، وهي في تركيبها من الأفراد أو جمعيات الأفراد أو جمعيات للجماعات، تشكل مؤسسات يمكن أن تكون متعددة الجنسيات قائمة الذات بدون هدف مادي، مستقلة عن الحكومات، لها مواردها الخاصة المستمدة من أعضائها، لكنها تتوصل أحيانا وبشروط معينــة بمنح مخصصة من لدن الحكومات أو المنظمات المتعددة الحكومات أومن المؤسسات الإحسانية. إن المنظمات غير الحكومية المتعارف عليها عموما لها بنية مؤسسية ذات شكل محدد، ورغم أن غالبية تعريفات المنظمات غير الحكومية تؤكد صفتها التطوعية وغير الحكومية، فإن عددا من المهتمين لاحظوا صعوبة وضع خط فاصل يميز بين الصفة الحكومية وغير الحكومية؛ لأن هذه المنظمات لا تخفي اعتمادها على التمويل الرسمي، كما لا يجب أن يخفى أن العديد من المنظمات غير الحكومية أنشئت بمبادرات خاصة من الدولة في إطار نوع من التبعية، وأصبحت تدور في فلكها، وأخذت تسعى إلى تحقيق أهدافها الصريحة والضمنية. ومع ذلك فيمكن إعطاء هذه المنظمات تعريفا جد سلبي من هذه الناحية، فهي منظمات لا تنتسب إلى هياكل الدولة سواء أمن حيث المعايير الداخلية على مستوى تنظيمها أم المعايير الخارجية على مستوى وظائفها. ومن منطلق هذا التواجد تعتبر المنظمات غير الحكومية تكتلا من الأشخاص ماديا ومعنويا، مستقلا -بصرف النظر عن تبعية بعضها، التي تبدو في غالب الأحيان تبعية غير بريئة-، خاصا، مهيكلا، ومصرحا به ومقبولا قانونيا، له هدف غير نفعي وتوجه إنساني يمارس بشكل احترافي مستمر أنشطة ذات ميزة إحسانية – سوسيو اقتصادية، سوسيو- تربوية، ثقافية على شكل تأدية خدمـات بقصد التنمية البشرية المستدامة، للترقية الذاتية، للتوحد، وكذا لحماية البيئة، إنها تمارس أنشطة تبعا لمبــدأ التطوع مع التجرد من أي تمييز عنصري وديني وانتماء سياسي، إنها تتصرف بمواردها البشريـة والمادية والمالية من أجل تدخلاته، وضمان نجاعتها وفعالياتها. كما أن المنظمات غير الحكومية توفر أساسا أجهزة للتبادل والتنسيق ما بين منخرطيها؛ حيث تتكفـل بحماية وتحسين ظروف حقل نشاط أفرادها وتقوم بدور الحبل الرابط والخيط الناظم بين اتجاهين؛ ما بين الرأي العام والدوائر الحكومية.
أما هياكلها فتشبه الهياكل التسييرية للمنظمات الدولية، إذ تحتوي على مجالس مكلفة بالتداول والتشاور (جمع عام، مكتب) وعلى آليات للمصادقة، ثم أجهزة للتنفيذ. والمنظمات غير الحكومية تختص بنظامها الأساسي – غير الحكومي – وأيضا بالاتجاه الذي تحدد فيه كل مرجعياتها، سياستها ومناهج تدخلها، وهي جماعية كونها لا تختص بشخص بعينه، وتتعاطى كهدف لها للرفع من مستوى عيش السكان والجماعات، والتمكين من أسس التنمية البشرية المستدامة. الملاحظ أنه في السنوات الأخيرة؛ ونظرا لهذا الدور الريادي الذي ما فتئت تقوم به المنظمات غيـر الحكومية فهناك سعي حثيث لتطوير سياسة دعم هذه المنظمات، كما عملت التيارات الكبرى – الفكرية منها أساسا- على تقوية الحوار والمفهوم البالغ السعة للتعاون غير الحكومي لمجموع الأنشطة التي قام بها المجتمع المدني، من منطلق إرادة دعم أنشطة المنظمات غير الحكومية عموما لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية. وبذلك فتواجد المنظمات غير الحكومية لا يكتسب أهمية فقط من خلال عددها المتزايد، ولكن أيضا وخصوصا من خلال تطويرها لأفكار تشكل قاطرة المجتمع المدني من قبيل الديمقراطية والحكامة.
إن المصطلح الذي أطلق مؤخرا على المنظمات غير الحكومية يبرز أهميتها من حيث تميزها واستقلالها، وهو مصطلح القطاع الثالث Tiers secteur الذي يفترض أن يمثل التنظيمات الاجتماعية أو الاقتصادية أوالسياسية والثقافية في المجتمع، والتي لا تندرج تحت مؤسسات وأجهزة القطاعات الحكوميـة ومؤسسات الدولة باعتبارها تمثل القطاع الأول، وكذلك لاتندرج تحت القطاع الخاص، الذي يعمل لتحقيق الأرباح ليطلق عليه اسم القطاع الثاني. غير أن القانون المغربي لم يشر في ظهير 15 نونبر 1958 المتعلق بالحريات العامة والتعديلات الأخرى اللاحقة به إلى عبارة أو مصطلح "منظمة غير حكومية "، الشيء الذي سيجعلنا عند معالجة تعريف الجمعية كمنظمة غـير حكومية إلى اعتبار هذه الأخيرة مؤسسة جمعويةInstitution associative ، علما أن لها صفـات مشتركة مع المؤسسةFondation باعتبارها هي العقد الذي به يقرر شخص أو عدة أشخاص ماديـا ومعنويا وقف المنافع أومصادر تحقيق عمل ذي منفعة عامة وله هدف غير ربحي في ميادين متنوعـة: العمل الاجتماعي والفعل الثقافي، حماية الموروث المشترك أو البيئة... وتشكل المؤسسات والجمعيات أشخاصا من القانون الخاص يستطيعون أن يتجمعوا لإشباع حاجة المنفعة العامة.
فعندما تعرف مثلا جمعية بمنفعتها العامة تتماثل قدرتها على استقبال العطايا مع تلك التي لدى المؤسسة، لكن بنية الجمعيات مفتوحة، وهي تمول بالحصص المحصلة من لدن أعضائها، وبالمقابل ليس للمؤسسة أعضاء ولا يمكن أن ننخرط فيها، وهي غير مراقبة من لدن جمع عام، ولكنها تسير بواسطة مجلس للإدارة، فهي لا تعرف حصصا محصلة من قبل الأعضاء ولكنها تتصـرف بتخصيصات قانونية. فالمؤسسات هي تنظيمات مستقلة، ويمكن تمييزها على مستوى قانون الجمعيات عن المؤسسات الإحسانية أو الخيرية التي تستمد عموما مواردها من الهبات والأوقاف أو جمع التبرعات المنظمة بطرق قانونية شتى، ومنها التماس الإحسان العمومي.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن المنظمات الموجهة نحو المرافق كجمعيات الماء الصالح للشرب، أو نحو المصالح كالجمعيات السقوية، أو نحو الإنتاج كالجمعيات الرعوية، لا يمكن إطلاقا استبعادها من دائرة المنظمات غير الحكومية، فهي بكل بساطة غير حكومية، خاصة أنها جزء لا محيد عنه، من ازدهار الأشكال المؤسساتية التي تتوسل بها بشكل أساسي المنظمات غير الحكومية من أجل إضفاء الأبعاد العامة عليها. ودائما على مستوى تعريف الجمعية من زاوية "المنظمة غير الحكومية"، يرى البعض أن هذه الأخيرة لا تتعلق بجمعية واحدة في حد ذاتها، وإنما هي عدة فروع لهذه الجمعية، وتنتشر في بقاع مختلفة داخل البلد الواحد أو خارجه، إذ تربط فيما بين الفروع والأصول قوانين وأهداف موحدة، وتحمل الاسم نفسه وتتخذ القرارات الحاسمة على مستوى الجمعية القاعدية. ويلاحظ من خلال هذا بأن مجال فعل الجمعيات التي يمكن أن تدخل ضمن المنظمات غير الحكومية واسع جدا، إذ لايوجد تشريع قانوني خاص يشير بوضوح إلى هذه العبارة "المنظمات غير الحكومية"، إما أن يميزها أو يجعلها في الخانة نفسها مع الجمعية، وبالتالي يمكن استعمال كلا المفهومين من حيث أن دلالتهما واحدة؛ لا من حيث التداول بالنسبة للمنظمات غير الحكومية، ولا بالنسبة لقوة القانون بالنسبة للجمعيات. وعلى هذا الأساس تبرز حالة التماهي Identification بين التنظيمين، سواء أمن حيث الشكل (المؤسسة) أم من حيث الوظيفة ( تحقيق المصلحة العامة).
التدقيق اللغوي: أبوهاشم حميد نجاحي