غاب عني صديقي زمنا، فسألته عن غيابه بمكالمة هاتفية قصيرة، فقال: ليس لدي وقت.. وسألت آخر -وكان رساما مبدعا- لم لا تنشر؟ فقال: ليس لدي وقت، وسألت زميلا لي في العمل: هل تمارس الرياضة؟ فقال: ليس لدي وقت..

وكنا نحفظ في دروس التعبير: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ولا نعي معناها تماما، ونقرأ أيضا: الوقت من ذهب، ومع ذلك نشعر بالملل.. وسألت نفسي مجددا: لمن الوقت إذا؟ وكيف يتم القبض على الساعات والدقائق بالأصابع قبل نفادها؟

ذلك الوعاء المملوء بكل شيء، ولكن هل يتم استغلاله؟

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، ويقول في موضع آخر: (اغتنم خمسا قبل خمس: ... وفراغك قبل شغلك).

وفي حديث آخر: (وعن عمره فيما أفناه).

ولولا عظم الزمان ما أقسم به الحي القيوم (والعصر): العصر/1، (والفجر): الفجر/1 (والضحى): الضحى/1، (والليل إذا يغشى) الليل/1، هل كان الزمان في الماضي أكثر بساعاته منه اليوم؟

في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات‏:‏ ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان‏) (رواه البخاري). وذلك أن العرب في الجاهلية حاولوا تغيير الأشهر تبعا لمصالحهم، فغيروا مواقيت الحج عن طريق النسيء وهو التأخير؛ فزادوا في السنة شهرا( إنما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) التوبة/37 فكان الحج لديهم مرة يأتي في رجب ومرة في صفر ومرة في محرم،  وهكذا حتى كانت حجة الوداع فجاء الحج في ذي الحجة.. واستقام سير الزمن من جديد..

فلم نجد أن يوم الاثنين سبق يوم الأحد، ولا السبت تأخر عن موعده، ولا الثلاثاء جاء بعد يوم الجمعة مباشرة..

إذا فلا نتحجج بأن ليس لدينا وقت، فكل المبدعين والمفكرين والملهمين والفنانين والأنبياء لديهم 24 ساعة فقط، ولكنهم أحسنوا استخدامها فيما ينفعهم..

ولا يختلف الوقت بساعاته بين الناس، ولكن بطريقة استغلاله، بالإضافة إلى ظروف كل منا، فالوقت يطول مع الأحزان والهموم والمشكلات، ويقصر مع السرور والفرح.. فهل هذا الماء الذي يملأ الوعاء يتمدد؟ كلا ولكن حسب الحالة النفسية:

إن الليالي للأنام مناهلٌ = تُطوى وتُبسط بينها الأعمارُ

فقصارهنّ مع الهموم طويلةٌ = وطوالهنّ مع السرور قصارُ

فالكلام إن دققت النظر فيه تجده غير صحيح، فلو سررت يوما كاملا 12ساعة، وفي اليوم الثاني حَزَبك أمر فحزنت له الوقت نفسه؛ فأيهما أطول؟ أليست12=12 في الرياضيات؟

ولكن الشاعر قدّر الأثر وليس المدة الزمنية فقط.

فإذا غبت عن أهلك ومحبّيك سنة كاملة، ثم زرتهم بعد شوق مضنٍ؛ هل تحتاج سنة كاملة لكي تروي شوقك لهم؟ يكفي أسبوع إلى عشرة أيام كحد أقصى.

وعندما تعمل في مهنة لا تحبها، يمر عليك النهار ببطء وثقل، وتسير الساعة بتثاقل وهي تتمطى بعقاربها، ولكن إن أشغلت نفسك بما تحب، فسيمرُّ الوقت دون النظر إلى ساعة يدك بسرعة مذهلة، والساعات التي قضيتها في الاستمتاع بعملك، هي نفسها التي عانيت بطأها وثقلها على نفسك.

فامرؤ القيس يشكو من الليل المثقل بالهموم قائلا:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي = بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ

هل زاد طول الليل عن المعتاد؟ لا.. أبدا، ولكن نفس الشاعر متأزّمة وقلقة؛ فهو يرقب الصباح بشغف، وكذا المعري حينما يخاطب ليلته:

ليلتي هذي عروس من الزنــــ (م) ــــج عليها قلائد من جمانِ

هرب النوم عن جفوني فيها  = هرب الأمن عن فؤاد الجبانِ

فليله لا يقل حزنا عن ليل سابقه، والشعراء لديهم حساسية خاصة تجاه الزمن فيتلاعبون بالمفردات والصور الفنية ليصوروا الليل بالألوان التي تروق لهم.

صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الفجر في المدينة المنورة، فلما انفتل من صلاته رأى رجلا متنكبا قوسه، فسأله: من الرجل؟ فقال من تميم. فقال من؟ فأجاب صاحب القوس: متمّم بن نويرة، فعرفه وسأله عن أبيات قالها في فراق أخيه مالك بن نويرة، وقد قُتل أخوه في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان سيدا في بني تميم، وكان ممّن ارتدوا وامتنعوا عن دفع الزكاة؛ فقال الرجل:

وكنا كندماني جذيمةَ حقبةً = من الدهر حتى قيل لن نتصدعا

فلمّا تفرقنا كأني ومالكا    =   لطول اجتماعٍ لم نبت ليلة معا

فأعجب عمر بمقالته، وتمنى أن يقول مثلها في أخيه زيد بن الخطاب.. وكان لجذيمة الأبرش نُدمان (جمع نديم) في الشراب قرّبهم وخلع عليهم من الأموال الكثير والكثير، فمع أنه عاش مع أخيه مالكٍ طويلا، إلا أنه بعد مقتله كأنما جلسا معا لساعات فقط.

والنائم لا يدري كم من الساعات نام، فإن أيقظته قال لك: لم أنم إلا قليلا، لأنه يفقد الإحساس بالزمن.. (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) الكهف/119 وقد ناموا أكثر من ثلاثمئة سنة، (قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادّين) المؤمنون/113، وقال تعالى في معرض الحديث عن عزيز( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ  قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ  قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) البقرة/259

وعندما تنتظر قادما لا تصدق أن عقارب الساعة تسير؛ لأنك متلهّف لرؤيته:

لا تعذل المشتاق في أشواقه = حتى يكون حشاك في أحشائهِ (المتنبي)

وأخيرا.. أقول هذا الوعاء المسمى بالزمن إن لم تملأه بما ينفعك فلن ينتظرك، وانظر إلى روزنامة العام 2017 كم بقي منها؟ وانظر أين أنت؟ وماذا تريد؟

 

التدقيق اللغوي لهذه المقالة: حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية