كثيرًا ما نسمع عن أنصاف الحلول، وأنصاف الرجال، وأنصاف العقول، وأنصاف المتعلمين وسواها من أين جاءت تلك التسمية؟ لقد جاءت من التلكؤ في إتمام أي مهمة وقبل نضوج أي ثمرة فتجد عدداً من الناس يقول لك: قرأت نصف كتاب وتركته، وآخر يقول لك: سرت إلى مقابلة في فرصة وظيفية بشركة محترمة وفي نصف الطريق رجعت، وآخر يقول لك: ذهبت للاعتذار من صديق عزيز وفي نصف الطريق عدلت عن رأيي وقلت أتواصل معه من خلال الوتساب، ولم يحصل شيء من ذلك، وآخر يقول لك: دائما أصلي مع جماعة المسجد خلف الإمام ولكنني ألتحق بهم وقد مضى نصف الصلاة، إنه متأخر إلى حد النصف، وقد فاته الكثير وأولها تكبيرة الإحرام، وقول آخر درست السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية وقبل الامتحان النصفي قررت أن أؤجل الموضوع، وكيف حالك يا فلان؟ يجيب: نصف ونصف، ويمدح أحدهم علاجاً ما ولكن يقول أخذت نصفه وشعرت بالتحسن وتركت باقي الدواء رغم أن الطبيب كتب لي أخذه طيلة أسبوع كامل. وآخر يقول لك درست في معهد لتعلم اللغة الإنجليزية وقبل الاختبار انسحبت ويصطنع عذراً واهياً حال دون إكمال الامتحان والبدء بمستوى جديد من عملية التعلم. وهذه تسمى القناعة الزائفة أو التقاعد المبكر عن الأداء. وهي أقرب ما تكون إلى الطبيب الذي لم يتخصص بل أفنى عدة سنوات من عمره في الطب العام ومن ثم اختار أيسر الطرق فصار طبيباً عاماً ولم يدخل حيز التخصص لينفع نفسه وينفع مرضاه.
كل ما سبق تحقق منه 50 بالمئة فقط، وأما الخمسون الأخرى فتنتظر على لغة من لا ينتظر عودة الحرف المحذوف(وهذه من حيل النحاة في التعامل مع المنادى في إعرابه)، كم بقي لهؤلاء كي يقطعوا المسافة كاملة، ويختصروا الطريق كله بمشي النصف الأخير منه فقط؟
برأيكم هل هذه الخمسون بالمئة توصل للنهاية؟ بالتأكيد لا توصل وإنما هناك خمسون أخرى غائبة..تصور معي لو أن نصف سكان الكرة الأرضية يعملون، والنصف الآخر ينامون فقط وهم عالة على النصف العامل كم ستهدر من ثروات وطاقات وكفاءات وكوادر، وكم ستضيع أهداف وطموحات، وكم ستتعطل مصالح؟ وكم ستهدد التنمية ويحل القحط والجفاف والمجاعة والكسل والبطالة والترهل في المجتمعات.
وما ينفع صيام نصف يوم في رمضان إلا إن كان تدريباً للصغار على الإمساك عن الطعام والشراب استعداداً للصيام في الأيام اللاحقة؟
ونصف الدرجات في المدرسة يعني النجاح بسلام دون أي مزية أخرى وهذا يعني أنك تسير في المسافة الهامشية العريضة كسائر الناس دون أن تحقق هدفاً أو تبلغ غاية.
كذلك هذه الأنصاف يجب أن تكمل وإلا لا فائدة من القيام بالنصف الأول فقط، فأول ما يدب الحماس في شخص أقدم على مشروع ما تراه نشيطاً ومتحمسا ثم تخبو شعلة نشاطه رويداً رويداً، لأنه لم يكمل النصف، وكم تكمن الحلول خلف النصف الثاني، وكم يخسر الكثيرون ممن لم يبق بينه وبين النجاح سوى شبر أو أقل.
وتذكر ما قالت هيلين كيلر: الحياة إما مغامرة وإما فلا، وهنا لا بد أن تكمل النصف الآخر وإلا فأنت لم تصنع شيئاً قطّ.
إذا قرأت نصف هذا المقال فربما استنتجت ما أعنيه وإن قرأته كله فأنت أتممت النصف الآخر منه وأيدتني فيما ذهبت إليه بكل تأكيد.
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** ولم تبق إلا صورة اللحم والدمِ
أرأيت كيف تصنع الأنصاف معجزاتٍ شتى، فلا تمش نصف الطريق لأنك لن تصل إلى نهايته ليس لأن الطريق طويل فحسب، ولكن لأنك ركنت إلى الكسل والدعة وآثرت التسويف، وأما قولك: نصف رغيف خير من لا شيء فهذا في حال أوشكت على الموت جوعاً أما ألا تزيد أي شيء على نصف ما حققته منه، فأنت تعيق نصف سعادتك ونصف أهدافك ولا أبالغ إن قلت لك إنك لا تستخدم إلا نصف مهاراتك وقدراتك..