ما استقرّت الحياة على جوديِّها ولا استقامتْ على جادّتها إلا في كنف ميزان ذي كفتين
متوازيتين، وما أصابها الخلل ولا اعتورها الخراب إلا بحيف إحدى تلكما الكفتين
والخسف بالأخرى، بل إن ذلك الميزان الحياتي المقصود هو أقدم الموازين وألزمها
قاطبة...ولم لا؟! وقد سوّاه واهب الحياة الذي هو-سبحانه-أعلم بها وأخبَر بما
يُصلحها ويُقوّمها.
ميزان الحياة الذي أَرْستْه الشرائع السماويّة وأَقرَّتْه القوانين الأرضيّة وتعارف عليه
البشر مِن بدو وحضَر وعرب وعجم، قائم على ثنائية الحقّ والواجب، ولو فتَّشت عن
كلِّ خلل في جنبات الحياة المترامية ما وجدت إلا غياب أحد طرفي تلك المعادلة أو طمس
أيّ من وجهيها؛ فما رسب طالبٌ إلا لأنّه طلب النجاح ولم يعطه حقّه من العرق والسهر،
وما خسر تاجرٌ إلا لأنه انتظر ربحا لم يدفع ثمنه من الصِّدق والأمانة، وما فشل حاكمٌ
إلا لأنّه نشد الرّفعة والسيادة دون أن يوفّيها حقّها من التواضع وخدمة الرعيّة،
وما ولج أحدٌ النار إلا لأنه أسرف في المعاصي وتمنّى على الله الأماني.
في طرقات الحياة ودروبها، تلتقي بأناس يضجّون بالشكوى وترتفع عقيرتهم بالصراخ مُعدِّدين
حقوقهم التي هُضِمَت وامتيازاتهم التي صُودِرت، بينما يُطأطؤون الرؤوس ويَصمتون
صمت القبور عند مطالبتهم بواجباتهم التي قصَّروا في أدائها والتزاماتهم التي
أخلّوا بها، فكانوا كالطامعين المتواكلين الذين يسيرون في الحياة سير الأعور
والأعرج ثم ينقمون عليها حرمانهم من نصف الرؤية وشطر الخطوة، وهم في ذلك أصدق مثل
وأنصع وصف لقول الإمام علي رضي الله عنه: "الحقّ أوسع الأشياء عند التواصُف
وأضيقها عند التناصُف".
جذور الحقّ والواجب واحدة وكأنهما فلْقتان لحبة فول أو وجهان لذات الثوب، فحقِّي هو
واجب على غيري وواجبك هو حقّ لغيرك، وقد أكَّد الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي على
تلازُم الحقّ والواجب كشرط من شروط النهضة التي قعّد لها في أطروحاته الفكرية، كما
حرص علماء القانون والاجتماع على تأكيد ذلك حين أردفوا الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان الصادر في منتصف القرن العشرين بما يكمِّله ويتمِّمه من الإعلان العالمي
لواجبات الإنسان وذلك في نهاية القرن ذاته.
من الحصافة أن ندرك بأنّ بذل الواجبات هو أفصح محام وأعدل قاض وأمضى سلاح لنيل الحقوق
على مستوى الدوائر الخمس التي يدور في فلكها الفرد على مدار الساعة (الدين، الذات،
الأسرة، الأمّة، الإنسانيّة)، وما سواه لايعدو قعقعة بلا جيش وجعجعة بلا طحن، فما
نهضتْ الأمم من كبواتها ولا برأتْ الشعوب من نكباتها إلا بعد أن علا صوت الواجب،
حتى عَدّت دولةٌ كاليابان مَن يتخلّف عن الوفاء بواجبه الاجتماعي خائنا يستحق أقصى
العقوبة.
قد يتحسّر واقعنا المُعاش فيجأر قائلا: ها نحن نُعطِي ولا نأخُذ ونبذل الواجب ولا
نظفر بالحقّ ونَمنَح ما علينا ونُمنَع ما لنا، وليس في ذلك مُجانبة للحقيقة ولا
غيابا للميزان، ولكنّها الحياة التي صارتْ غابة، وللغابة ميزان يُغاير ميزان
الحياة، فإذا جاز أن تكون العُملة ذو وجه واحد، فما جاز للحياة أن تكون بلا ميزان
ولا جاز للحقّ أن ينفصم عن الواجب.
تدقيق: لجين قطب.