من قال إن السعادة في الأخذ؟ ونحن نقرأ كل يوم (اليد العليا خير من اليد السفلى)، ولكننا نتعامل مع الله بتجربة لا بيقين، فلو تعاملنا معه بيقين لأكرمنا بما نريد وفوق ما نريد..

العطاء يفوق الأخذ لذة وإن بدا لك العكس، وما تزرعه ستحصده قريباً، سأل صلى الله عليه وسلم زوجه عائشة وقد ذبحوا شاة، ما بقي منها؟

فقال: لم يبق منها إلا الكتف، فقال مصححاً المعنى:( كلها لنا إلا الكتف)، وسبقت يد أو رجل أحد الصحابه صاحبها إلى الجنة، لأنه أعطى بصدق فما خاب مسعاه، وأعطى احتساباً للأجر لا طلباً للأجرة، وهذا هو مفهوم العمل التطوعي، العطاء من غير انتظار أجر أو شكر.

 

جاء أبو نصر الصياد إلى أحد التابعين ويدعى أحمد بن مسكين، وبدت على وجه الرجل أحزان وهموم، فسأله ابن مسكين ما بك؟ فأجابه: جائع أنا وزوجتي وطفلي لا نجد ما نأكل، فقال له: اتبعني إلى البحر، فتبعه، وطلب منه أن يصلي ركعتين فصلى، ثم قال له: قل بسم الله وارم شباكك، وبالفعل رمى الشباك فصاد سمكة عظيمة، قال ابن مسكين: خذها وبعها واشتر بها طعاما لك ولأهلك، فباعها أبو نصر واشترى بثمنها فطيرتين إحداهما باللحم، والأخرى بالحلوى، ثم جاء إلى ابن مسكين ليطعمه منهما، فأجابه ابن مسكين: خذها لأهلك (فلو أكلنا منها لما خرجت السمكة)، خذها لك ولعيالك، أي أن الشيخ يفعل الخير لله تعالى فقط، ورجع أبو نصر الصياد وفي الطريق وجد امرأة وابنها يبكيان جوعاً فسألها عن حالها، وواقع الحال أصدق من لسان المقال، وقال في نفسه إن هذه المرأة بها من الجوع ما رأيت أنا وابني وزوجتي، فقرر أن يدفع إليها الرقاقتين، فابتهجت المرأة وفرح الولد بالرقاقة، ومضى أبو نصر والهم يأكله كيف سيطعم أهله، وبينما هو في طريقه سمع مناديا ينادي أين أبو نصر الصياد، حتى وقف عليه، فقال يا هذا: إن أباك قد أقرضني مالاً منذ عشرين سنة، فما عرفت إليه طريقاً لأعيد ماله إليه، فخذ يا بني هذه ثلاثين ألف دينار، قال أبو نصر فأصبحت ذا مال كثير وصرت أتصدق بالألف دينار وأكثر حتى أعجبتني نفسي، وفي ليلة من الليالي رأيت في المنام أن الميزان قد وضع وينادي مناد يا أبا نصر الصياد هلم لوزن حسناتك وسيئاتك، فوضعت حسناتي ووضعت سيئاتي، فرجحت السيئات فقلت أين الأموال التي تصدقت بها ؟ فوضعت الأموال، فإذا تحت كل ألف درهم شهوة نفس أو إعجاب بنفس كأنها لفافة من القطن لا تساوي شيئاً، ورجحت السيئات وبكيت وقلت ما النجاة؟ وأسمع المنادي يقول هل بقي له من شيء ؟ فأسمع الملك يقول: نعم بقيت له رقاقتان فتوضع الرقاقتان (الفطيرتان) في كفة الحسنات فتهبط كفة الحسنات حتى تساوت مع كفة السيئات. فخفت وأسمع المنادي يقول: هل بقي له من شيء؟ فأسمع الملك يقول: بقي له شيء فقلت: ما هو؟ فقيل له: دموع المرأة حين أعطيتها الرقاقتين فوضعت الدموع فإذا بها كحجر فثقلت كفة الحسنات، ففرحت فأسمع المنادي يقول: هل بقي له من شيء؟ فقيل: نعم ابتسامة الطفل الصغير حين أعطيت له الرقاقتان وترجح وترجح وترجح كفة الحسنات وأسمع المنادي يقول: لقد نجا لقد نجا فاستيقظت من النوم فزعا أقول: (لو أطعمنا أنفسنا هذا لما خرجت السمكة). ولابن القيم كلام جميل في هذا الصدد يحث الناس فيه على الصدقة فيقول إن المتصدق أحوج إلى الصدقة من الفقير المحتاج الآخذ لها، لأنه إن أعطى بصدق فستقع صدقته بيد الله تعالى لا بيد الفقير فحسب، وإن أنت أعطيت من وقتك أو من جهدك أو من مالك أو من جاهك لأخيك لوجه الله لا تبتغي بها غير ذلك كم ستشعر بالسعادة، يعرف المجربون قيمة ذلك بلا شك، ومن يتعاملون مع الحياة بالمواقف لا بالحسابات وباليقين لا بالتجربة.. من هنا جاءت قيمة العمل التطوعي على أنها قيمة إضافية للمرء المتطوّع وللجهة التي يقدم لها جهوده، على أن شكر الناس من شكر الله.

ففي الحديث "لا يشكر الله من لا يشكر الناس".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية